مجلة الرسالة/العدد 127/عويل الدم
مجلة الرسالة/العدد 127/عويل الدم
(مهداة إلى الأستاذ الزيات)
من وحي مقالة: (على هامش الموضوع)
بقلم جورج وغريس
(في يوم مشئوم، في بلد مجهول، جرى دم الشهداء على أديم الغبراء، وظل سحابة يومه شاهد الأرض للسماء؛ وفي الصباح الباكر مر عابر السبيل، فألفى الدماء قد استحالت إلى كلمات، فأخذ يلتقطها بيد مرتجفة ويلقيها في سلال حمراء وسوداء. . . وهاؤم اقرءوا تلك الكلمات. . . . . . . . . . . . . . . .)
لقد قالوا للسان اصمت فتكلمنا.
نحن القطرات المتساقطة من عيون الفناء، وحيث سقطنا ستظل الحقيقة قائمة إلى الأبد.
إنما يعيش الإنسان بالدم الذي يجري في عروقه، فإن مات شهيداً عاش الناس بما يلقيه من الدم في عروقهم.
لقد كذبت معاجم اللغة في كلمتين: (قعقعة السلاح) وصوابها (قعقعة الدم).
ليس معنى الموت الموت دائماً، فقد يكون معناه الحياة أحياناً.
أليس غريباً أن نهتف للحق مرتين: مرة في حنايا القلب، ومرة من ثنايا الأرض؟
لو أننا عدنا إلى حيث أتينا ثم خُيرنا في مصيرنا ما اخترنا غير هذا المصير.
لقد فهمنا حاجة الأرض فأطفأنا ما بها من ظمأ. . . .
أيها الثري الجائع. . . . لقد أتخمك الشبع!
لقد قالوا لنا عيشوا في معاقلكم فانطلقنا منها أحراراً لما أحجم القوم تقدمنا، وحين أطفأ الناس أنوارهم أتينا لهم بالمشاعل.
نحن مادة الحياة أينما حللنا. . . . . . عشنا في القلوب فخفقت، ولمسنا الأرض فنبضت. .
ليت الإنسان يفهم أن للحياة معنى غير الذي دارت عليه أيام الأنعام، والحياة بغير هذا المعنى لا معنى لها.
أنصتوا أيها الباكون حولنا واستمعوا، فإن قيثارتنا ترسل أنغامها السحرية.
إن تفجرنا من القلوب أو جمدنا في العروق فنهايتنا واحدة: الأرض مثوانا وهي الأم الرءوم.
أليست تلك أرض الوطن. . .؟ لقد خالطنا حبها فاختلطنا برغامها وتوغلنا في أعماقها وأضفنا إلى تربتها عنصراً جديداً لن يزول إلى الأبد. . . . . . أليس في كيميائها (المادة لا تفنى؟. . .).
للمظالم البشرية سهام مسمومة وللنفس الشريفة دم كريم. . . . . . إن أصاب ذلك الدم سهم من تلك السهام أبت كرامته أن يعيش إلى جواره فيفلت من مكانه ناقماً عليه ثائراً على عدوانه.
جبلت نفس الظالم من صخر لا قلب له ولا دم. فهو ينتقم لتلك الطبيعة الناقصة. فإن صادف قلباً أرهقه، وإن لاقى دماً أهرقه.
لا تقوم في نفس ابن آدم نزعة إلى الشر إلا ويكون مبعثها شيطان فيه. ولا يجئ منه الخير إلا يكون مصدره الإنسانية في الإنسان. ونحن - وا أسفاه - نتيجة صراع بين النزعتين في نفسين مختلفتين.
تضافرت الفضائل فغلبتها التضحية، وتنافرت الرذائل فجمعتها الأنانية.
يا عابر السبيل. . اخلع نعليك، فإن الأرض التي تطؤها مقدسة!
يا عابر السبيل. . . نحن غرباء مثلك، مطاردون مثلك، وقد أحاطتنا الحياة بهوانها حتى زجرتنا عن محيطها، وقذفت بنا الأرض قطرة حارة وزفرة متأججة تحرق الأديم وتلفح الوجوه. فإن بلغتك أنفاسنا المحترقة فخذ من حرارتها قوة لأنشودتك، ومن فيض آلامها املأ أنغامك سحراً وجلالاً وروعة. . . . . .
يا عابر السبيل. . . . . . لا تخش أن يكون سبيلك سبيلنا وطريقك طريقنا. . . فإنما السبيل للمجد وعر والطريق إليه شائك، فلا تكتئب أو تحزن فمن وخزات ألمك تعيش الكرامة، ومن زفرات بكائك يشتق الخلود آيته. . .
نحن الورود الحمراء التي سقتها الدموع وأنبتتها الأهوال. ستعيش جذورنا في أعماق الصخرة وتصمد أعوادنا المخضلة في وجه العاصفة، تتفتح أكمامنا للأجيال فتملأ النسمات بأريج عاطر ينعش الأنف ويغذي القلب ويثير الفؤاد.
لنا في أذن الأجيال همسات، أسمِعوها يا هؤلاء لأولادكم وأحفادكم إن كان لكم ولهم آذان. واكتبوها على شغاف قلوبكم وقلوبهم بحروف من عصارة تلك القلوب. فإن كانت دماً نقياً رفعكم ورفعهم، وإن كانت دماً مارقاً خذلكم وخذلهم.
(إسكندرية)
جورج وغريس