انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 133/للتاريخ السياسي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 133/للتاريخ السياسي

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 01 - 1936



عشرة أيام بئيسة مشروع

لافال - هور والرأي العام دواعي هذه الخطة الوخيمة العواقب

للدكتور يوسف هيكل

بقية ما نشر في العدد الماضي

موقف كل من الإمبراطور وموسوليني:

في 16 ديسمبر أبدت الحكومة في ديسي رأيها في اقتراح باريس، وهي تعتبر أن إعطاء إيطاليا المعتدية قسماً من الحبشة يكون مشجعاً لها أن تعمل على اكتساح الحبشة مرة ثالثة، وأن الاقتراح القائل بإعطاء إيطاليا امتيازاً اقتصادياً في جزء كبير من الحبشة لأشد ضرراً من الانتداب، وأن حكومة الإمبراطور موقنة بأن مجلس العصبة سوف يرفض الاقتراح عند اجتماعه في 18 من ديسمبر.

وبهذا التصريح أظهر الإمبراطور مهارة دبلوماسية لا تقل عن مهارة كبار السياسيين اليوم. إذ رفض (الاتفاق) بصورة غير مباشرة؛ ووضع عصبة الأمم أمام حقائق قانونية لا يمكن أن تحيد عنها دون أن تحيد عن مبدئها الأساسي.

وقد أجاب الإمبراطور أحد الصحفيين عند ما سأله رأيه في (الاتفاق) قائلاً: (إن جنودي لم تقهر بعد)!.

أما السنيور موسوليني فقد أخذ يماطل في الإجابة. لقد طلب من باريس ولندن إيضاحاً عن بعض النقط في (الاقتراح) وأجل الجواب إلى ما بعد انعقاد المجلس الفاشستي الكبير في 20 ديسمبر.

وفي خلال ذلك أخذت الصحافة الإيطالية تعلن أن (الاقتراح) لا يسد حاجة إيطاليا!. . . .

اختط موسوليني هذه السياسة اعتقاداً منه بأنه يستطيع بذلك أن ينال زيادة على ما جاء في (الاقتراح). وقد فقد بذلك بعض أصدقائه في فرنسا، وأخذ كثير من الصحافيين الذين كانوا يمجدون اسمه ويدافعون عنه ينتقدون سياسته ويلقون عليه تبعة الأزمة الدبلوماسية الحالية.

ولما رأى موسوليني أن الرأي العام العالمي ضد الاقتراح وضد أي اعتراف له بحق الحبشة، عاد إلى سياسته الكلامية التهديدية، فألقى خطاباً في يوم الأربعاء الموافق 18 ديسمبر وصرح فيه بأن إيطاليا ستستمر في سياستها الحبشية إلى أن تخرج منها ظافرة.

ومما جاء في قرار المجلس الفاشستي الأكبر الذي انتهى انعقاده صباح السبت الموافق 21 ديسمبر: إن المجلس يثبت بأن عمل إيطاليا سيستمر، وأن القرار لقاطع للوصول إلى الهدف الذي اختطه الدوتشي.

ولما رأى موسوليني إن مجلس النواب في لندن قد رفض (الاقتراح) وأن جمعية الأمم لم تقبله، طلب من سفيريه في باريس ولندن إخبار الحكومتين بأن روما سوف لا ترسل جواباً على (اتفاق باريس) نظراً لموته.

الأسباب الحقيقية التي دعت مسيو لافال إلى وضع

(المشروع):

منذ أن وضع مسيو لافال يده على زمام سياسة فرنسا الخارجية بعد وفاة مسيو برتو في فاجعة مرسيليا وهو يتبع سياسة مسيو (دلكاسيه) المؤدية إلى حصر ألمانيا.

لهذا قام بتصفية الخلاف مع إيطاليا، وبعقد معاهدة مع الروسيا، وقد حاول أن يحتفظ بصداقة بريطانيا ولكن دون أن يثق بها كل الوثوق؛ ويمكن القول بأن هذه المحاولة كانت ظاهرية، إذ أن لافال يكن ضغينة في نفسه لحكومة لندن، وذلك من جراء عقدها المعاهدة البحرية مع برلين دون أخذ رأي باريس في ذلك.

ومن المؤكد أن لافال قد أكد لموسوليني بأنه سوف لا يقف ضد مناهجه في شرق أفريقيا، وأن السياسة التي اتبعها لافال في المسألة الحبشية تثبت لنا ذلك.

لقد حاول لافال قبل إعلان الحرب أن يتوصل إلى إقطاع موسوليني امتيازات كبيرة في الحبشة عن طريق سلمية ففشل في ذلك. ثم أخذ يحاول تخفيف شدة العقوبات الاقتصادية التي وضعتها العصبة على إيطاليا فأخفق سعيه. وأخيراً بذل جهده في تأجيل عقوبة البترول فوفق؛ ولما رأى أنه لا يستطيع تأجيلها مرة ثانية وان لجنة العصبة ستبحثها في الاجتماع الذي حدد لها وذلك في 12 ديسمبر، وضع (المشروع) وورط هور في توقيعه؛ وذلك بإظهاره له أن إيطاليا ستعتبر حظر البترول عملاً حربيا وتهاجم البواخر الإنكليزية.

وإذ ذاك تتحول الحرب إلى حرب إيطالية إنكليزية فقط. إذ أن فرنسا لا تستطيع مساعدة بريطانيا فوراً كما انه لا توجد دولة من أعضاء العصبة مستعدة لذلك. أمام هذا التحذير وأمام الصعوبات التي تجابهها حكومة لندن في هذه الأيام من أحزاب عمال مناجم الفحم، ومن الصعوبة التي تجدها في المؤتمر البحري المنعقد في لندن؛ ومن اضطرابات مصر. . . . أمام هذه العقبات خشي هور الحرب مع إيطاليا فوقع (المشروع). وبذلك تمكن لافال من تأجيل مسألة الحصر البترولي بصورة غير مباشرة إن لم يكن قد قتلها.

ولكن لماذا يبذل لافال هذه الجهود الجبارة في مساعدة موسوليني؟.

إن سياسة وزارة خارجية فرنسا كانت منذ حرب السبعين تعمل على توطيد العلاقات مع كبرى الدول الأوربية بعقد معاهدات معها. . . لتكون في مأمن من الخطر الجرماني. ولما وضعت الحرب أوزارها وأنشئت عصبة الأمم، رأت وزارة الخارجية الفرنسية أن تستغل هذه المؤسسة وتستعيض بها وبسياسة السلام المشترك عن سياسة المعاهدات. وقد بذل مسيو بريان في سبيل ذلك جهوداً جبارة. . . .

غير أن لافال حاد عن سياسة فرنسا الجديدة وعاد إلى سياسة ما قبل الحرب: سياسة المعاهدات. . . وحصر ألمانيا وتكوين جبهة قوية ضدها، فتمكن من إيجاد تحالف بين فرنسا وإيطاليا من جهة، وبين فرنسا والروسيا من جهة ثانية. . . .

وهو في سبيل المحافظة على صداقة إيطاليا والعمل معها ضد ألمانيا قد ضحى بمبدأ عصبة الأمم وسياسة السلام المشترك - ضحى بذلك برغم تصريحاته العديدة بأنه لا يزال يعمل ضمن سياسة جنيف ومن اجل المحافظة على صداقة إيطاليا يبذل لافال جهده في تثبيت مركز موسوليني الدولي - إذ هو يعتقد أن زوال حكم موسوليني في روما أو زوال نفوذه ربما يغير مجرى السياسة الإيطالية، فلا تستفيد فرنسا من المعاهدة التي عقدتها مع موسوليني، هذا إذا لم تتقرب إيطاليا من ألمانيا وتكونا جبهة قوية. . . خطرة على فرنسا. وفي سبيل ذلك قد وتر علائقه مع بريطانيا، إذ من المحال الاحتفاظ بمحالفة موسوليني وصداقة بريطانيا معا في الظروف الحالية.

فهل أصاب لافال بسياسته هذه؟ وهل مكن مركز فرنسا الدولي وأبعد عنها كل خطر جرماني؟ إن ألمانيا تتسلح الآن بكل ما لديها من قوة، وأنها ستضع قوتها يوماً ما في حيز العمل، غير أنها قد أخذت درساً كبيراً في الحرب العالمية، وهو أنها لا تستطيع قط محاربة العالم، وأن أي حرب تكون فيها فرنسا وبريطانية في صف واحد خطرة عليها. لهذا يبذل ساسة ألمانيا جهدهم في تفريق وحدة دول جنيف وإضعاف سياسة الأمن المشترك من جهة، وفي التقرب من بريطانيا وإبعادها عن فرنسا من جهة ثانية، وهم إن تمكنوا من ذلك اتسع المجال لعملهم وتنفيذ مناهجهم.

ومن الغريب أن نرى أن سياسة لافال الحالية، تعمل بصورة غير مباشرة على تطبيق المنهاج الألماني! وفي تطبيقه زوال مركز فرنسا الدولي، وهو رفيع، وإضعاف سلطانها.

وإننا نعتقد أنه لا أضمن لسلامة فرنسا واستمرار عظمة نفوذها الدولي من تقوية جنيف وتثبيت سياسة الأمن المشترك؛ وبتثبيت هذه السياسة وبالمحافظة على الصداقة البريطانية يزول عن فرنسا كل خطر جرماني.

ومن هنا نرى أن لافال قد أخطأ كثيراً في تضحية هذه القوى الجسيمة في سبيل المحافظة على موسوليني وكيانه، وأن مشروعه كان غلطة فادحة تجر على فرنسا ضرراً جسيماً لو نفذ، ناهيك بالأضرار الجسيمة الأخرى التي تنال السلم العام وحقوق الدول الصغرى.

(لندن)

يوسف هيكل

دكتور في الحقوق من (حكومة فرنسا)