انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 133/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 133/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 01 - 1936



صور من هوميروس

21 - حروب طروادة

1 - مصرع أخيل

2 - انتحار بوليكسينا

3 - سهام هرقل

4 - مقتل باريس

5 - نهاية إيونوليه

للأستاذ دريني خشبة

انتهت الهدنة، واندلعت نيران الحرب كرة ثانية، والتحم الجمعان تؤجج العداوة بينهما ثارات وثارات؛ ولم يجد الطرواديين أن تنضم إليهم مليكة الأمازون تحارب بفصائلها في صفوفهم وتشد بجموعها أزرهم، فان أخيل هو هو لم ينقص ولم يزد. . . بل هو يزيد كل يوم ظمأ إلى دماء قاتلي صديقه وأحب الناس إليه. . . بتروكلوس الشهيد. . .

لقد انقض أخيل على مليكة الأمازون التي انقضت بدورها على جحافل الهيلانيين فأوقعت الروع في نفوسهم، وقذفت الرعب في قلوبهم. . . فلم يزل بها يصاولها ويطاولها حتى نهز منها نهزة أنفذ بها رمحه في صدرها، وعفر جبينها الملتهب بثرى المعمعمة، وجردها من سلاحها إذ هي جثة هامدة، وانكفأ أتباعها وبهن من الحزن على صاحبة الأمر فيهن. . . ما صرفهن عن طروادة والطرواديين.

وإن أخيل ليصول في الميدان ويجول، وإنه ليرتفع بصره عفواً، وعن غير قصد، إلى البرج الشاهق من أبراج إليوم، فوق البوابة الاسكائية، إذا به يلمح قمراً مطلاً من شرفة البرج يرنو بعيني ظبي، ويهطع بجيد رئم، ويشرق بخدين ناضجين من خدود ربات الخدور، يرسلان على الساحة كلها سناءً ورواءً. . . .

من هي؟. . .

من هذه العذراء البارعة التي تشرف هكذا على الساحة الحمراء فتطفئ جذوات الغل المتقدة بين أضلاع أخيل، وتضع حداً لهذه الثورة التي ظلت إلى تلك اللمحة تعصف بنفسه الغضبى، وتحز في قلبه المحزون؟. . .

أوه. . .!! إنها الأميرة الفتانة بوليكسينا، صغرى بنات الملك الشيخ. . . بريام البائس الباكي الحزين. . .

لقد أرسلتها العناية لتشرف على الساحة الصاخبة، ولينظر إلى هذا البطل الخرافي الجبار الذي لم يعد بيت في طروادة كلها إلا وفيه لسان يلهج بذكره، ويتحدث عن شجاعته، ويخوض في جبروته. . . ثم لم يعد بيت في طروادة كذلك، إلا وفيه عين مؤرقه تبكي على عزيزها الذي قتله هذا البطل، أو الذي سيقتله، أو الذي يخشى منه عليه أن يقتله. . . كأنه أصبح سفير هيدز إلى اليوم، أو وزير بلوتو العظيم!!

وأبصر أخيل بها. . . ويالها من نظرة أنبتت في قلبه دوحة من الحب وارفة، ذات ظلال وذات أفياء. . . .

وظل الرمح يهتز في يده. . . ولا يصيب أحداً. . . وظل هو يسارق قمر البرج المطل نظرة فنظرة، وظل مشدوهاً مسبوهاً. . . لا يعرف لم شبت هذه الحرب، ولم يقتتل هذان الجمعان؟!. . . وانثنى من الميدان ينظر في هذا الغرام الجديد. . .

ولم يجد بداً من العمل لإحلال السلم محل تلك الحرب التي طالت وتتابعت عليها السنون، من غير أن يظفر الهيلانيون بالطرواديين، أو الطرواديين بالهيلانيين، ومن غير أن يفكر أحد في هذه المجزرة الشائنة التي تفتدي كل يوم بقطوف الشباب من زهرات الأمتين على السواء.

فيا له من حب مهد السلم، لولا قساوة في القلوب زادتها الثارات عنفواناً، ولولا شرف أمة بأسرها تعبث به امرأة، ولولا الأحن التي ذهبت بأبناء الملوك الصيد!

واستطاع أخيل أن ينفذ رسله إلى بريام يستعتبه، ثم استطاع الرسل أن يخاطبوا الملك في بوليكسينا على أن تكون أحب أزواج أخيل وآثرهن إلى قلبه، فوعدهم الملك، بعد إذ لحظ من افتتان ابنته هي الأخرى بزعيم الميرميدون، أن تتم مراسيم الزواج حين تضع الحرب أوزارها، وحين تنكشف هذه الغمة القاسية عن طروادة. . .

بيد أن الهوى المبرح قد ألح على قلب أخيل، والصبابة العاتية قد جمعت أفانين من السهاد في عينيه، وطيف بوليكسينا يراوحه ويغاديه، ويملأ عليه أخيلته، ويتهادى أمامه في كل نظرة ينفرج عنها هدبه، أو غمضة يتناعس بها جفناه! فلم يطق إلى صبر من سبيل!

وأنفذ رسله كرة أخرى فاتفقوا مع الملك على إجراء مراسم الخطبة، عسى أن تفل من غرب هذه الحرب القاسية، أو تبزغ منها تباشير السلام المنشود!

وأعلنت هدنة ليوم أو بعض يوم؛ وأقيم المهرجان الفخم في صميم الحومة الرائعة، وتقدم أخيل فصافح الملك، وأعلنت الخطبة، وانثنى الزعيم العظيم وقلبه يطفر من الفرح، أن أصبحت له بوليكسينا. . .

وما كاد البطل ينقلب إلى جنده، حتى كانت فينوس توسوس إلى باريس أن ينتهز الفرصة العزيزة النادرة، ويريش سهماً من سهامه المسمومة إلى أخيل التي لم تغمرها مياه ستيكس فيصميه. . . فيرديه!!

ووتر باريس قوسه، وأرسل السهم المسموم إلى عقب أخيل فنفذ فيه، وأنفذ فيه قضاء ربات القضاء. . . اللائي فرغن الساعة فقط من غزل خيط حياته، وقطعته أتروبوس الهائلة بمقصها الجبار الفظيع.

وهكذا أنهى باريس الخائن تلك الحياة الحافلة بغدرة سافلة من غدراته التي توشك أن تنتهي!

واستطير الميرميدون! وانقض أوليسيز كالعاصفة ينافح عن جثمان صاحبه، واستطاع أن يستنفذ القتيل العزيز من أيدي أعدائه الجبناء؛ وكان أجاكس العظيم يعاونه في دفع الجموع الحاشدة التي تكاثرت حول الجثة تطمع في عدة فلكان. . .

وانصرف الجيش الحزين يذرف دموعه على أخيل!!

واجتمعوا حول الجثة المضمخة بالطيب وحنط المسك يحرقونها!

ووقفت ذيتيس تلقى على ابنها نظرة الوداع. . . وتذرف عليه عبرة الوداع!!

وكانت ثيابها السود تبكي معها. . . وكانت السماء كلها تذرف شئونها على أخيل. . .

وعرائس البحر ساهمات على شواطئ الهلسبنت الفائض بالدم! وبليوس المحزون يضطرب في الأعماق فيجعلها ضراما: والأولمب كله، ما عدا عصابة فينوس يعزى بعضه بعضاً!! وليس أولئك جميعاً شيئاً إلى ما حدث من بعد، قبيل أن تخمد النيران فوق أخيل. . . فقد ضج المكان الصامت بصيحات مفاجئة، نبهت ما سكن من هول هذا المحشر الرهيب. . . ونفت القوم، فإذا أجاكس العظيم قد أصابه طائف من المس، وإذا به يرغى ويزبد، ويعول وينشج، ثم يقذف من فمه صبياً من الدم، يتلوه شوب من العلق، وينبطح على الأرض ثم يثب على قدميه، ويروح ويغدو دون أن يلوا على شئ. . . ثم يستل جرازه ويركزه فوق الأرض، ويتكئ بصدره على سنانه، فينفذ السنان من ظهر أجاكس، ضحيه جديدة لهذه الحرب التي لا تشبع، وخيط حياة حافلة يمر وشيكاً بين الشفرتين من مقص أتروبوس!. . .

ويحك أجاكس! وللآلهة ما وفيت لأخيل يا بطل الأبطال!

وذهل القوم لانتحار أجاكس ولم يفيقوا من ذهولهم إلا ليروا إلى مأساة ضعضعت ما أبقى عليه الحزن من ألبابهم، وأطاشت ما بقى من حلومهم، وتركتهم سكارى وما هم سكارى

هذه بوليكسينا!!

إنها تقبل من طروادة كأنما بها مس. . .

وهي تطوي الساحة المزدحمة بالأشلاء. . . المضرجة بالدماء، بقدمين عاريتن، لا يقيمها حذاء. . . وأن الدم ليتفجر منهما. . . وهي تصرخ. . . وتلطم خديها الشاحبين، بكفيها الواهيتين

وهي تجفل كالظبية المراعة، وتدور حول نفسها. . . ثم تقف لحظة. . . وتنطلق. . . .

وهي تفعل هذا حتى تكون أمام البركان الخافت، المشتمل على رفات أخيل. . .

وإنها لتقف تلقاءه جامدة كأنها دمية. . . . ذاهلة كأنها تمثال. . . .

يا للهول!!

لقد انطلقت الفتاة فخاضت النيران. . . ودست رأسها في جمرات الغضى تبحث عن حبيبها المرجو. . . . . . عن أخيل. . . . . .!!

أخيل الجبار. . . قاتل ليكاون وبوليدور. . . وهكتور!!

ويجزع الهيلانيون مما ألم بهم من مقتل أخيل، وانتحار أجاكس حزناً عليه، فينصرفون عن الحرب إلى استيحاء آلهتهم؛ وينفرد كالخاس يرسل نظرة في النجوم، ويناجي سكان السماء، ثم يقبل على القادة وقد فرغت قلوبهم من الصبر، وتبلبلت أفكارهم من طول الانتظار. . . فيقول: (سهام هرقل!! لا بد من سهام هرقل!! لن يفتح عليكم طروادة إلا سهام هرقل. . .!!)

سهام هرقل؟؟ وما سهام هرقل هذه؟؟)

آه! لعلها هذه السهام التي غمسها هرقل في دم هيدرا فتسممت به، وادخرت من الموت ما يكفي لإبادة الطرواديين جميعاً. . .

ولكن أين هي هذه السهام اليوم! وأنى للهيلانيين أن يهتدوا إليها؟!

جلس القادة يفكرون. . .

وذهب العرافون يقلبون صحف الغيب. . .

وطفق مشايخ الجند يفتشون في زوايا أدمغتهم. . .

ثم ادّكر أوليسيز، بعد لأي، أن هذه السهام المنشودة قد تركت مع الجندي القديم فيلوكتتيس الذي غادره الجيش فوق جزيرة لمنوس، في طريقه إلى طروادة. . . فجر الحملة. . . منذ عشر سنوات!

ولقد كان فيلوكتتيس قد أصيب بجرح كبير في قدمه جعل أصحاب الحملة له من المحال، لما كان يلقى أوانئذ من الآلام المبرحة، وما كان يملأ به آذان الجند من الصراخ والأنين. . . فأضطر أوليسس إلى تركه في جزيرة لمنوس، حيث أوى الجندي المسكين إلى كهف منعزل عكف فيه على جرحه يعالجه. . . دون جدوى!

واتفق القادة على أن يذهب أوليسس مصطحباً معه بيروس ابن أخيل؛ (أونيوبتلموس كما كانوا يسمونه أحياناً) إلى جزيرة لمنوس ليريا هل الجندي الجريح ما زال يحيا هنالك، وقد بحثا عنه في أنحاء الجزيرة حتى عثرا به يئن في كهفه ويتوجع، ويشكو إلى غير سميع، فعرضا عليه أن يصحبهما إلى طروادة فأبى وجعله يشتد في الأباء تذكره هذا اليوم الأغبر الذي آثروا فيه تركه فوق تلك الجزيرة القاحلة لا أنيس ولا سمير، ولا لسان يرفه عنه وحشة الألم ووحشة المنفى الذي لا يدله فيه؛ وكبر عليه أن ينطلق مع هذا الجيش الذي جحده وغمطه حق الجهاد في سبيل الوطن، والذود عن شرف هيلاس واسمها المقدس. . .

وتركه أوليسس ليبروس يأخذه بالحيلة والرفق. . . ولكن بيروس ما يستطيع قط أن يقنع فيلوكتتيس. . . فيكاد يدعه برما متسخطا. . لولا أن يظهر طيف هرقل فجأة مرفرفاً في العلو ثم يأمر فيلوكتتيس، بعد تهويمة هنا وتهويمة هناك، أن ينصاع لما يأمره أوليسس به.

ولا يسع الجندي الكريم إلا أن ينطلق مع أوليسس. . . فيركب الجميع في السفينة إلى طروادة، ويلقاهم العسكر المشتاق بالبشر، ويهرع إليهم بالإيناس!

أليس في سهام هذا القادم الأعرج. . . النصر كل النصر؟!

ونفخ في صور الحرب، واشتجرت الأسنة، واستحر القتال، وتبوأ فيلوكتتيس مقعداً للرماية لا يبصره فيه أحد؛ في حين يبصر هو منه كل ما في الميدان! وراش سهامه!

وتتطايرت المنايا عن قوسه المرنان! وسعت إلى الطرواديين مصارعهم تهدهدها سهام هرقل، وتمهد لها يمين فيلوكتتيس! ومرق سهم منها إلى باريس!. . .

وكان يشرف على المعركة من أسوار إليوم!. . . فوقع يتشحط في دمه، ويغص بريقه، ويصرح من الألم الذي يسري في عروقه مع الدم. . . والسم!!

واجتمع حول باريس أبوه وذووه وعشيرته. . . وهيلين!. . .

وطفق الجميع يبكون في باريس إخوته، والذكريات السود التي أقبلت من كل صوب ترف فوقه وترنق على جبينه. . .

وأخذ الألم من باريس مأخذه. . . وراح المسكين يصرخ ويتلوى. . . غير آبه لما تغرقه به هيلين من قبلات دنسة، ودموع مسمومة، كانت الويل كل الويل على طروادة والطرواديين

وذكر، وهو يتجرع غصص العذاب أن حبيبته الأولى وزهرة صباه، ووردة حبه القديم، أيونونيه، كانت قد ذكرت له أنها تعرف من خواص الأعشاب المختلفة ما يشفي أقله أشد أوجاع الجروح وأنكاها وصبأً. . . فأشار إلى بعض أهله، وطلب إليه أن يذهب إلى سيف البحر عله يجد إيونونيه. . . فإذا لقيها فليخبرها بما انتهى إليه (حبيبها!) باريس، والآلام التي تعذبه وتشقيه، من جراء جرح هذا السهم المسموم. . . . . . بيد أن إيونونيه التعاسة. . . إيونونيه المعذبة. . . إيونونيه التي أخلصت لباريس الحب حتى عبدته. . . ذكرت ما كان من هجر هذا الحبيب وقلاه؛ وذكرت دموعها التي ذرفتها مرة تحت قدميه ضارعه متوسلة. . . وتلك القساوة التي كافأها هو بها لما أن خدعته فينوس. . . وأوقعته في أحبولة هيلين. . . . . . فرفضت أبية شماء أن تذهب إليه. . .؛ والآلهة وحدها تعلم مقدار ما كانت تكنه له برغم هذا الرفض من الحب النقي. . . والصبابة الحزينة. . . والهوى المتأجج المشبوب!!

وقضى باريس!!. . .

وأعدت النيران الضخمة لتحرقه، فما هو إلا أن أشعلت من حوله حتى شوهدت إيونونيه المتبولة تخرج من لجة الهلسبنت وتعدو، كأن قد أصابها مس، حتى تكون تلقاء النار. . . فتقف باهتةً. . . وتتنهد طويلاً. . . وتقذف بجسمها الجميل المرمري الممشوق في اللهب. . وتصرخ صرخة مشجية. . . و. . . وتنتهي قصة حبها الباكي. . .

وتخط بيدها آخر سطر في كتاب باريس. . .

(البقية في العدد المقبل)

درني خشبة