انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 124/مدينة الزهراء وحياتها الملوكية القصيرة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 124/مدينة الزهراء وحياتها الملوكية القصيرة

مجلة الرسالة - العدد 124
مدينة الزهراء وحياتها الملوكية القصيرة
ملاحظات: بتاريخ: 18 - 11 - 1935


2 - مدينة الزهراء وحياتها الملوكية القصيرة

للأستاذ محمد عبد الله عنان

تتمة البحث

وقد انتهت إلينا هذه الضاحية الملوكية الشهيرة أوصاف وأرقام مدهشة تنبئ عما كانت عليه من الضخامة والفخامة، فقد ذكر ابن حيان مؤرخ الأندلس أن الزهراء كانت تشغل مسطحاً قدره تسعمائة وتسعون ألف ذراع، وأن مبانيها اشتملت على أربعة آلاف سارية ما بين صغيرة وكبيرة، منها ما جلب من مدينة رومة، ومنها ما أهداه قيصر قسطنطينية، وأن مصاريع أبوابها كانت تبلغ زهاء خمسة عشر ألفاً، وكلها ملبسة بالحديد والنحاس المموه؛ وذكر مؤرخ آخر أن عدد الفتيان بالزهراء كان ثلاثة عشر ألفاً وسبعمائة وخمسين فتى، وعدد النساء والحشم بالقصر ستة آلاف وثلثمائة، يصرف لهم في اليوم ثلاثة عشر ألف رطل من اللحم سوى الدجاج والحجل وغيرها. وقد لا نجد في المنشآت الملوكية الحديثة ما يذكرنا بهذه الأرقام المدهشة سوى القصر البابوي أو قصر الفاتيكان الشهير برومة وما انتهى إليه خلال العصور المتعاقبة من الضخامة والفخامة والجلال، فإن هذا المقام الكنسي الملوكي الفخم يحتوي على أربعة آلاف غرفة وعلى مئات الأبهاء والساحات والأروقة، ويضم عدة أجنحة ومجالس رائعة أسبغ عليها أبدع ما عرف الفن الرفيع من آيات الزخرف والنقش والتصوير.

- 2 -

ولم تعمر الزهراء طويلاً كقاعدة ملوكية؛ فقد لبثت قاعدة الملك والخلافة زهاء أربعين عاماً فقط، مذ نزل بها الناصر سنة 329هـ حتى نهاية عهد ابنه الحكم المستنصر سنة 366هـ؛ ولم يكن ذلك لأن الزهراء قد عفت كقاعدة ملوكية، ولكن لأن تحولاً خطيراً قد وقع في سلطان بني أمية؛ فقد ترك الحكم الملك لابنه الوحيد - هشام المؤيد - وهو طفل لم يجاوز الحادية عشرة؛ وسرعان ما استولى الوزير محمد بن عبد الله بن أبي عامر على مقاليد الحكم بمؤازرة صبح أم المؤيد ووصية العرش، ولم يمض قليل حتى استأثر ابن أبي عامر بكل سلطة ورياسة في الدولة؛ وفي سنة 368هـ أنشأ له ضاحية ملوكية ج بجوار قرطبة على نهر الوادي الكبير وأسماها الزاهرة، وجعلها قاعدة الحكم، ونقل إليها خزائن الأموال والأسلحة ودوائر الحكومة، واتخذ سمة الملك وتسمى بالحاجب المنصور.

وهكذا فقدت الزهراء صفتها كقاعدة رسمية، وشاءت الأقدار ألا تكون منزل الملك والخلافة إلا في عهد مؤسسها وخلفه الذي أكمل بناءها. وكان قيام الحاجب المنصور في الواقع خاتمة لسلطان بني أُمية، ولم يبق لهم بعد ذلك من الملك سوى الاسم؛ وقد بقيت الزهراء حيناً آخر مقاماً ملوكياً للخليفة المحجور عليه، ولكنها فقدت إلى الأبد أهميتها السياسية، وروعتها الملوكية.

ثم كانت المحنة الكبرى بانهيار هذا الصرح البديع الذي شاده بنو أُمية بالأندلس، وانهيار الخلافة الأموية والدولة العامرية معاً، وسقوط الأندلس صرعى الحرب الأهلية. ففي سنة 401هـ (1011م) زحف سليمان المستعين زعيم الثورة الأموية على قرطبة لينتزعها من المؤيد وواضح الحاجب التغلب عليه، ثم هاجم مدينة الزهراء واقتحمها، وفتك أنصاره البربر بسكانها، وعاثوا في معاهدها ورياضها، وأحرقوا المسجد والقصر؛ والظاهر أن الضربة كانت قاضية، فلم يبق من الضاحية الملوكية الباهرة سوى أطلال دارسة، ولا يكاد اسم الزهراء يذكر بعد ذلك في التاريخ الأندلسي إلا كأثر عصفت به صروف الدهر؛ وقد كانت الزهراء أيام روعتها وازدهارها وحي الشعر الرائع والخيال الرفيع، وقد تغزل بجمالها وفخامتها جمهرة من أكابر شعراء الأندلس وأمراء البيان، ثم رثوها بعد ذلك في مقطوعات مؤثرة؛ ومما قاله ابن زيدون أعظم شعراء العصر يشيد بالزهراء ورائع ذكرياتها:

خليلي لا فطر يسر ولا أضحى ... فما حال من أمسى مشوقاً كما أضحى

لئن شاقني شرق العقاب فلم أزل ... أخص بمخصوص الهوى ذلك السفحا

معاهد لذات وأوطان صبوة ... أجلت المعاني في الأماني بها قدحا

ألا هل إلى الزهراء أوبة نازح ... تقضت مبانيها مدامعه سفحاً

مقاصر ملك أشرقت جنباتها ... فخلنا العشاء الجون أثناءها صبحا

يمثل قرطبها لي الوهم جهرة ... فقبتها فالكوكب الرحب فالسطحا

محل ارتياح يذكر الخلد طيبه ... إذا عز أن يصدى الفتى فيه أو يضحا هناك الحمام الورق تندى خفافها ... ظلال عهدت الدهر فيها فتى سمحا

تعوضت من شدو القيان خلالها ... صدى فلوات قد أطار الكرى صبحا

ونقل إلينا الشيخ محي الدين بن العربي أبياتاً قال إنه قرأها على بعض جدران الزهراء بعد خرابها، رثاء في المدينة الشهيرة وهي:

دَيار بأكناف الملاعب تلمع ... وما إن بها من ساكن وهي بلقع

ينوح عليها الطير من كل جانب ... فيصمت أحياناً وحيناً يرجع

فخاطبت منها طائراً متغرداً ... له شجن في القلب وهو مروع

فقلت على ماذا تنوح وتشتكي ... فقال على دهر مضى ليس يرجع

ويرثي الفتح معاهد الزهراء خلال رواية نقلها عن جولة لبعض الكبراء في تلك الأطلال: (وآثار الديار قد أشرفت عليهم كثكالى ينحن على خرابها، وانقراض إطرابها، والوهي بمشيدها لاعب، وعلى كل جدار غراب ناعب، وقد محت الحوادث ضياءها، وقلصت ظلالها وأوفياءها، وطالما أشرقت بالخلائف وابتهجت، وفاحت من شذاهم وأرجت، أيام نزلوا خلالها وتفيأوا ظلالها، وعمروا حدائقها وجناتها، ونبهوا الآمال من سناتها، ورعوا الليوث في آجامها، وأخجلوا الغيوث عند انسجامها، فأضحت ولها بالتداعي تلفع واعتجار، ولم يبق من آثارها إلا نؤى وأحجار، وقد هوت قبابها، وهرم شبابها؛ وقد يلين الحديد، ويبلى على طيه الجديد. . .)

ويحدثنا الرحالة البغدادي ابن حوقل عن الزهراء - وقد زارها أيام الحكم - فيصف موقعها، ويقول إن العمارة اتصلت بينها وبين قرطبة، وأن لها مسجداً جامعاً دون جامع البلد (قرطبة) في المحل والقدر، وعلى سورها سبعة أبواب حديد، وليس لها نظير بالمغرب فخامة حال وسعة تملك، وابتذالاً لجيد الثياب والكسى، وفراهة الكراع وكثرة التحلي، وإن لم يكن لها في عيون كثير من الناس حسن بارع).

وكانت أطلال الزهراء ما تزال قائمة حتى القرن السابع، الهجري (القرن الثالث عشر) وقد ذكرها الشريف الإدريسي في معجمه الجغرافي الذي وضعه في منتصف القرن السادس وذكر أن بينها وبين قرطبة خمسة أميال؛ وذكرها أيضاً ياقوت الحموي في معجمه الجغرافي الذي وضعه في أوائل القرن السابع الهجري. وفي سنة 636هـ (1236م) كانت نكبة الأندلس، ونكبة الإسلام بسقوط قرطبة في يد النصارى، فطويت بذلك أسطع صحف الإسلام وصحف الخلافة في الأندلس؛ وكانت قرطبة قد فقدت أهميتها السياسية منذ الثورة وسقوط الدولة الأموية، ولكنها لبثت بعد ذلك عصراً تحتفظ بهيبتها الخلافية القديمة. ومن المرجح أن أطلال الزهراء بقيت بعد سقوط قرطبة في يد النصارى عصراً يصعب تحديده؛ غير أن قرطبة فقدت في ظل سادتها صبغتها ومعالمها الإسلامية بسرعة؛ ولم يبق اليوم من آثارها ومعاهدها الإسلامية الشهيرة سوى مسجدها الباهر الذي حوله الأسبان منذ افتتاحها إلى كنيسة جامعة؛ وقد شوهت بذلك معالمه ومناظره الأولى، ولكنه ما زال يحتفظ بكثير من أروقته وأبهائه القديمة، وما زال يلفت نظر الزائر المتجول بمسحته العربية والإسلامية، بل ما زال يعرف حتى اليوم بكلمة (مزكيتا) أي المسجد؛ ولم يبق غير المسجد من معاهد قرطبة وأبنيتها الفخمة القديمة سوى أنقاض بالية. أما الزهراء، فقد اختفت معالمها منذ عصر بعيد، ولم يبق منها اليوم أثر ما. بيد أن موقعها ما زال يعرف بالتقريب، في شمال غربي قرطبة، ويطلق عليه اليوم (قرطبة القديمة) ويقوم إلى جوار موقعها القديم إلى اليوم دير (سان جيرونيمو) ويقال إنه بني بأنقاض قصر الزهراء وقد عنيت الهيئات الأثرية الأسبانية في العهد الأخير بإجراء الحفر في تلك المنطقة محاولة استكشاف مواقع الزهراء ومعالمها الحقيقية.

وقد كان لهذا المصير المحزن الذي انحدرت إليه مدينة الناصر بسرعة مؤسية شبيه بين مصاير القواعد الملوكية الإسلامية؛ ذلك هو مصير مدينة القطائع الملوكية التي أنشأها ابن طولون إلى جانب الفسطاط، وأسبغ عليها ولده خمارويه آيات رائعة من الفخامة والبهاء، ثم شاء القدر أن تنهار دعائم الدولة الطولونية، وأن تمحى القطائع بين يوم وليلة، بعد حياة قصيرة لم تجاوز ثلث قرن؛ فكانت مأساة مؤثرة تشبهها مأساة الزهراء من وجوه كثيرة مع فارق في العظمة والمنزلة السلطانية، وفي ظروف العصر، وصروف الأحداث.

محمد عبد الله عنان