مجلة الرسالة/العدد 125/شاعرنا العالمي أبو العتاهية
مجلة الرسالة/العدد 125/شاعرنا العالمي أبو العتاهية
14 - شاعرنا العالمي أبو العتاهية
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
تتمة
محاسنه ومآخذه:
إذا كان لأبي العتاهية ذلك الفضل في الشعر العربي بطريقته الجديدة التي أحدثها فيه، وتوخيه فيه السهولة التي تجعله قريب النفع، وتجعل منه أداة صالحة لتقويم الشعب، فانه كان أحياناً يفرط في هذه السهولة، فينزل فيها إلى اللغة الدارجة، والواجب أن يتوسط في ذلك ويسلك في الشعر لغة بين هذه اللغة ولغته القديمة الجافة؛ ومما يؤخذ عليه من ذلك قوله:
إلا يا عُتْبَةُ الساعَهْ ... أموتُ الساعَةَ الساعَهْ
وقد قيل لأبي برزة الأعرابي أحد بني قيس بن ثعلبة: أيعجبك هذا الشعر؟ فقال: لا والله ما يعجبني، ولكن يعجبني قول الآخر:
جاء شقِيقٌ عارضا رُمحَهُ ... أن بني عمك فيهم رماحْ
هل احدَثَ الدهرُ لنا نكبةً ... أم هل رَقتْ أمُّ شقيق سلاح
أي نفثت فيه حتى لا يعمل شيئاً. ولا يفوتنا أن نأخذ على هذا الأعرابي أن هذا الشعر لا يصح أن يذكر مع ذلك الشعر، ولكن يجب أن يذكر معه غزل من نوعه، وفي معنى يمت بسبب إلى معناه، لتكون الموازنة صحيحة بينهما، وتظهر الفروق بين الشعرين تمام الظهور.
وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وكان ممن ينكر على أبي العتاهية: أنكر الرشيد علي طعني على أبي العتاهية في شعره، فقلت يا أمير المؤمنين هو أطبع الناس، ولكن ربما تحرف، أي شئ من الشعر قوله:
هُوَ الله هُوَ الله ... ولَكِن يغفر الله
وقال أبو عبيد الله المرزباني: ومما أنكر على أبي العتاهية من سفساف شعره قوله في عتبة: ولَّهَني حبُّها وصيرني ... مثل جُحى شهرة ومشخلَبَهْ
وقوله:
يا وَاهَا لذكر الل ... هـ ياوَاهَا ويا وَاهَا
لقد طَيَّبَ ذكر الل ... هـ بالتسبيح أفواها
أرى قوماً يتيهونَ ... حُشوشاً رزقوا جاها
فما أنْتنَ من حُش ... على حُش إذا تاها
وقال علي بن أبي المنذر العروضي: لما مات سعيد بن وهب الشاعر حضر أبي جنازته، وحضرها الفضل بن الربيع، وكان قد ظهر أيام المأمون، فلما دفن أثنى عليه الفضل، وأقبل على أبي العتاهية يحدثه انه أودع القضاة والعدول أموالا فما وفوا له، وانه أودع سعيد بن وهب مالا فوفى به، فقال أبي لأبي العتاهية: ألا ترثيه؟ قال: بلى، قال أبي: ثم صرت بعد أيام إلى الفضل ابن الربيع فأخرج إليّ رقعة، فقال: اقرأ مرثية أبي العتاهية لسعيد بن وهب، فإذا فيها:
مات والله سعيدُ بن وهب ... رحم الله سعيَد بن وهب
يا أبا عثمان أبكيتَ عيني ... يا أبا عثمان أوجعت قلبي
فقلت ما ادري ما أقول؟ فقال الفضل: أبو العتاهية بأن يرثى في حياته أولى من سعيد بعد موته، قال الصولي: وله شبيه بهذا في محمد بن يزيد المسلمي:
قد مات خِلي وأُنسي ... محمد بن يَزِيدِ
ما الموتُ والله منا ... خلافه ببعيد
قال أبو عبيد الله المرزباني: وقوله في مرثية عيسى بن جعفر أشبه بقوله في سعيد بن وهب مما ذكره الصولي وهو:
بكت عيني على عيسى بن جعفر ... عفا الرحمن عن عيسى بن جعفر
ويمكن أن يعتذر عن هذا وأشباهه بأنه مما كان يقوله أبو العتاهية في حديثه السائر ولا يريد به الشعر، وقد روى أبو الفرج رثاءه لسعيد بن وهب بطريق آخر فقال: اخبرني علي بن سليمان الأخفش عن محمد بن مزيد، فال: حدثت عن بعض أصحاب أبي العتاهية، قال: جاء رجل إلى أبي العتاهية ونحن عنده فساره في شئ فبكى أبو العتاهية، فقلنا له: ما قال لك هذا الرجل يا أبا اسحاق فأبكاك؟ فقال وهو يحدثنا لا يريد أن يقول شعراً:
قال لي مات سعيد بن وهب ... رحم الله سعيد بن وهب
يا أبا عثمان أبكيت عيني ... يا أبا عثمان أوجعت قلبي
قال فعجبنا من طبعه، وانه يحدث فكان حديثه شعراً موزونا، وإنا نرجح هذه الرواية بورودها عمن شاهد هذا الشعر حين يقال وعاينه بنفسه، ولعل الفضل غير فيه هذا التغيير، ثم رواه بذلك الشكل ليزري به على أبي العتاهية بعد أن فسد ما بينهما على ما ذكرنا
ومما أنكر على أبي العتاهية قوله:
حلاوةُ عيشك ممزوجةٌ ... فما تأكل الشهد إلا بسَم
فالمعنى صحيح لأنه جعله مثلا لبؤس الدنيا الممازج لنعيمها، والعبارة غير مرضية، لأنا لم نر أحداً أكل شهدا بسم، وأجود من قوله لفظاً، وأصح معنى، قول ابن الرومي:
وهل خُلةٌ معسول الطعم تجْتَنى ... من البيض إلا حيثُ واشٍ يكيدُهَا
مع الواصل الواشي وهل تجْتَنِى يَدٌ ... جَنَى النحل إلا حيثُ نحْلٌ يذُودُها
وأنكر عليه أيضاً قوله:
يا ذا الذي في الحب يَلحَى أمَا ... والله لو كُلِّفتَ منه كما
كلفتُ من حبْ رخيم لَمَا ... لمتَ على الحب فذرني وما
ألقى فإني لستُ أدري بما ... بُلِيتُ إلا أنني بينما
أنا بباب القصر في بعض ما ... أطوف في قصرهم إذ رَمَى
قلبي غزالٌ بسهام فما ... أخْطَأ بها قلبي ولكنما
سهماه عينان له كلما ... أراد قتلي بهما سَلمَّا
فانه من الشعر المضمن، والتضمين عندهم عيب شديد في الشعر، وخير الشعر عندهم ما قام بنفسه، وخير الأبيات ما كفى بعضه دون بعض، مثل قول النابغة:
ولست بمستبق أخاً لا تَلمهُ ... على شعثٍ أيُّ الرجال المهذَّبُ
فلو تمثل إنسان ببعضه لكفاه، إن قال (أي الرجال المهذب) كفاه، وان قال (ولست بمستبق أخا لا تلمه على شعث) كفاه، وقد سبق أني لا أرى رأيهم في عيب هذا التضمين، ولست أدري لماذا لا نجيز في الأسلوب تفصصي هذه القطعة الشعرية البارعة المتماسكة، فيكون لنا من تماسكها وحدة شعرية ملائمة لوحدة قصتها، كما يكون لنا في الحكم ونحوها أبيات مستقلة، فيها يقوم كل بيت منها حكمة قائمة برأسها.
أما محاسنه وعيون شعره فنذكر منها ما اثر عنهم، واستحق به التقديم عندهم، قال موسى بن صالح الشهرزوري: أتيت الخاسر فقلت له أنشدني لنفسك، قال لا ولكن أنشدك لأشعار الجن والإنس، لأبي العتاهية، ثم أنشدني قوله:
سكنٌ يبقى له سَكنُ ... ما بهذا يؤذن الزَّمَنُ
نحن في دار يُخَبّرُنا ... ببَلاهَا ناطق لَسِنُ
في سبيل الله أنفسُنَا ... كلنَا بالموت مُرْتهَنُ
كلُّ نفس عند ميتها ... حَظُّها من مالها الكفن
أن مَالَ المرء ليس له ... منه إلا ذكرُهُ الحسن
وقال بشار لأبي العتاهية: أنا والله استحسن اعتذارك من دمعك حيث تقول:
كم مِنْ صديق لي أُسَا ... رِقُهُ البكاَء من الحياءِ
فإذا تأمل لامَنِي ... فأقول ما بي من بكاء
لكن ذهبتُ لأرتدي ... فطرفتُ عيني بالرداء
فقال له أبو العتاهية: لا والله يا أبا معاذ ما لذت إلا بمعناك ولا اجتنيت إلا من غرسك حيث تقول:
شكوت إلى الغواني ما ألاقي ... وقلت لهن ما يومي بَعِيد
فقلن بكيتَ قلتُ لهن كلا ... وقد يبكي من الشوق الجَلِيد
ولكني أصابَ سوادَ عيني ... عُوَيْدُ قَذَى له طَرفٌ حديد
فقلن فما لدمعهما سواء ... أكِلْتَا مقلتيك أصاب عود
وقال أبو سلمة الباذغيسي: قلت لأبي العتاهية في أي شعر أنت أشعر: قال قولي:
الناسُ في غَفَلاتِهمْ ... وَرَحا المنية تَطَحنُ
وقال الفضل بن البيع لأبي العتاهية: يا أبا إسحاق ما أحسن بيتين لك وأصدقهما! قال قولك: ما الناس إلا للكثير المال أو ... لَمُسَلُّطٍ ما دام في سلطانه
فإذا الزمان رماهما بِبَلِيَّةٍ ... كان الثِّقَاتُ هناك من اعوانه
وقال عبد الله بن الحسن بن سهل الكاتب: قلت لأبي العتاهية أنشدني من شعرك ما يستحسن فأنشدني:
ما أسْرَع الأيام في الشَهْرِ ... وأسرع الاشهُرَ في الْعُمْر
ليس لمن ليست له حيلةٌ ... موجودةٌ خير من الصبر
فاخْط مع الدهر إذا ما خَطا ... واجْر مع الدهر كما يجري
من سَابَقَ الدهر كَبَا كبوة ... لم يُستَقُلْها آخر الدهر
وقال أبو تمام الطائي: لأبي العتاهية خمسة أبيات ما شركه فيها أحد، ولا قدر على مثلها متقدم ولا متأخر، وهي قوله:
الناسُ في غَفَلاتِهمْ=ورحا المنية تطحنُ
وقوله لأحمد بن يوسف:
ألم تر أن الفقر يُرجَى له الغنى ... وأن الغني يخْشَى عليه من الفقر
وقوله في موسى الهادي:
ولما اسْتَقَلوا بأثقالِهمْ ... وقد أزمعوا للذي أزمعوا
قرنتُ التفاتي بآثارهم ... وأتبعتهم مُقْلةً تدمع
وقوله:
هب الدنيا تصير إليك عَفْواً ... أليس مصير ذاك إلى زَوَال
وقال العتبي: رؤى مروان بن أبي حفصة واقفا بباب الجسر كئيباً آسفاً ينكت بسوطه في معرفة دابته، فقيل له يا أبا السمط ما الذي تراه بك؟ قال أخبركم بالعجب: مدحت أمير المؤمنين فوصفت له ناقتي من خطامها إلى خفيها، ووصفت الفيافي من اليمامة إلى بابه أرضاً أرضاً، ورملة رملة، حتى إذا أشفيت منه على غناء الدهر، جاء ابن بياعة النخاخير - يعني أبا العتاهية - فانشده بيتين فضعضع بهما شعري، وسواه في الجائزة بي، فقيل وما البيتان؟ فأنشد:
إن المطايا تشتكيك لأنها ... تطوى اليك سباسباً ورمالا فإذا رحلن بنا رحلن مخفَّة ... وإذا رجعن بنا رجعن ثقالا
وهذا قليل من كثير من عيون شعر أبي العتاهية، وديوان شعره في جزأين كبيرين أولهما في الزهد، وثانيهما في الأغراض الأخرى، وقد جمعه أحد القسوس اليسوعيين نقلا عن رواية النمري وكتب مشاهير الأدباء كالأصفهاني والمبرد وابن عبد ربه والمسعودي والماوردي والغزالي وغيرهم، وهو مطبوع في بيروت سنة 1305هـ سنة 1886م.
وليس في هذا الديوان كل شعر أبي العتاهية، لأنه كان أحد ثلاثة لم تمكن الإحاطة بشعرهم لكثرته، وهم بشار والسيد الحميري وأبو العتاهية، وكان في هذا أكثرهم شعرا، ولعلنا بما كتبناه في حياته وشعره نكون قد قربناه لمن يجهله أو يجحد به، وقدمنا للأدباء مثلا من الشعر لنبيل الذي يجب أن ينسجوا على منواله.
عبد المتعال الصعيدي