انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 13/في الأدب العربي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 13/في الأدب العربي

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 07 - 1933



عكاظ والمربد

للأستاذ أحمد أمين

(2)

وقد يتفاخر الرجلان من قبيلتين فيفخر كلٌ بقبيلته ومكارمها فيتحاكمان إلى حكم عكاظ كما فعل رجل من قضاعة فاقر رجلا من اليمن فتحا كما إلى ذلك الحكم.

ومن كان داعيا إلى إصلاح اجتماعي او انقلاب ديني كان يرى أن خير فرصة له سوق عكاظ، والقبائل من أنحاء الجزيرة مجتمعة، فَمَنْ قَبِلَ الدعوة كان من السهل أن يكون داعيا في قومه إذا دعا إليهم، فنرى قس بن ساعدة يقف بسوق عكاظ يدعو دعوته ويخطب فيها خطبته المشهورة على جمل له أورق فيرغِّب ويرهِّب ويحذِّر وينذر.

ولما بعث رسول الله (ص) اتجه إلى دعوة الناس بعكاظ لأنها مجمع القبائل، روى الواقدي أن رسول الله أقام ثلاث سنين من نبوته مستخفياً ثم أعلن في الرابعة فدعا عشر سنين، يوافي الموسم، يتبع الحجاج في منازلهم بعكاظ والمجنة وذي المجاز يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلِّغ رسالة ربه ولهم الجنة، فلا يجد أحداً ينصره حتى انه يسأل عن القبائل ومنازلهم قبيلة قبيلة، حتى انتهى إلى بني عامر بن صعصعة فلم يلق من أحد من الأذى ما لقي منهم، وفي خبر آخر أنه أتى كندة في منازلهم بعكاظ فلم يأت حيا من العرب كان ألين منهم، وعن علي بن أبي طالب (ع): إن رسول الله (ص) كان يخرج في الموسم فيدعو القبائل فما أحد من الناس يستجيب له نداءه ويقبل منه دعاءه، فقد كان يأتي القبائل بمجنة وعكاظ ومنى حتى يستقبل القبائل، يعود إليهم سنة بعد سنة حتى كان من القبائل من قال: أما آن لك أن تيأس منا؟ من طول ما يعرض عليهم نفسه حتى استجاب هذا الحي من الأنصار.

وروى اليعقوبي أن رسول الله (ص) قام بسوق عكاظ عليه جبة حمراء فقال: يا أيها الناس قولوا لا اله إلا الله تفلحوا وتنجحوا، ويتبعه رجل يكذبه وهو أبو لهب بن عبد المطلب. كذلك كان لعكاظ أثر كبير لغوي وأدبي، فقد رأينا قبائل العرب على اختلافها من قحطانيين وعدنانيين تنزل بها، وملك الحيرة يبعث تجارته إليها، ويأتي التجار من مصر والشام والعراق، فكان ذلك وسيلة من وسائل تفاهم القبائل وتقارب اللهجات، واختيار القبائ بعضها من بعض ما ترى أنه أليق بها وأنسب لها، كما أن التجار من البلدان المتمدنة كالشام ومصر والعراق كانوا يطلعون العرب على شيء مما رأوا من أحوال تلك الأمم الإجماعية. وفوق هذا كانت عكاظ معرضا للبلاغة ومدرسة بدوية يلقى فيها الشعر والخطب وينقد ذلك كله ويهذب، قال أبو المنذر: (كانت بعكاظ منابر في الجاهلية يقوم عليها الخطيب بخطبته وفعاله وعد مآثره وأيام قومه من عام إلى عام فيما أخذت العرب أيامها وفخرها) وكانت المنابر قديمة يقول فيها حسان:

أولاء بنو ماء السماء توارثوا ... دمشق بملك كابرا بعد كابر

يؤمون ملك الشام حتى تمكنوا ... ملوكا بأرض الشام فوق المنابر

فيقف أشراف العرب يفخرون بمناقبهم ومناقب قومهم. . . فبدر بن معشر الغفاري. . . كان رجلا منيعاً مستطيلا بمنعته على من ورد عكاظ فاتخذ مجلسا بهذه السوق وقعد فيه وجعل يبرح على الناس ويقول:

نحن بنو مدركة بن خندف ... من يطعنوا في عينه لا يطرف

ومن يكون قومه يغطرف ... كأنهم لجَّة بحر مُسدَف

فيقوم رجل من هوازن فيقول:

أنا أبن همدان ذوي التغطرف ... بحر بحور زاخر لم ينزف

نحن ضربنا ركبة المخندف ... إذ مدَّها في أشهر المعرف

وعمر بن كلثوم يقوم خطيبا بسوق عكاظ وينشد قصيدته المشهورة:

ألا هي بصحنك فاصبحينا

والأعشى يوافي سوق عكاظ كل سنة، ويأتي مرة فإذا هو بسرحة قد اجتمع الناس عليها فينشدهم الأعشى في مدح المحلق والنابغة الذبياني تضرب له قبة أدم بسوق عكاظ يجتمع إليه فيها الشعراء فيدخل إليه حسّان بن ثابت وعنده الأعشى والخنساء فينشدونه جميعا ويفاضل بينهم وينقد فيما زعموا قول حسان:

لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى

فيقول لحسان قلْلَت العدد ولو قلت الجفان لكان أكثر. وقالت يلمعن بالضحى ولو قلت يبرقن بالدجى لكان أبلغ في المديح لأن الضيف بالليل أكثر طروقاً.

ودريد بن الصمة يمدح عبد الله بن جدعان بعد أن هجاه فيقول:

إليك أبن جدعان أعملتها ... محففة للسرى والنصب. . الخ

وقس بن ساعدة يخطب الناس خطبته المشهورة فيذكرهم بالله والموت ورسول الله يسمع له، والخنساء تسوم هودجها براية وتشهد الموسم بعكاظ وتعاظم العرب بمصيبتها في أبيها عمرو بن الشريد وأخويها صخر ومعاوية، وتنشد في ذلك القصائد، فلما وقعت وقعة بدر وقتل فيها عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة أقبلت هند بنت عتبة إلى عكاظ، وفعلت كما فعلت الخنساء، وقالت اقرنوا جملي بجمل الخنساء ففعلوا، فعاظمت هند الخنساء في مصيبتها وتناشدتا الأشعار: تقول إحداهما قصيدة في عظم مصيبتها وترد الأخرى عليها، وعلى الجملة فكانوا في عكاظ يتبايعون ويتعاكظون ويتفاخرون ويتحاجون، وتنشد الشعراء ما تجدد لهم، وفي ذلك يقول حسان:

سأنشر ما حييت لهم كلاما ... ينشر في المجامع من عكاظ

فمن هذا كله نرى كيف كانت عكاظ مركزا لحركة أدبية ولغوية واسعة النطاق كما كانت مركزا لحركة اجتماعية واقتصادية.

نظام سوق عكاظ

كانت القبائل (كما أسلفنا) تنزل كل قبيلة منها في مكان خاص بها، ثم تتلاقى أفراد القبائل عند البيع والشراء أو في الحلقات المختلفة. كالذي حكينا أن الأعشى رأى الناس يجتمعون على سرحة، أو حول الخطيب يخطب على منبر، أو في قباب من أدم تقام هنا وهناك، ويختلط الرجال بالنساء في المجامع، وقد يكون ذلك سببا في خطبة أو زواج أو تنادر وكانت تحضر الأسواق (وخاصة سوق عكاظ) أشراف القبائل. وكان أشرف القبائل يتوافون بتلك الأسواق مع التجار من أجل أن الملوك كانت ترضخ للأشراف، لكل شريف بسهم من الأرباح، فكان شريف كل بلد يحضر سوق بلده، إلا عكاظ فانهم كانوا يتوافون بها من كل أوب).

والظاهر أن المراد بالملوك هم الأمراء ورؤساء القبائل الذين يرسلون بضائعهم لبيعها في أسواق العرب كملك الحيرة والغساسنة وأمراء اليمن ونحوهم (وكانت القبائل تؤتي لرؤسائها إتاوة في نظير إقامتهم بالسوق، فقد ذكر اليعقوبي في تاريخه أخبار أسواق كثيرة كان يعشرها أشرافها) أي يأخذون العشر. وفي عكاظ كانت القبائل تدفع لأشرافها هذه الإتاوة (فهوازن كانت تؤتي زهير بن جذيمة الإتاوة كل سنة بعكاظ، وهو يسومها الخسف وفي أنفسها منه غيظ وحقد) وكانت الإتاوة سمنا وأقطا وغنما. (وكان عبد الله بن جعدة سيدا مطاعا وكانت له إتاوة بعكاظ يؤتي بها، ويأتي بها هذا الحي من الازد وغيرهم، ومن هذه الإتاوة ثياب).

وكان الأشراف يمشون في هذه الأسواق ملثمين، ولا يوافيها (عكاظ) شريف إلا وعلى وجهه برقع مخافة أن يؤسر يوما فيكبر فداؤه، فكان أول من كشف طريف العنبري، لما رآهم يطلعون في وجهه ويتفرسون في شمائله، قال: قبح من وطّن نفسه إلا على شرفه، وحسر عن وجهه وقال:

أو كلما وردت عكاظ قبيلة ... بعثوا إليّ عريفهم يتوسم

فتوسموني إنني أنا ذلكم ... شاكي السلاح وفي الحوادث معلم

إلى آخر الأبيات.

وكان على سوق عكاظ كلها رئيس إليه أمر الموسم وإليه القضاء بين المتخاصمين، قال أبو المنذر: وتزعم مضر أن أمر الموسم وقضاء عكاظ كان في بني تميم. . . وكان من اجتمع له ذلك منهم بعد عامر بن الظرب العدواني سعد بن زيد بن مناة من تميم، وقد فخر المخبل بذلك في شعره:

ليالي سعد في عكاظ يسوقها ... له كل شرق من عكاظ ومغرب

حتى جاء الإسلام فكان يقضي بعكاظ محمد بن سفيان بن مجاشع

تاريخ عكاظ:

من العسير جدا أن نحدد بدء عكاظ فلم نجد في ذلك خبراً يصح التعويل عليه. يقول الآلوسي في بلوغ الأدب (انها اتخذت سوقا بعد الفيل بخمس عشرة سنة) ولكن إذا بحثنا في الأحداث التي رويت في عكاظ وجدنا ذلك غير صحيح فهم يروون (كما قدمنا) أن عمرو بن كلثوم انشد قصيدته في عكاظ وعمرو بن كلثوم كان على وجه التقريب حول سنة500 م.

كذلك إذا عدنا إلى ما رواه المرزوقي في الأزمنة والأمكنة عن رؤساء عكاظ وجدنا انه عدهم قبل الإسلام عشرة أولهم عامر بن الظرب العدواني. وهذا (من غبر شك) يجعل تاريخ عكاظ أبعد مما يحكي الآلوسي بزمان طويل كذلك يروي الأغاني ان عبلة زوجة عبد شمس بن عبد مناف باعت أنحاء سمن بعكاظ.

وظلت سوق عكاظ تقوم كل سنة وكانت فيها قبيل الإسلام حروب الفجار، وهي حروب أربع وكان سبب الأولى على ما يروى، المفاخرة في سوق عكاظ. وسبب الثانية تعرض فتية من قريش لأمرأة من بني عامر بن صعصعة بسوق عكاظ. وسبب الثالثة مقاضاة دائن لمدينهِ مع إذلالهِ في سوق عكاظ، وسبب الأخيرة أن عروة الرجال ضمن ان تصل تجارة النعمان بن المنذر إلى سوق عكاظ آمنة فقتله البراض في الطريق.

فكلها تدور حول سوق عكاظ وهذه الحروب كانت قبل مبعث (النبي ) بست وعشرين سنة وشهدها النبي وهو ابن أربع عشرة سنة مع أعمامه وقال: كنت يوم الفجار أنبل على عمومتي

واستمرت هذه الحروب نحو أربع سنوات. وقد كانت هناك نزعتان عند اشراف العرب، نزعة قوم يقصدون إلى السلب والنهب وسفك الدماء لا يصدهم صاد ولا يرعون حتى الأشهر الحرم ويتحرشون بالناس فيمد أحدهم رجله في سوق عكاظ ويتحدى الأشراف مثله أن يضربوها فتثور من ذلك الثائرة.

وفريق يميل إلى السلم ودرء اسباب الحروب ونجاح التجارة والأسواق بتأمين السالكين وعدم التعرض لهم بأذى.

جاء في تاريخ اليعقوبي: (انه كان في العرب قوم يستحلون المظالم إذا حضروا هذه الأسواق فسموا (المحلون) وكان فيهم من ينكر ذلك وينصِّب نفسه لنصرة المظلوم والمنع من سفك الدماء وارتكاب المنكر فيسمون الذادة (المحرمون) فأما المحلون فكانوا من أسد وطيء وبني بكر بن عبد مناة وقوم من بني عامر بن صعصعة وأما الذادة المحرمون فكانوا من بني عمرو بن تميم وبني حنظلة بن زيد مناة وقوم من هذيل وقوم من بني شيبان. . . فكان هؤلاء يلبسون السلاح لدفعهم عن الناس.

وكان من اشهر الداعين إلى السلم عبد الله بن جدعان فقد كان إذا اجتمعت العرب في سوق عكاظ دفعت أسلحتها إلى ابن جدعان ثم يردها عليهم إذا ظعنوا، وكان سيدا حكيما مثرياً.

ويظهر أن أصحاب هذه النزعة الثانية وهم الذادة هم الذين سموا هذه الحروب حرب الفجار لما ارتكب فيها من الفجور وسفك الدماء وهم الذين تغلبوا فيما بعد ونجحوا في وقف هذه الحروب (ودعوا الناس أن يعدوا القتلى فيدوا من فضل. وان يتعاقدوا على الصلح فلا يعرض بعضهم لبعض) وربما كان من أثر ذلك حلف الفضول وقد عقد في بيت عبد الله بن جدعان هذا.

واستمرت عكاظ في الإسلام وكان يعين فيها من يقضي بين الناس، فعين محمد بن سفيان بن مجاشع قاضيا لعكاظ وكان أبوه يقضي بينهم في الجاهلية وصار ذلك ميراثا لهم.

ولكن يظهر ان هذه الأسواق ضعف شأنها بعد الفتوح فأصبحت البلاد المفتوحة أسواقا للعرب خيراً من سوق عكاظ، وصار العرب يغشون المدن الكبيرة لقضاء أغراضهم، فضعفت أسواق العرب ومنها عكاظ. ومع ذلك ظلت قائمة وكان آخر العهد بها قبيل سقوط الدولة الأموية. قال الكلبي: (وكانت هذه الأسواق بعكاظ ومجنه وذي المجاز قائمة في الإسلام حتى كان حديثا من الدهر، فأما عكاظ فإنما تركت عام خرجت الحرورية بمكة مع أبي حمزة المختار بن عوف الأسدي الأباضي في سنة129 خاف الناس ان ينهبوا وخافوا الفتنة فتركت حتى الآن، ثم تركت مجنه وذو المجاز بعد ذلك).

واستغنوا بالأسواق بمكة وبمنى وبعرفة. . . وآخر سوق خربت سوق حباشة خربت سنة197. أشار فقهاء أهل مكة على داود بن عيسى بتخريبها فخربها وتركت إلى اليوم.

فعكاظ عاصرت العصر الجاهلي الذي كان فيه ما وصل إلينا من شعر وأدب، وجرت فيها أحداث تتصل بحياة النبي (ص) قبيل مبعثه، مهدت السبيل قبيل الإسلام لتوحيد اللغة والأدب وعملت على إزالة الفوارق بين عقليات القبائل، وقصدها النبي (ص) يبث فيها دعوته، وعاصرت الإسلام في عهد الخلفاء الراشدين والعهد الأموي ولكن كانت حياتها في الإسلام اضعف من حياتها قبله، وبدأ ضعفها من وقت الهجرة لما كان من غزوات وحروب بين مكة والمدينة او بين المؤمنين والمشركين، فلما فتحت الفتوح رأى العرب في أسواق المدن المتحضرة في فارس والشام والعراق ومصر عوضا عنها، ثم كانت ثورة أبي حمزة الخارجي بمكة فلم يأمن الناس على أموالهم فخربت السوق، وختمت صحيفة لحياة حافلة ذات اثر سياسي واجتماعي وأدبي.