مجلة الرسالة/العدد 125/مذاهب الفلسفة
مجلة الرسالة/العدد 125/مذاهب الفلسفة
- 3 - المذهب الطبيعي
للأستاذ زكي نجيب محمود
ولكن مهلا! فلأنصار الروحية من البراهين على وجود الله ما يقوض هذا المذهب ويدكه من أساسه دكاً، لأنه إذا ثبت وجود الله فقد نهض الدليل على صدق العقائد الدينية قوياً دافعاً، وبطل هذا الهراءُ الذي يهرف به الطبيعيون، ونحن نتخير من تلك البراهين ما يلي:
(1) أن ما في الطبيعة من نظام دقيق وجمال خلاب يستحيل عقلاً أن يكون قد جاء عرضاً بغير تقدير وتدبير، فإذا كانت الظواهر المادية تسير وفق طائفة من القوانين الثابتة المطردة، فلابد أن يكون هنالك من صاغ لها هذه القوانين واكسبها ما لها من قوة وثبات. كذلك يستحيل أن يكون جمال الطبيعة وتناسق أجزائها مصادفة طارئة، وإلا كنا كمن يزعم أن الساعة إذا تحطمت عُددها وانتثرت أجزاؤها، أمكنها أن تلتئم من تلقاء نفسها، وان تبدأ السير والحركة من جديد!
(2) أن مجرد وجود فكرة الله في أذهاننا دليل على حقيقة وجودها في الخارج؛ وذلك لأننا نتصور بعقولنا كمالاً مطلقاً، وهذا الكمال لا يتم إطلاقه إلا إذا وجد وجوداً فعلياً، فإن لم يوجد كانت فكرتنا عن الكمال ناقصة صفة الوجود، وفن هذه الحالة - أي في حالة اقتصار فكرة الكمال على مجرد التصور الذهني - نناقض أنفسنا، فنكون كمن يقول: (أني أتصور كمالاً مطلقاً ولكنه ناقص!) مع أن الكمال والنقص لا يجتمعان.
وهنالك من الأدلة الأخرى على وجود الله ما هو شائع معروف.
وبعد هذا كله فهل ترى هذا المذهب الطبيعي قد فسر لنا شيئاً؟ إن قضيته باختصار هي أن الكون كله مادة يسيرها القانون، وأن العقل الإنساني كسائر الظواهر قطعة من المادة تتبع في سيرها نفس القوانين التي تسيطر على قطعة من الحجر!
(1) أما أن الكون مادة فقط، فلا يقدم ذلك في القضية ولا يؤخر، لأنه قول لا يقلل شيئاً تعد أن خلصت الأبحاث العلمية الحديثة إلى أن الذرة المادية ليست كائناً بسيطاً، بل أن كل واحدة منها عالم دقيق على جانب عظيم من التركب والتعقد وأنها قادرة من تلقاء نفسها على التكون والانحلال والتحول، كذلك لم يعد الحد الفاصل بين المادة والقوة محدداً واضحاً كما كان من قبل، فقد يظهر أنهما درجتان من حقيقة واحدة، وأن ذرة أو الذرة إلى قوة، وإذن فلا يكفي في تعليل الكون أن نقول إنه مؤلف من مادة، لأن في هذه المادة نفسها ما يحتاج إلى التعليل.
(2) وأما زعم الماديين بأن العقل ظاهرة مادية، وأن حقيقة الإحساس كما يقول هوبز إن هي إلا حركة في الجهاز العصبي، وإن الفكر سلسلة من الاحساسات الماضية، أي أنه مجموعة حركات متعاقبة، فيكفي لهدمه أن نطالبهم مثلا بشرح هذه العبارة: (أنا أحب هذه الوردة الجميلة) إنها حقيقة فكرية أحس بها ولا شك في وجودها؛ فهل يقول الماديون أن هذا الحب هو هزة الأعصاب على نحو معين؟ خذ مجهرك وانظر إلى الأعصاب فسترى قطعة من المادة تهتز وتتحرك حقاً، ولكنك لن ترى (حباً) ولو حدقت في مجهرك عاماً كاملاً!! هذا، وان لنا أن نسائل الماديين: لماذا لا تنتج الحركة في كل ظواهر الوجود المادي إلا حركة مثلها، ثم هي في الإنسان تنتج إحساساً وفكراً؟ وما احسبنا ظافرين منهم بالجواب! وإذن فقد عجز هذا المذهب الطبيعي عن تفسير ظاهرة عن ظاهرة العقل كما فشل في شرح المادة نفسها.
(3) وأخيراً، يقول أنصار هذا المذهب أن حوادث الكون يمكن تفسيرها بما يسيرها من القوانين العلمية، ولكن أي عقل يكفيه هذا التفسير؟ أني أرى مثلاً هذه القطعة من الحديد تتمدد نهاراً وتتقلص ليلاً، فلماذا؟ سيقولون أنه قانون الحرارة المعروف الذي تتمدد نهاراً وتتقلص ليلاً، فلماذا؟ سيقولون إنه قانون الحرارة الذي تتمدد المادة على سننه وقواعده، ولكن لماذا تمدِّدُ الحرارة الجسام؟ فإن أجبت عن هذا السؤال بما يجيب به أرباب العلم من أن ذلك ناشئ عن تصادم الذرات أثناء تحركها، فسأعود إلى استجابتك: ولماذا يحدث هذا، حتى تقر معي بأن هنالك آخر المر ما يتعذر تعليله بأصول هذا المذهب، وإن القوانين التي يلجأون إليها لتعليل ظواهر الكون هي بدورها تحتاج إلى التعليل.
مذهب الذرائع
لقد لبثت الفلسفة دهراً طويلاً تسبح في سماء الفكر المجرد، فلا تصغي بآذانها إلى الحياة العملية التي تعج بأصدائها أرجاء الأرض جميعاً. ولا تحفل بالواقع الذي تراه الأبصار إلا قليلا، فقد قصرت مجهودها - في الأعم الأغلب - على جوهر الأشياء في ذاتها، وأخذت تسائل: ما المادة وما الروح وما مبعثهما؟ ولكنها باءت بعد طول الكدح والعناء بالفشل والإفلاس. . . حتى جاء الفكر الأمريكي الحديث الذي يقدس العمل ويمقت البحث النظري المجدب العقيم، وأراد أن ينحو بالفكر نحواً جديداً، فلا يكون من شأنه كنه الشيء ومصدره، بل نتيجته وعقباه. ولقد كان أول من صاغ هذا المذهب وليام جيمس (1842 - 1910) الذي اعترف أنه قد استمد أصوله وقواعده من أشتات قديمة، وانّ له فضل الصياغة والتعبير. أما رسالته التي قصد إلى أدائها بمذهبه فهي في أوجز عبارة: أن يتخذ الإنسان من أفكاره وآرائه ذرائع يستعين بها على حفظ بقائه أولاً ثم على السير بالحياة نحو السمو والكمال ثانياً.
أنه لمن الغفلة والشطط أن نُؤتى هذه القوة العقلية فنبددها في البحث عما وراء الطبيعة، من قوى مما لا غناء فيه للإنسان ولا رجاء؛ أن العقل إنما خلق ليكون أداة للحياة ووسيلة لحفظها وكمالها، فلينصرف إلى أداء واجبه، وليضرب في معمعان الحياة العملية الواقعة، فليست مهمته أن يصور بريشته عالم الغيب المجهول، الذي لا يكاد يربطه بحياة الإنسان سبب من الأسباب. . وليكن مقياسه الذي يفصل به بين الحق والباطل هو مقدرة الفكرة المعينة على إنجاز أغراض الإنسان في حياته العلمية، فإن تضاربت الآراء وتعارضت، كان أحقها وأصدقها هو أنفعها وأجداها، الذي تنهض التجربة العملية دليلاً على فائدته. وكل شئ يؤثر في الحياة أثراً منتجاً يجب أن يكون في اعتبارنا هو الحقيقة، بغض النظر عن مطابقته أو عدم مطابقته لما يخلقه الفكر المجرد من معايير، إذ لا يُعَوِّل مذهب الذرائع إلا على النتائج وحدها؛ فإن كان الرأي مثمراً نافعاً قبلناه حقيقة، وإلا أسقطناه من حسابنا وهما باطلاً.
والواقع أن معظم الناس يتبعون في حياتهم العلمية أصول هذا المذهب، فهم ينتقون لأنفسهم من الآراء ما يعين على تحقيق أغراضهم التي يقصدون إليها، أو ما يعمل إلى رقي الإنسانية وتقدم البشر بصفة عامة. خذ العقيدة في الله مثلاً، فالأكثرية العظمى تأخذ بها لا لأن الدليل قاطع بوجوده، (فذلك ابعد عن متناول الدهماء) ولكن لأنها ترى أن هذه العقيدة تبث في حياة الناس روحاً قوية، وتفسح أمامهم في الأمل الجميل الذي تزدهر به الحياة وتبتسم، والذي لولاه لضقنا ذرعا بفداحة عبئها. . . فليس منا من لا يقيس الآراء بظروف عَيشْه ثم يختار منها انسبها له وافعلها في أداء مهمته، فسلوكنا العمليُّ هو في الواقع الذي يوجه أفكارنا. وليست أفكارنا هي التي توجه أعمالنا. ولقد قال موسوليني يوماً أنه يدين لوليام جيمس بكثير من آرائه السياسية، وانه بتأثيره لا يحتكم في سياسته إلى نظريات العقل المجرد، إنما يسلك من السبل ما يراه أقوم وأدنى إنتاجاً.
وأن نيتشه ليذهب في هذا الاتجاه إلى أقصاه فيقرر أن البطل إذا كان وسيلة ناجعة لحفظ الحياة كان خيراً من الحقيقة؛ فبطلان الرأي لا يمنع قبوله ما دام عملاً من عوامل بقاء الفرد وحفظ النوع، فلرب أكذوبة أو أسطورة تدفع الحياة إلى الأمام بما تعجز عنه الحقيقة المجردة العارية. انظر كيف تفعل الوطنية في رأس الجندي فيطوح بنفسه بين براثن الموت، ولو حكم عقله المجرد لما فعل؛ بل انظر كم يبدل الآباء والأمهات من مجهود في سبيل أبنائهم، ولو استرشدوا العقل وحده لآثروا أشخاصهم ولضنوا على الأبناء بأي بذل أو عطاء، ولكننا لحسن الطالع ذرائعيون بالفطرة، فنعتنق من الآراء احفظها للحياة، ولولا ذلك لظلت الإنسانية في حيوانيتها الأولى لا تتقدم ولا تسير.
ولا يقتصر الأمر في ذلك عامة الناس، بل أرباب العلم أنفسهم ليأخذون بطائفة كبيرة من الآراء التي تعين على المضي في بحثهم، دون أن ينهض الدليل العقلي على صحة تلك الآراء التي اتخذوها أساساً لأبحاثهم، فلا يدري العلم ما الأثير وما الجاذبية وما المادة وما الطاقة وما الكهرباء، ولكنه يفرضها لأنها تعينه على أداء مهمته، وهذا بعينه ما يدعو إليه مذهب الذرائع، فيكفي لان تكون تلك الآراء صحيحة إنها توجهنا في حياتنا توجيهاً صحيحاً، فلا يعنينا في كثير ولا قليل أن نعلم ما هي الكهرباء في ذاتها ما دمنا نستطيع أن نستخدمها، فحسبنا من معناها آثارها، وليكن معنى الكهرباء هو ما تعمله وما تؤديه. وعلى هذا النحو يمكننا أن نتخلص من أعوص المشاكل الفكرية التي أرهقت الفلسفة بغير طائل؛ فلندع جانباً كل بحث عن ماهية القوة أو ماهية المادة أو ماهية الله وما إلى ذلك، وحسبنا منها أن نبحث عن الآثار التي تنشأ عنها في حياتنا اليومية العملية، فان لم يكن لها آثار فيما نصادف من تجارب وجب اعتبارها ألفاظاً جوفاء لا تحمل من المعنى شيئاً.
يتبع
زكي نجيب محمود