مجلة الرسالة/العدد 126/المشكلة. . .!
مجلة الرسالة/العدد 126/المشكلة. . .!
للأستاذ كامل محمود حبيب
دخل الشاب مستأذنا؛ فخلع طربوشه، وألقى عصاه، ثم جلس مبهوراًتتتابع أنفاسه، ويزدحم الكلام على شفتيه، لا يكاد يبين معنى من معنى، أو يستقر خاطره على شيء؛ فما استبنت إلا قوله يختتم الحديث بكلمات متقطعة منهوكة: (نعم، وقعت المشكلة! وقعت المشكلة! فأين أجد الخلاص؟)، وكنت وقفت عند قول أستاذنا الرافعي في مقاله بمجلة (الرسالة الغراء) (ووقعت المشكلة. . .) فعرفت ما يعني صاحبي، وهو كان صاحب هذا الحديث، ومحور رحاه، على أن الرحى لم تطحن إلا قلبه هو، وكان قد كتب إلى أستاذنا يطلب الخلاص، فأين رأى الخلاص من نصح طبيبه. . ما أمر الدواء لو يجدي، وما أقسى الطبيب. .! وقلت في نفسي: (وا أسفاه لهذا الشاب!! أثقل عليه أن صفحة من صفحات قلبه قد نشرت، وهو كان يحمل الهم كله في صدره فما يثقل عليه؟ ويل للشاب من الشيخ، فذلك يتكلم بوجدانه وعاطفته وقلبه، وذاك بعقله وتجاربه وفلسفته. فأين يلتقيان؟)
ثم استوى الشاب في مجلسه وقد اطمأن قليلا وسرى عنه بعض ما كان فيه من اضطراب وقلق، ثم قال: (أترى ما فعل بي أستاذنا؟ لقد كنت - بادئ الرأي - في عينه مهذبا، متعلما. ذا رأي وبصر؛ فما هي إلا دورة الكلام فإذا أنا ساقط، مرذول، ضعيف الرأي! أفترى على الشاب من حرج أن يحلق في سمائه، يفتش عن قلبه الطائر حتى يرى ضالته. .؟ والطائر الغريد - يا صديقي - ينقب عن أنثاه التي تساكنه عشه، وترعى أفراخه. أفيكون لأبيه أن ينتقي له أنثاه من بين عصافير الغاب، أم تراه هو. .! أو تحسبها هي تستقر إليه إذا لم تر في ظل جناحه الرأفة والحنان والحب! أرأيت يا صديقي؟ أرأيت هذا الطير، يطير عن أنثاه إلى غيرها، وهو نفسه الذي تعلقها، وفتنه ما فيها من أنوثة وجمال؛ وهو نفسه الذي اختارها لتشاركه حياة الطير، وزقها وزقته، وبادلها وبادلته الحب والحنان؛ أم كان ينتقص من حريته، ويسلب رأيه لو كان تعلم. . .؟
إن الذي تعلم منا، قد تعلم ليمسك بمفتاح القيد الذي ضمت به إحدى رجليه إلى الأخرى، وشدت إحدى يديه إلى الثانية، وماذا يكون وراء العلم إن لم يكن هذا؟. وإذا كان الرجل يقول: (هذا أبي، وتلك أمي، وهؤلاء أهلي) لينتسب إليهم، أفيخرج عن أهله إن هو قال: (وهذه زوجتي؟) وإذا كنت رجلا تنفذ إليه المرأة بين الشيطان والحيوان منه، ويصده عنها الرجل الذي في عقله، أفكنت غير الرجل الذي يريد أن يتمم القصة التي أتمها الله لآدم بحواء؟ وهل قال الله لآدم: (هذه متسماة عليك؟) أم قال لملك الحب: (ضع سحرك، وابذر لغرسك؟) فهم آدم ليعانق حواء، وهمت هي لتعانقه، فبدت الطبيعة أجمل ما تكون في عين رجل وامرأة، ورأى بعين الحب التي تشع نظراتها من القلب، وهو كان يرى بعين الجسد فما وراء نظرته معنى ولا عاطفة. ثم خلق من حبهما شاعرا، وأديبا، وفيلسوفا، وعبقريا و. . . وعاشقا وعاشقة
قلت: وي! كأنك طرت من الدنيا فلم تهبط إلا في الفردوس؛ كأنك لا ترى أنك في حجرة إن لم تكن ضيقة فهي ليست بالواسعة!
واندفع الشاب في خياله، وكأنه أراد أن يجمع إلى كتبه التي يطالعها؛ ويرى الجمال في صفحاتها، صفحة أخرى من جمال الطبيعة، وثالثة من جمال المرأة؛ وظن الجمال في عقله عند الكتاب، وفي نظرة تحت ظل شجرة وارفة على ضفاف الوادي، في قلبه عند امرأة جميلة يميل إليها ويحبها ويرافقها إلى حيث يشبه الطائر الذي تحدث عنه؛ وفي أذنه عند زقزقة العصافير، وفي حديث هذه الفتاة التي يزعم عندها الجمال والرقة والعقل؛ وفي شمه عند نسيم الصباح وشذى هذه المحبوبة التي عرفها وهيمها وهيمته، وخيل إلي أن تعاويذها قد فعلت فيه، وأن قارها قد نالت منه، وأنه قد أسلس لها وانقاد، فقلت: أما أنت منها فكالذي نوم فهو يسير على غير إرادته، أو سحر فهو ينظر بغير عينيه، أو التاث فهو يمشي في غير طريقه؛ وأن كان أستاذنا قد قال: فما يملك أن يرفع السحر عنك، ولكن في كلماته سحرا من نوع آخر. . .
قال: والذي يذهب بعقلي أن يقول الناس: إنك مسحور أو بك لوثة؛ وقد تعلمت - فيما تعلمت من حياتي - أن أفكر بعقل الفيلسوف، وأن أطير في سماء الخيال إلى حيث أقع؛ ولئن كان الخيال قد أضر بي قليلا، إنه لقد شب معي مقدار ما شب عقلي معي، فكان عقلي وخيالي، ثم كانت حياتي وكلها دراسة عميقة فلسفية - فحجب عقلي خيالي حينا، ثم عاد خيالي للظهور مع هذه، ولكنه لم يحجب عقلي، وكانت هي عقلا إلى عقلي، وليست خيالا إلى خيالي؛ فكان عقلي أولاً ثم خيالي الصغير، وكانت تقول: (أنا لك بعد عملك ومستقبلك، ولست لك إلا أن تكون رجلا فذا) فتدفعني بكلماتها وقلبها وعقلها إلى المثل الأعلى. فيا ضيعة الأمل إن خاب هذا المثل، ورددت إلى منزلي لأرى فيه مصيبتي!! ويا خيبة الرجاء إن صرت كذلك الحداد أو النجار أو الحوذي، أو. . . أو غيرهم ممن لا يرون في الحياة إلا أنها اللقمة والثوب والمأوى، ثم. . . ثم ذلك الضجيج البيتي الذي يصبح فيه هو وزوجته ويمسي، والذي يشب عليه أبناؤهما فيأخذون من سوء الخلق، وضعة الأخلاق، وسفالة الطبع، والشقاق، والتنابذ، مما رأوا عليه أبويهم
إن أستاذنا ليقول: إنها فتاة الشعر والخيال، وما هي كذلك، وما قابلتها مرة، أو حاولت ذلك إلا بعد أن خلع عني خيالي، لأخاطبها بلسان الفيلسوف، وعقل الحكيم، وكم أردت أن أقول لها: (أي فتاتي. . . . . .) لأندفع في غزل رقيق، فكانت تنظر إلي بعين تقول منها: (ليست هذه لغتنا. . .) فأرتد لأقول: (ولقد قرأت. . . . . .) ثم أخلو لنفسي لأشبع رغبتي في الحديث الآخر. . . بيني وبين نفسي. . .!
قلت: أفترى أن الفيلسوفة العالمة تستطيع أن تكون زوجا وربة دار، وأن تكون أما ومديرة بيت؟ وهل تراها تنشئ لك الحياة التي قدرتها في خيالك؟ إن الحياة - يا صديقي - شيء غير هذا كله، وإنك لمن بيت فيه الدين والاحتشام والشهامة؛ أفليس من ذلك كله أن تمسك عليك زوجك التي اختار أبوك، وأن تمنحها من نفسك ما يمنح الزوج؟
قال: إنك تنحو منحى أستاذك. أفتريد أن تضيف إلى همومي هماً آخر، وأنا جئتك أستعينك على همي. . .! لقد كان أستاذك في مقاله كالذي ينزع سكينا هو أغمدها في صدري ليداوي جرحا هو الذي بلغ به هذا العمق العميق، حتى إذا ما التأم أو كاد، عاد فنكأه، ثم عاد ثالثة ليداويه. . .! وصاحبتي التي اصطلحتما عليها لم تكن مني إلا بمنزلة المنظار من عين الأعشى ينظر من خلاله إلى هذا العالم فيرى ما يراه ذو العين الصحيحة؛ ولم تكن من قلبي إلا بمنزلة الاطمئنان من قلب مضطرب، ولم تكن من عقلي إلا بمنزلة الطبيعة تفتح فيه طرقا معبدة؛ ولم تكن من حياتي إلا بمنزلة الصديق الوفي. ولعلك تذكر يوم أن كتبت إليك وكنت بعيدا: (لقد أبللت من مرضي. . .) كان أخي في منأى عني، ووقفت زوجتي جوار سريري، لا تعرف كيف تصب الدواء في فنجانه، ولا متى يكون. وهفت نفسي إلى التي أحبها حين خيل إلي أني أموت فكتبت إليها وألححت؛ فزارتني على استحياء، ثم ألححت فوقفت مني موقف الطبيب من مريضه. . . ثم كتبت إلى أهلي تقول: (إن أبنكم يحتاج إلى من يقوم عليه. . .) كتبت ذلك حين رأت أن في زيارتها شيئا، ثم. . . ثم لم تعد
ولم أبللت وخرجت للقائها قالت: لقد كنت قاسيا، وما استطعت أن أرفض حين رأيت الخطر. وما كان أجدر بي وبك ألا نقطع هذه المرحلة. يا لشقائي بك! ويا لشقاء زوجك بك! لقد أصبت قلبين بسهم.
وقالت لي وقلت لها، ثم افترقنا، وأردت أن أهب إلى التي في داري بعض نفسي فأشعرها بأننا أنثى ورجل؛ فارتد قلبي عنها، ثم أرغمته فارتد أخرى، وأظلم منزلي من بهجة العزوبة ومن جمال الزواج معا. وأصبحت الدار التي جعلتها لسكناي هي جحيمي، ففررت إلى الشارع وإلى عملي؛ وشعرت الأخرى أنها لا تملك في هذا المنزل ما تملكه الزوجة ففرت إلى حجرتها وإلى خادمتها؛ واعتزلتها، واعتزلتني؛ ورجعنا إلى ما كان، حين كان بيننا (الباب المغلق) سنوات تسعا
قلت أن أولى الناس بإحسان المحسن، هو القريب، فالجار الجنب، فالصاحب بالجنب؛ وقد عرفتك محسنا، وهذه من ذوي قرابتك، وأقرب إليك من جارك؛ أفلا تكون محسنا معها؟
قال: لقد كنت أستطيعه لو وجدت النور. إنها لظلام وظلام وظلام. . . أما الظلام الأول ففي منزلي، وأما الظلام الثاني ففي قلبي، وأما الظلام الثالث ففي عقلي. . .!
وصمت وصمت؛ وكان كأنه يسترجع الذكرى، ذكرى أيام خلت، ذاق فيها حلاوة العيش، وسعادة الرضى، وكأن حياته بماضيها ومستقبلها قد جمعت في أشهر كانا فيها. . .
ثم التفت إلي كالمذعور وقال: أما أنني كنت معها غير الرجل الذي فيه الرجولة فقط، وأما أنها كانت معي غير الأنثى التي فيها الأنوثة فقط - فلا. إلا أنها كانت توحي إلي بكلام هو من لغة السماء، وتصب في حياة هي حياة أهل الخلد؛ وكنت إلى ذلك مطمئنا وقد اطمأنت هي أيضا إليه. وقنعت وقنعت. والناس يرون في الحب الفاحشة ولا يرون فيه المجد. والذي يعيش في حياته بلا حب كالشجرة العانس. ليس إلا هي في الحديقة، ولا سبيل إلى أن تجد الشجرة الأخرى. . . فلا هي بالذابلة الجافة، ولا هي بالمثمرة؛ ولكنها بارتفاعها وفقرها تقول: (أنا. . . أنا الموجود الذي لا وجود له.) فما أسرع ما تمتد إليها يد لتقتلعها، وحين ترى نفسها وقد نالتها فأس الحطاب تقول (. . أنا. . ويلي!. . أنا الضائعة). أن الذي لا يحب الجمال ولا يلتمسه في امرأة؛ ثم يفاخر غيره بذلك، إنه لا يقول للناس (أنا لا أحب ولا أقدر الحب.) بل يقول (أنا. . ما أنا في الأحياء!. . أنا. . أنا ميت الأحياء) والضعف الذي يراه في الذين عرفوا الحب وآمنوا به، إنما هو ضعف في إنسانيته هو لا في إنسانيتهم، والذي لا يدرك الجمال في المرأة لا يدركه في الطبيعة؛ لأن المرأة هي المنظار المكبر الذي ينظر الرجل من ورائه إلى ما حوله. وإلا فهو لا يرى موضعه من الأحياء. .)
أنا. . أنا إنسان ولا أستطيع أن أقول إن كل شيء جميل، وإن كان القبح جمال فقد يكون الجمال قبح؛ ولكن هذه التي يقولون عنها إنها جميلة. . . ثم أرغموني عليها وأرغموها على لا أرى في قبحها جمالا ولا في بؤس الحياة معها فنا. . .
قلت: ويك: لقد اصطرعت في نفسك عوامل رانت على بصرك وتركتك في بيداء من الوهم والخيال، كأنك تريد أن تخلع ثوبك؛ وقد يكون في الذي تخلعه جمال!
قال: أما أن أظل شريدا، فلا. وأما أن أحتمل مع عبئ عبئا آخر، فلا. وأما أنني أهتم بنفسي، فنعم. وماذا يضيرني ويضير هذا العالم بما فيه أهلي وأهلها إذا لبست فوقي ثوبي القديم ثوبا آخر، فيخفي عن عيني وعين الناس هذا القبيح الذي كنت ألبس؟
ثم تركني، وأنا أقول: وا أسفا لهذا الشاب!! أثقل عليه أن صفحة من صفحات قلبه قد نشرت وهو كان يحمل الهم كله في صدره فما يثقل عليه؟ ويل للشاب من الشيخ فذلك يتكلم بوجدانه وعاطفته وقلبه، وذاك يتكلم بعقله وتجاربه وفلسفته. فأين يلتقيان!
كامل محمود حبيب