مجلة الرسالة/العدد 124/معركة عدوى
مجلة الرسالة/العدد 124/معركة عدوى
4 - معركة عدوى
للأستاذ الفريق طه باشا الهاشمي
رئيس أركان حرب الجيش العراقي
علاقة الطليان بالحبشة
نشأت هذه العلاقة من اشتراك إيطاليا في سياسة الاستعمار. ففي اليوم الذي نال الطليان وحدتهم تامة غير منقوصة بعد حرب 1870 أخذت الجرائد الطليانية تطالب بالمستعمرات الإيطالية بحجة أن الطليان في زيادة مستمرة في بلادهم فيحتاجون إلى أرض أخرى للسكنى فيها.
فاستأجرت في سنة 1870 شركة (روباتينو) أرضاً من الأهلين في جوار (عصب) لمدة عشر سنوات. وكانت أرض مصوع وما يجاورها ملكاً للعثمانيين ولكنهم تنازلوا عنها لخديو مصر مقابل خراج سنوي. وعند انقضاء مدة الإيجار اشترت الشركة الأرض المذكورة. ولما احتل البريطانيون أرض مصر أعلن الطليان أن (عصب) مستعمرة طليانية فأخذت البعثات الطليانية تتجول في أرض دناكل والحبشة برغم هلاك بعضها بيد سكان البلاد، وكان البريطانيون في هذا التاريخ منهمكين في مقاتلة جماعة المهدي في السودان. وأراد الطليان أن يقلدوا البريطانيين في تشكيل القوات في المستعمرات فأخرجوا قوة طليانية صغيرة إلى (عصب) لحماية الشركة هناك وجعلوا هذه القوة نواة لتشكيلات أهلية أخرى أسوة بالبريطانيين.
وعقيب انتصارات المهدي في السودان اضطر المصريون إلى إخلاء مصوع وهرر وأرض الصومال والانسحاب إلى الشمال. فاستفاد الفرنسيون من ذلك فعقدوا معاهدة مع سلطان هرر واحتلوا خليج تاجورة بأجمعه. فارتاب البريطانيون في ذلك فأسسوا لهم مستعمرة في الصومال في جنوبي جيبوتي وجعلوا قصبة (زيلع) مركزاً لها وألحقوها بمستعمرة عدن وجعلوا سلطان هرر تحت حمايتهم.
ويظهر أن بريطانيا أرادت أن تشرك إيطاليا في حركاتها على المهدي وتجعل لفرنسا رقيباً في أرض الصومال فوافقت على أن تحتل إيطاليا مصوع في 5 شباط 1885، فخرجت يومئذ قوة طليانية إلى مصوع ورفعت العلم الطلياني على دار الحكومة. فلم يحرك خديو مصر ساكناً. بيد أن الفرنسيين لم يرتاحوا إلى ذلك، وبعد أن رسخت أقدام الطليان في مصوع وجهوا أنظارهم إلى الداخل للتوغل في أرض الحبشة، وكان هناك طريقان تجاريان يربطان مصوع بالداخل: أولهما طريق (مصوع - كرن - كسلا - الخرطوم). أما الطريق الثاني فكان متجهاً إلى الجنوب ويقطع جبال الحبشة من الشمال إلى الجنوب إلى أن يصل إلى شاطئ البحر الأحمر.
ولما كان هواء مصوع الحار الرطب غير ملائم للأوربيين فكر الطليان في الحصول على مركز في الداخل صالح للسكنى. فارتفاع قصبة كرن حوالي 1340 متراً عن سطح البحر. أما كسلا فارتفاعها يبلغ 530 متراً ولكنها محاطة برواب بشكل قلعة، ولكي يحصل البريطانيون على مساعدة الطليان في مقاتلة المهدي في السودان لوحوا للطليان بالطريق الأول.
فقررت الحكومة الطليانية تجهيز قوة لإنزالها في مصوع تأهباً لاحتلال الحبشة من جهة أخرى وذلك رغم كون القيادة في مصوع لفتت نظر ساسة الطليان إلى عاقبة الحركة في اتجاه كسلا. وكان في جنوبي مصوع ميناء عرفالي الذي كان الأحباش يعتبرونه من الموانئ الحبشية لأنهم كانوا يجلبون الملح منه، ولما رأى النجاشي (يوحانس) أن الطليان احتلوا هذا الميناء احتج على ذلك.
والحقيقة أن الحوادث بعد ذلك جعلت الحبشة وإيطاليا تقفان وجهاً لوجه لأن البريطانيين قضوا على حركة المهدي بعد وفاته واحتلوا السودان وثبتوا أقدامهم فيه.
لذلك لم يخش الأحباش خطراً من هذا الجانب. أما الطليان فأخذوا يوسعون نفوذهم في مستعمرة مصوع التي أطلقوا عليها اسم (أريترة) (أي الزنبقة الحمراء) ووسعوا ساحة الساحل باحتلالهم ميناء زولا وخليج (عدولي) ومنعوا الأحباش من أخذ الملح فاحتج النجاشي على ذلك أيضاً فلم يعبأ الطليان باحتجاجه بل سلكوا سبيل تخدير أعصاب الأحباش بإرسال البعثات وكانوا قبل ذلك أرسلوا بعثتين من (عصب) فقتلهما الدناكليون. وأرسلوا بعثة أخرى في سنة 1886 فذبحت برمتها في هرر. وفي سنة 1887 أرسلوا بعثة أخرى. ولما وصلت إلى ملك تيجري ألقى الرأس القبض عليها وحبسها. فأرسل الطليان قوة مؤلفة من 500 جندي قضى عليها الأحباش فاغتاظ الطليان لذلك فأبلغوا قوتهم في مستعمرة أريترة إلى 18 , 000 جندي وقرروا الحرب.
وحشد الأحباش رجالهم في آذار سنة 1888 أمام موضع دفاع الطليان وكان عددهم بالغاً زهاء 100 , 000. فخشي الطليان عاقبة الأمر ومالوا إلى المسألة فانسحب الأحباش لأن المهدي كان يهدد مقاطعة أمحرة فهاجمها بجيوشه ودخل عاصمتها جوندار فدمرها، فظن الطليان أن القتال بين الحبشة والمهدي سوف ينهك الأحباش فيجيبون مطالبهم لذلك أعادوا قواتهم إلى إيطاليا وتركوا 8000 جندي في أريترا.
وفي أوائل سنة 1889 جهز الأحباش بقيادة النجاشي (يوحانس) جيشاً بقوة 180 , 000 كما سبق ذكره وتقدموا نحو المهدي فوقعت معركة في (متمة) مات فيها النجاشي جريحاً وبعد أن ترك الأحباش 30 , 000 قتيل في ميدان المعركة رجعوا إلى بلادهم خاسرين.
منليك ملك الملوك
كان ملك شوعا أقوى ملوك الحبشة كما نعلم وكان من سلالة الملوك الذين يمتون بنسبهم إلى النبي سليمان وزوجته بلقيس ملكة سبأ. فاحتل منليك مدينة هرر في سنة 1887 وبسط حكمه على الغالا كلها، واستولى على مقاطعة كانا وما يجاورها فأصبح بذلك ذا نفوذ عظيم، فأراد الطليان أن يستفيدوا من حرب داخلية بالانحياز إلى جانب منليك متألبين على النجاشي (يوحانس) فأعطوه 5 , 000 بندقية و 200 , 000 طلقة ليبقى على الحياد عندما يقاتل الطليان النجاشي (يوحانس)، وكان الكونت (انطونلي) على رأس الوفد الموفد إليه فتذاكر الوفد مع منليك في الوقت الذي مات (يوحانس) في معركة متمة. فقبل منليك شروط معاهدة (أوكسالي) في سنة 1889 وكانت خلاصة أحكام المعاهدة ما يلي:
(تبادل الممثلين السياسيين، قبول خط الحدود بصورة عامة، دفع رسوم جمركية بمقدار ثمانية في المائة عن الأموال الطليانية التي تدخل أرض الحبشة عن طريق مصوع وضرب النقود الحبشية في إيطاليا، وقرض الحبشة أربعة ملايين ليرة ذهباً، وحرية التجارة على أن ينفذ حكم المعاهدة في بلاد الحبشة برمتها).
وكانت المادة السابعة عشرة تقضي على الحبشة بأن ترضى بتوسيط إيطاليا في علاقتها بالحكومات الأخرى. وكانت هذه المادة سبب الحرب بين الحبشة وإيطاليا.
فاستفاد الطليان فوراً من أحكام المعاهدة واحتلوا الأراضي التي تركت لهم بموجب المعاهدة قبل أن يوقع عليها ملك إيطاليا واحتلوا أرضاً في بلاد الحبشة.
ولم يرض ملك تيجري بأن يتعاهد الطليان مع ملك شوعا وهو الذي ورث الملك عن أبيه يوحانس واعتبر نفسه ملكاً للملوك.
واحتل الطليان في حزيران 1889 (كرن) وفي آب (أسمرة) واستمالوا أحد رؤساء تيجري إلى جانبهم. وهكذا استطاعوا أن يدخلوا (عدوى) عاصمة تيجري بسهولة.
وبهذه الواسطة تقدموا من مصوع مسافة 130 كيلو متراً فتوغلوا في أرض الحبشة واعتبروا أنفسهم حماة الحبشة بالملحق الذي أضافوه إلى المعاهدة بسهولة حتى أم ملك إيطاليا أضاف إلى ألقابه لقب (حامي بلاد الحبشة).
ولما ذهب الرأس (ماكونن) ابن عم منليك إلى رومة حاملاً مواد هذا الملحق لنص المعاهدة هلل الطليان فرحاً واستبشاراً. وكان من حقهم أن يهللوا لأنهم حصلوا على صك استعمار الحبشة دون أن يسفكوا دماً إيطالياً.
وفي تشرين الثاني سنة 1889 وقع الرأس (ماكونين) على الملحق باسم منليك وقدموا إليه مقابل ذلك أربعة ملايين فرنك و 38 , 000 بندقية و28 مدفعاً وعتاداً كثيراً عربوناً لإخلاصه.
فاعترفت الدول جميعاً بالمعاهدة وملحقها ما عدا روسيا. وفي سنة 1891 رضي البريطانيون بأن يحتل الطليان قصبة (كسلا) بصورة مؤقتة لأن قضية المهدي لم تكن قد انتهت.
أما النجاشي منليك فعني بتوحيد الحبشة وتوقيتها ونقل عاصمة البلاد من (جوندار) بعد أن أحرقها المهديون إلى أديس أبابا. ومنح الفرنسيين امتيازاً بإنشاء سكة حديدية تربط العاصمة بالساحل. ومن الطبيعي أن البريطانيين والطليان لم يرتاحوا إلى عمل منليك فاحتجوا عليه وحرضوا الرهبان عليه بدعوى أن السكة الحديدية من عمل الشيطان.
ولم يستطع الطليان أن يعملوا أكثر من ذلك لأنهم كانوا مكلفين بمساعدة البريطانيين في محاربة المهدي. وكانوا أرسلوا قوة في اتجاه كسيلا بدعوى حماية الأهلين من ظلم دراويش المهدي واحتلوا (أجوردة) وفي سنة 1894 تقدمت قوات طليانية بقيادة الجنرال (باراتيري) نحو (كسلا) وبعد معركة حامية طردوا أتباع المهدي منها واحتلوها.
أما النجاشي منليك فكان يسعى لتوحيد البلاد فاستند في السياسة الخارجية إلى صداقة فرنسا وأخذ يستميل الرؤساء المخالفين إلى جانبه في الداخل واتفق مع رأس تيجري فاعترف هذا بمنليك ملكاً لملوك الحبشة وهكذا أصبح النجاشي يحكم فعلاً بلاد الحبشة برمتها.
وأول عمل قام به بعد إعلانه ملكاً لملوك الحبشة أنه أخذ يذيب كل العملة التي ضرب الطليان عليها رسم ملك إيطاليا ويضع بدلاً من رسم الملك الإيطالي رسم النجاشي منليك ويكتب اسمه فيها بالكتابة الحبشية ويضع في الوجه الثاني للعملة شعار الحبشة الأسد والتاج.
(يتبع)
طه الهاشمي