انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 133/سلطة الآباء

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 133/سلطة الآباء

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 01 - 1936



للأستاذ أحمد أمين

رحم الله زماناً كان الأب في بيته الآمر الناهي، والحاكم المطلق، والملك غير المتوج؛ ينادي فيتسابق من في البيت إلى ندائه، ويشير فإشارته أمر، وطاعته غنم؛ تحدثه الزوجة في خفر وحياء، ويحدثه الابن في إكبار وإجلال؛ من سوء الأدب أن يرفع إليه بصره، أو يرد عليه قوله، أو يراجعه في رأي، أو يجادله في أمر. أما البنت، فإذا حدثها لف الحياء رأسها، وغض الخجل طرفها؛ قليلة الكلام، متحفظة الضحك، خافضة الصوت؛ تتوهم أنها أخطأت في التافه من الأمر فيندي جبينها، ويصبغ الخجل وجهها، وتنكس بصرها؛ وإذا جاء حديث الزوج والزواج فإلى أمها الحديث لا إلى أبيها، وبالتلويح والتلميح لا بالتصريح؛ والأمر إلى الأب فيما يقبل وفيما يرفض، وفيما يحدث وما لا يحدث.

في جملة الأمران أن البيت ينقسم إلى قسمين: حاكم وهو الأب، ومحكوم عليه وهو سائر الأسرة؛ منه الأمر ومنهم الطاعة، له السيادة ولهم الخضوع، يرسم الخطط وهم ينفذون، يجلب الرزق ويتولى الإنفاق وهم يسيرون على ما رسم؛ وويل لمن تبرم أو عارض! فأن أحس الابن حاجة ملحة إلى مال، أو شعر بضرورة ملجئة إلى أكثر مما أخذ، لم يجرؤ أن يجابه بالطلب؛ إنما يحاور ويداور، ويلمح ويرمز؛ فان أعياه الأمر وسط الأم لعلها تستطيع أن تعبر تعبيراً أوضح وأصرح، وقل أن تنجح.

وبجانب سلطة الأب الدنيوية كانت سلطته الدينية. فهو يوقظهم قبل الشمس ليصلوا الصبح أداء لا قضاء، ويسائلهم في أكثر الأوقات عن صلاتهم كيف صلوا، وعن وضوئهم كيف توضئوا؛ يعلم الجاهل ويؤم المتعلم، ويجمعهم حوله من آن لآن يصلي بهم، ويذكرهم ويعظهم، ويقص عليهم قصص الأنبياء، وحكايات الأولياء والصلحاء - وان أنس لا أنس جمال المواسم الدينية - كيوم نصف شعبان، إذ تشعر في البيت من الصباح بحركة غير عادية: هذا ينظف، وهذه تعد الأكل الحافل ويتهيأ الجميع قبل الغروب استعداداً لصلاة المغرب، قد لبس النساء البياض، وتقنعن بالشاش الأبيض، وإذا رب البيت يؤم جميع من في البيت، ثم يخرج دعاء نصف شعبان من جيبه ويتلوه عليهم، يقول جمله فيرددونها، ويبتهل معهم إلى الله أن يسعده ويسعدهم، ويصلحه ويصلحهم، ويبارك له في ماله وفي نفسه وفي ذريته، ثم يأخذون حظهم لبطونهم، كما أخذوا حظهم لأرواحهم، وشملتهم السعادة وعمهم اللطف والهناءة.

لقد ودعنا ذاك الزمان بخيره وشره وحلوه ومره، واستقبلنا زماناً صار فيه الأبناء آباء، وأرادوا أن تكون لهم السلطة كآبائهم فأبى عليهم الزمان.

قالت الزوجة لزوجها: الناس أحرار، وأنا إنسان وأنت إنسان، فإن اعتززت أنت بالكسب اعتززت أنا بالإنفاق، وان اعتززت بالرجولة اعتززت بالأنوثة، وان اعتززت بأي شئ فأنا اعتز بمثله وبخير منه؛ فأنا وأنت شريكان، لا سيد وأمة، ولا مالك ومملوك؛ لي كل الحقوق التي لك، وقد يكون على بعض الواجبات التي عليك، فان سفرتَ سفرتُ، وإن غشيت دور الملاهي غشيتها؛ عليك أن تحصل المال وعلي الإنفاق ولك السلطان التام في اختصار طرق التحصيل، ولي الخيار التام في وجوه التبديد أنت للبيت والبيت لي. إن كان لك أم فقد شبعت سلطة في الماضي أيام كانت زوجة، فلا حق لها أن تنعم بسلطانها وسلطان غيرها، فليس لها الحق إلا أن تأكل، كما ليس لك في حبها؛ فالحب كله للزوجة، إنما لك أن ترحمها؛ والدين لا شأن لك فيه بتاتاً فهو علاقة بين العبد وربه، وكل إنسان حر أن يحدد هذه العلاقة كما يوحي إليه قلبه؛ فأن شئت أنت أن تتدين فتدين، على شرط ألا تقلب نظام البيت، وتقلق راحتي وراحة الخدم، بإعداد ماء ساخن في الشتاء وما إلى ذلك. ورأى الزوج أن الأحكام قاسيه، والشروط فادحة، وهام يبحث عن المتمدنات عمن يرضى به زوجاً على الشروط القديمة فأعياه البحث.

وأخيراً نزل على حكم القضاء، وأسلم نفسه لسلطان الزمان وقدم الطاعة للزوجة، بعد أن كانت هي تقدم الطاعة له؛ ولا يزال في دار الآثار في المحاكم الشرعية قضايا اسمها قضايا الطاعة، يحكم فيها للأزواج على الزوجات؛ حفظ شكلها، وبطل روحها؛ ولو كانت المحاكم محاكم عصرية لحكمت بالطاعة على الزوج لزوجته، وحكمت بالنفقة على الزوجة لزوجها.

وتم الزواج، وفرحت الزوجة بالظفر فغالت في المطالب، وابتدعت كل يوم مطلباً جديداً، وأرادت أن تنتقم لأمهاتها من آبائه في شخصه، فطالما أطَعْن، وطالما خضعن! فليطع هو دائماً وليخضع دائماً، جزاء وفاقاً على ما جنى أبوه وأجداده قالت أن رقصتَ رقصتُ، فذلك حقك وحقي؛ قال نعم. قالت بل أن لم ترقص رقصت لأنك أن أضعت حقك لم أضع حقي؛ وأن خاللتَ خاللتُ، فالجزاء من جنس العمل، بل أن لم تخالل ربما خاللت، لأن حياة الزوجية البحت قد يعتريها الركود والسأم والملل. فصرخ ولف الغضب وجهه، وحاول أن ينكل بها فتراجعت، وسحبت مطلبها الأخير ورأت الحكمة أن تتريث بعض الشيء حتى يبلغ ريقه من أثر الصدمة الأولى، ويستعد للصدمة الثانية، فان لم يسعفها الزمان أوصت بناتها بشروطها الجديدة.

قالت وسيكون من أول ما أوصي به ابنتي أن تتخذ قياس خطيبها، ثم يكون من أول جهازها أن تفصل له برذعة ولجاماً على قدره، فتضع البرذعة عليه وتركبه إذا شاءت، وتشكمه باللجام إذا حاول أن يتحرك يميناً أو شمالاً على غير رغبتها.

وشاء الله أن يرزقا بنين وبنات.

وقد رأوا أن الأم لا تجل الأب فلم يجلوه، ولم تعره كبير التفات فلم يعيروه؛ ورأوها تبذر في مال الأب فبذروا، ورأوها حرة التصرف فتحرروا، ورأوها تخرج من البيت من غير أذن الأب فخرجوا خروجها، وتعود متى شاءت ففعلوا فعلها، ورأوها لا تتدين فلم يتدينوا، ورأوها تطالب الأب ألا يفتح رسائلها فطالبوا، ورأوها تتكلم في المسائل الدقيقة أمام أبنائها وبناتها في صراحة فتفتحت شهواتهم، وتحركت رغباتهم، وغذتها تخيلاتهم.

وقال الأبناء لأبيهم: أنّا مخلوقون لزمان غير زمانك فاخضع لحكم الزمان؛ وقد نشأت في زمن حرية في الآراء، وحرية في الأعمال، وحرية في التصرف، لا كما نشأت في جو من الطاعة والقيد والأسر والتقاليد، فمحال أن يسع ثيابك الضيق أبداننا، وتقاليدك العتيقة البالية نفوسنا، فان حاولت ذلك فإنما تحول إدخال الثور في قارورة، أو لف القصر الكبير بمنديل صغير! قال نعم. قالوا وأنت الذي سمح لنا بادئ ذي بدء أن نغشى دور السينما والتمثيل، وأن نسمع الأغاني البلدية، ونشاهد المراقص الأوربية، فإذا أقررت المقدمة فلا تهرب من النتيجة. وأنت الذي عودنا ألا نضع للبيت (ميزانية) فأنت تعطي (ماهيتك) لأمنا تنفق من غير حساب، فإن انتهت في نصف الشهر طلبت منك أن تقترض فاقترضت، وأن تشتري ما لا حاجة لنا به فاشتريت، وأن تقدم الكمال على الضروري فأطعت؛ فليس لك أن تطالبنا بالاقتصاد في الجدول الصغير، والنهر الكبير ليس له ضابط. وخرق أن تحاول أن تضع ميزانية لمصلحة، وميزانية الدولة مبعثرة! قال نعم. قالوا وقد أضعت سيادتك على أمنا فلم تفرض سيادتك علينا؟ ورضيت بالخضوع لها فلم تأباه علينا، وهي أم الحاضر وأنت أبو الماضي ونحن رجال المستقبل؟ قال نعم. قالوا وأنت نشأت في زمن خضوع تام: خضعت لأبيك في المهد صبياً، وخضعت للفقيه في المكتب، والمدرس في المدرسة؛ فإذا قلت برأسك هكذا، قال الأستاذ بعصاه هكذا، فنكست رأسك، وغضضت بصرك، وأسعفتك عينك بالبكاء، ولم يسعفك لسانك بالقول، فلما صرت (موظفاً) وقفت من رئيسك موقفك من أبيك وأستاذك، تنفذ دائماً وتطيع دائماً - ولم يجر على ذهنك يوماً تفكير في استقلال، ولا على لسانك نداء بحرية؛ أما نحن فحريتنا في بيتنا: حررتنا على أساتذتنا، فحملناك كرهاً على تملقنا؛ ونادينا بالحرية فتبعتمونا في شئ من الرياء، تظهرون الطاعة لرؤسائكم وتبطنون الرضا عن حركاتنا، وتريدون أن تجمعوا بين الحرص على ماهيتكم والحرص على وطنيتكم المكبوتة. قال نعم. قالوا: فلما قدناك وقدنا رجالنا في السياسة فلنقدكم جميعاً في كل شئ: في البيت وفي المال وفي العلم وفي رسم الخطط: ولنقلب الوضع فنكون قادة وتكونوا جنوداً وإلا لم نرض عنكم جنوداً ولا قادة.

وقالت البنات لأبيهن:

يا أبانا الذي ليس في السماء! رقصت أمنا فرقصنا، وشربت أمنا فشربنا، وشربت سراً فلتسمح لنا بحكم تقدم الزمان أن نشرب جهراً، ورأينا في روايات السينما والتمثيل حباً فأحببنا، ورأينا عريا على الشواطئ فتعرينا، وتزوجت أمنا بإذن أبيها فلنتزوج نحن بإذننا. قال نعم. قلن وقد أوصتنا أمنا أن نركب الزوج، ولكننا أمام مشكلة يشغلنا حلها فأنّا نرى شبان اليوم كاخوتنا متمردين لا يخضعون خضوعك ولا يستسلمون استسلامك، فإرادتهم قوية كإرادتنا، وهم يحبون السلطة حبنا؛ فهم أحرار ونحن أحرار، وهم مستبدون ونحن مستبدات، فكيف نتفق؟ هل يمكن أن يبقى البيت بعدة استبدادات؟ ولكن لا بأس يا أبانا! هل البيت ضرورة من ضرورات الحياة؟ أو ليس نظام الأسرة نظام عتيقاً. من آثار القرون الوسطى؟ قال نعم. قلن على كل حال فيصح أن يجرب جيل النساء الجديد مع جيل الرجال الجديد، فان وقع ما خشينا عشنا أحراراً وعاشوا أحراراً، وطالبنا بتسهيل الطلاق وبهدم المحاكم الشرعية على رؤوس أصحابها، وتعاقدنا تعاقداً مدنياً. قال الأب: وماذا تفعلن بما ترزقن من أبناء وبنات؟ قلن لك الله لا أبانا! إنك لا تزال تفكر بعقل جدنا وجدتنا! لقد كنت أنت وأبوك وجدك تحملون أنفسكم عناء كبيراً في التفكير في الأولاد، وتضحون بأنفسكم وأموالكم في سبيلهم، وتعيشون لهم لا لكم. أما عقليتنا نحن أهل الجيل الحاضر فأن نعيش لأنفسنا لا لغيرنا. لقد ضحك عليكم الدين والأخلاق ففهمتم أن الواجب كل شيء، وكشفنا اللعبة ففهمنا أن اللذة كل شئ، فنحن نمنع النسل، فإذا جاء قسراً فليعش كما يشاء القدر؛ ولنقدم حظنا على حظه، وسعادتنا على سعادته، ولا نفكر فيه طويلاً، ولا يتدخل في شؤوننا كثيراً ولا قليلاً قال الأب: وأمر المال كيف يدبر؟ كيف تعشن أنتن وأولادكن إذا كان طلاق وكان فراق؟ قلن هذا ظل آخر ظريف من ظلال تفكيرك، دع هذا يا أبانا والبركة أخيراً فيك.

أما بعد فقد خلا الأب يوماً إلى نفسه، وأجال النظر في يومه وأمسه، فبكى على أطلال سلطته المنهارة، وعزته الزائلة، ورأى أنهم خدعوه بنظرياتهم الحديثة، وتعاليمهم الجديدة - قال: لقد قالوا إن زمان الاستبداد قد فات ومات، فلا استبداد في الحكومة، ولا استبداد في المدرسة، فيجب ألا يكون استبداد في البيت؛ إنما هناك ديمقراطية في كل شيء، فيجب أن يكون البيت برلماناً صغيراً يسمع فيه الأب رأي ابنه ورأي أبنته ورأي زوجه، وتؤخذ الأصوات بالأغلبية في العمل وفي المال وفي كل شيء؛ وقالوا تنازل عن سلطاتك طوعاً، وإلا تنازلت عنها كرهاً، وقالوا أن هذا أسعد للبيت، وأبعث للراحة والطمأنينة، وقالوا أن هذا يخفف العبء عنك، فنحن نقسم البيت إلى مناطق نفوذ، فمنطقة نفوذ للمرأة، وأخرى للرجل، وثالثة للأولاد، وكلهم يتعاونون في الرأي ويتبادلون المشورة. سمعت وأطعت فماذا رأيت؟ كل إنسان في البيت له منطقة نفوذ إلا إياي، ولم أرى البيت برلماناً، بل رأيته حماماً بلا ماء، وسوقاً بلا نظام، إن حصلت على مال أرادته المرأة فستاناً، وأرادته البنت بيانو، وأراده الابن سيارة؛ ولا تسأل عما يحدث بعد ذلك من نزاع وخصام. وإن أردنا راحة في الصيف أردت رأس البر لأستريح، وأرادت الأم والبنت الإسكندرية قريبا من ستانلي باي، وأراد الابن أوربا؛ وإن، وأن، ' إلىما لا يحصى، ولا يمكن أن يستقصي؛ وأخيراً يتفقون على كل شئ إلا على رأي. فوالله لو استقبلت من أمر ما استدبرت ما تزوجت، فان كان ولابد ففلاحة صعيدية، لم تسمع يوما بمدينة، ولم تركب يوما قطاراً إلى القاهرة والإسكندرية، لها يد صناع في عمل الأقراص) ورأس صناع في حمل (البلاص) أيتها الزوجة! وأيها الأبناء والبنات! ارحموا عزيز قوماً ذل.

أحمد أمين