مجلة الرسالة/العدد 129/بين المتنبي وسيف الدولة
مجلة الرسالة/العدد 129/بين المتنبي وسيف الدولة
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
غادر المتنبي أرض مصر وشعوره لأميره السابق سيف الدولة نستطيع أن نجمله في بيتين قالهما المتنبي وهما:
فارقتكم فإذا ما كان قبلكم ... قبل الفراق أذى، بعد الفراق يد
إذا تذكرت ما بيني وبينكم ... أعان قلبي على الشوق الذي أجد
فهو قد خرج من مصر ونفسه تواقة إلى سيف الدولة، مشتاقة إلى الاستظلال بكنفه، لأن آماله التي غرسها عند غيره لم يجن منها غير الخيبة والندامة؛ ولم يكن اشتياق سيف الدولة إلى لقاء المتنبي بأقل من ذلك، فقد أحس بعد فرقته بفراغ لم يملأه شاعر ممن حوله، ورأى بلبله الغريد قد طار عن أبكته، وحط عند غيره، ولم يكن أحب إليه من عودته، كما دلت على ذلك فعال سيف الدولة بعد أن فارق المتنبي أرض مصر، وهو إحساس كان من السهل على المتنبي أن يستثمره وأن يقصد تواً أرض سيف الدولة، ولكنه لم يفعل لأمور نستطيع تلخيصها فيما يأتي:
أولاً ما فطر عليه المتنبي من سمو النفس والعظمة التي كانت تملأ جنبيه، فقد عز عليه أن يلجأ إلى من فارقه مغضباً منه، وأن يذهب إلى من فرّط فيه ولم يبق عليه، بل سمع فيه قول الوشاة.
وثانياً هذا الشعر الكثير الذي قاله مضطراً تحت عوامل نفسية، وعوامل خارجية وثورة واضطرام عواطف وسب فيه سيف الدولة، فلم يجد من اللياقة أن يقصد من هجاء، ورأى في ذلك غضاضة لا يسبغها ولا يقبلها.
لم يذهب المتنبي إذاً إلى سيف الدولة ولكنه قصد الكوفة، وهناك كثيراً ما ذكر أيامه السالفة لدى الأمير وعهده الغابر؛ أما سيف الدولة فقد نسى كل ما ذكره المتنبي عنه حينما كان بمصر وأرسل إليه ابنه بهدية، فلم نجد المتنبي ما يشكره به سوى شعره، فكتب إليه قصيدة بدا فيها ما يكنه من جميل الذكرى وفيها يقول:
كلما رحبت بنا الروض قلنا ... حلب قصدنا، وأنت السبيل
والممَّون بالأمير كثير ... والأمير الذي بها المأ الذي زلت عنه شرقاً وغرباً ... ونداه مقابلي ما يزول
نقص البعد عنك قرب العطايا ... مرتعي مخصب وجسمي هزيل
إن تبوأتُ غير دنياي دارا ... وأتاني نَيْل فأنت المنيل
من عبيدي إن عشت لي ألف كافو ... ر ولي من نداك ريف ونيل
ولا ينسى في تلك القصيدة أن يسمعه تلك النغمة القديمة التي كان يطرب بها مسامعه أيام كان في كنفه، فهو يحدثه عن حربه مع الروم وطول عراكه معهم، لأن تلك النغمة أعذب نغمة لدى سيف الدولة، فهو يقول له:
وموال تحييهم من يديه ... نعم غيرهم بها مقتول
فرس سابق، ورمح طويل ... ودلاص زُعف وسيف صقيل
أنت طول الحياة للروم غاز ... فمتى الوعد أن يكون القفول
تلك القصيدة تشعرك حقاً بأن المتنبي يحفظ أجل الذكريات لأميره ولا ينساها. ثم لما ماتت أخت سيف الدولة وورد نعيها العراق وسمع به المتنبي أبت عليه نفسه إلا أن يكون له نصيب من الحزن عليها فرثاها بقصيدة تدلك حقاً على وجدان متألم، وأنه يحزن لحزن أميره القديم ويرثى لمصابه، وفيها يقول:
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر ... فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملا ... شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
أرى العراق طويل الليل مذ نعيت ... فكيف ليل فتى الفتيان في حلب
يظن أن فؤادي غير ملتهب ... وأن دمع جفوني غير منسكب
بلى وحرمة من كانت مراعية ... لحرمة المجد والقصاد والأدب
فأنت ذا تراه ينفى عن نفسه أنه لم يشارك أميره في الحزن ويقسم له بحرمة الفقيدة ثم يقول:
يا أحسن الصبر زر أولى القلوب به ... وقل لصاحبه يا أنفع السحب
وأكرم الناس لا مستثنياً أحداً ... من الكرام سوى آبائك النجب
ولعل رغبة سيف الدولة قد اشتدت في أن يكون المتنبي إلى جانبه فأرسل إليه كتاباً بخطه إلى الكوفة يطلب منه أن يسير إليه، فأجابه بقصيدة فيها عتاب جميل واعتذار عن التخلف، ومدح لسيف الدولة؛ ولعل المتنبي بذلك المدح يريد أن يعوض على سيف الدولة فقده؛ واستمع إليه يعتذر ويقول:
وما عقني غير خوف الوشا ... ة، وإن الوشايات طرق الكذب
وتكثير قوم وتقليلهم ... وتقريبهم بيننا والخبب
وقد كان ينصرهم سمعه ... وينصرني قلبه والحسب
وما قلت للبدر أنت اللجي ... ن وما قلت للشمس أنت الذهب
فيقلق منه البعيد الأباة ... ويغضب منه البطئ الغضب
ويمدحه ويقول:
وما لاقني بلد بعدكم ... ولا اعتضت من رب نعماي رب
وما قست كل ملوك البلاد ... فدع ذكر بعض، بمن في حلب
أفي الرأي يشبه أم في السخا ... ء أم في الشجاعة أم في الأدب
ثم يمضي مادحاً معيداً على أذنه تلك النغمة القديمة - كما قلنا - نغمة مدحه بقتال الروم.
تلك علاقة المتنبي بسيف الدولة وهي علاقة لا تتعدى المراسلة، وقد يقال: أما كان من الخير للمتنبي أن يذهب إلى سيف الدولة بعد أن دعاه؟ ولكن إذا علمنا ما كان يخشاه المتنبي من الوشاة وأن المأساة ربما تتكرر خففنا من لومه والاعتراض عليه.
لم يلق المتنبي إذاً سيف الدولة بعد أن فارقه حتى قتل؛ أما شعور الأمير ساعة علم بمقتل شاعره القديم فان كتب الأدب إذا كانت لم تحدثنا عنه فمن السهل علينا فهمه، إذ ليس من اليسير على سيف الدولة تقبل مثل هذا الخبر من غير أن يحزن له وأن يتألم من أجله في صميم فؤاده.
أحمد أحمد بدوي