انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 123/معركة عدوى

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 123/معركة عدوى

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 11 - 1935



للأستاذ الفريق طه باشا الهاشمي

رئيس أركان حرب الجيش العراقي

ثانياً - الأوربيون والأحباش

وفي نهاية القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر إحتك الفرنسيون بالأحباش على عهد ملكهم (ياسو الأول) الذي أرسل سفيراً حبشياً إلى بلاط الملك لويس الرابع عشر. وفي سنة 1705 أرسل الفرنسيون المسيو رول سفيراً إلى الحبشة وتشجع الرهبان اليسوعيون الفرنسيون على الذهاب إلى بلاد الحبشة وأخذوا يحلون محل الرهبان اليسوعيين البرتغاليين.

ولما مات ياسو الأول ثار الأهلون وقتلوا رجال السفارة الفرنسية، وأراد خلفه أن يحمي اليسوعيين فلم يوفق؛ وحدثت إضطرابات داخلية في المملكة استمرت مدة طويلة فاستفاد الصوماليون والغالا المسلمون من ذلك وهجموا بقوات كبيرة علة بلاد الحبشة فتوغلوا فيها وأمعنوا فيها قتلاً وتخريباً. والذي زاد الطين بلة أن الرهبان الكاثوليك أرادوا الاستفادة من هذه الاضطرابات وسعوا سعياً حثيثاً لاستمالة الأحباش إلى مذهبهم طالبين منهم أن يتركوا المذهب اليعقوبي. وفي سنة 1838 إستولى رأس مقاطعة شوعا على العرش فأصبح ملكاً على البلاد وعقد معاهدة مع الفرنسيين.

ثالثاً - علاقات الدول المستعمرة

في سنة 1855 استولى (عالي) أحد أغنياء الغالا على مملكة شوعا ونصَّب نفسه ملك ملوك الحبشة. ولم يوطد عالي حكمه فعلاً في البلاد فاستفاد صهره من الموقف فأصبح عاهلاً على جميع بلاد الحبشة باسم (تيودوروس الثاني) بعد أن استمال قبائل الغالا والأمحرة والتيجري إلى جانبه ونقل عاصمته إلى أنكوبار ولبس تاج الملك في القاعدة الدينية (أكسوم) أعلن ذلك على أوربة وغدا ملك ملوك الحبشة. ولم يكن تيودوروس من سلالة الملوك؛ وكان الملك الشرعي (هاتيلو ملكوت) ملك شوعا ووالد (ساهالا مريام) (منليك الثاني المنتظر) وتغلب تيودوروس على هذا الملك وعامله بإحسان.

ومن الأمور الإصلاحية التي قام بها إلغاء المخصصات التي كان يتمتع بها الرؤوس بالإرث فلقي معارضة منهم واستطاع أن يقهرهم. وعاكسه الرهبان فتغلَّب عليهم، ولما علم بأن الرؤوس اجتمعوا في قصر خلسة ليدبروا ثورة عليه ذهب بنفسه إلى القصر المذكور وباغتهم وقتلهم جميعاً ما عدا الأمير الصغير (ساهالا مريام) الذي استطاع أن ينجو بنفسه فاراً.

وفي دور الإضطراب كان ملوك الحبشة قد حرموا على الأجانب دخول بلاد الحبشة، بيد أن تيودوروس ألغى هذا التحريم زاعماً أن دخول الأجانب الحبشة يفيد أهل البلاد. فأرسل وفوداً إلى ملكة إنكلترا فكتوريا وإلى إمبراطور فرنسا نابليون الثالث وكلف هذا الأخير بتجديد المعاهدة المعقودة سنة 1848.

وكان البريطانيون قد أرسلوا قنصلاً إلى الحبشة إلا أنه قتل في الاضطراب الذي حدث في سنة 1860. وفي سنة 1862 أوفدت ملكة بريطانيا قنصلاً مع الهدايا، كما أن نابليون الثالث أيضاً أوفد قنصلاً.

ولما رأى البريطانيون أن تيودوروس لقي مقاومة في الداخل وأن جيشه أخذ يضعف بالحروب المدبرة لم يميلوا إلى الاعتماد عليه، لذلك لما أراد إرسال سفير إلى إنكلترا لم يلب طلبه فضلاً عن أن القناصل البريطانيين أخذوا لا يعبأون به.

واشترى الفرنسيون جزائر دسس وزولا في سنة 1859 وميناء عبق في سنة 1862 وجعلوها قاعدة لتموين بواخرهم بالفحم، وأرادوا تيودوروس أن يرسل سفيراً إلى فرنسا فلم يتلق جواباً من إمبراطورها. ولما اطلع على مخابرات القناصل إغتاظ من الأوربيين جميعاً وحبسهم في قلعة (مجدلة).

فأرسل البريطانيون في سنة 1864 وفداً برآسة السر هرمز رسام ليطلق سراح الأجانب، إلا أن تيودوروس امتنع وحبس رئيس الوفد أيضاً؛ فلما رأى البريطانيون ذلك وسَّطوا الخديو إسماعيل باشا فأرسل كتاباً إلى ملك الحبشة ولكنه لم يتلق جواباً عنه. .

وفي سنة 1866 ترك العثمانيون ميناءي مصوع وسواكن لخديو مصر فأصبحتا بعد ذلك من الممتلكات المصرية، وأضاف المصريون إليهما منطقة زولا أيضاً.

واستفاد البريطانيون من هذا الحادث فقرروا الحملة على الحبشة فجهزوا جيشاً في بمبي بقيادة السير روبرت نابر بقوة (16 , 000) جندي وأنزلوها في زولا. وساعد الخديو البريطانيين في هذه الحركة وأمر محافظ مصوع بالمساعدة، كما أنه كلف أسطوله في البحر الأحمر بأن يكون بجانب البريطانيين وأمدهم بالسفن النقلية، وقوى البريطانيون هذا الجيش بجنود أهليين وجهزوه بالوسائط النقلية فبلغت قوته (40 , 000) جندي.

ومال بعض رؤوس الأحباش إلى جانب البريطانيين فلم يساعدوا ملكهم على القتال وامتنع رأس شوعا من إرسال الجند. أما رأس تيجري فاتفق مع البريطانيين الذين طمأنوه قائلين له إنهم لا يقصدون الإستيلاء على الحبشة و؟ إنما جل ما يريدونه خلع تيودوروس وتنصيب رأس تيجري بدلاً منه وأنهم سوف ينسحبون بعد ذلك.

وساعد هذا الاتفاق على حركة الجيش فتقدم من طريق (سنافة - أدجرات - مكالو - انتالو) ووصل إلى أمام حصون مجدلة؛ ولما حبطت مساعي تيودوروس لاستمالة الرؤوس إلى جانبه التجأ إلى حصون مجدلة ولم يكن لديه سوى 7000 جندي وستة وعشرين مدفعاً.

وفي 13 نيسان سنة 1858 احتل البريطانيون حصون مجدلة واستمر تيودوروس على المقاومة في آخر حصن، ولما تيقن من أن المقاومة لا تجدي نفعاً مات منتحراً.

فأخذ البريطانيون تاج تيودوروس ومعطفه الملكي وحفظوهما في المتحف البريطاني في إنكلترا، وأعادوهما إلى الرأس تفري لما زار إنكلترا في سنة 1924. وانسحب الجيش البريطاني بعد أن أطلق سراح الأسرى الأجانب وأخذ معه ابن تيودوروس رهينة خشية أن ينتقم لأبيه وأرسله إلى إنكلترا فمات فيها.

وفي الملاقاة التي تمت بين قائد الجيش البريطاني ورأس تيجري أهدى السير روبرت نابر 900 بندقية إلى الرأس مكافأة له على صداقته.

بعد أن بقي هذا الأمير في الأسر سبع سنوات هرب من منفاه، وكان عمره إذ ذاك اثنتي عشرة سنة، ودخل مملكة أبيه شوعا. وبعد حادثة مجدلة أعلن استقلاله فحذا حذوه رأس أمحرة، واستقل الغالا ببلادهم وأخذوا يغيرون على بلاد الحبشة الداخلية جرياً على عاداتهم. وهكذا تجزأت المملكة الحبشية التي استطاع تيودوروس أن يجمع كلمتها ويؤلف منها مملكة كبيرة في مدة قصيرة.

أراد رأس تيجري كاسيا أن يملك البلاد ويوحدها فتحرك على رأس جيشه البالغ 12 , 000 جندي فتغلب في عدوى على جيش رأس أمحرة البالغ 80 , 000 بفضل البنادق التي أخذها من البريطانيين.

وفي سنة 1872 أعلن نفسه إمبراطوراً على الحبشة باسم (يوحانس السادس) وبعد اثنتي عشرة سنة تفاهم مع رأس شوعا وزوج ابنه من ابنته. وكان من نتيجة ذلك أن أصبح ساهالا مريام حاكماً على مقاطعة شوعا وجميع بلاد غالا، وذلك ما ساعده بعد ذلك على توحيد المملكة والقبض عليها بيد من حديد فاعترفت باستقلالها الدول الإستعمارية مرغمة.

رابعاً - المصريون والأحباش

وبعد تتويج يوحانس في أكسوم شرع الخديو إسماعيل باشا في التأهب للزحف على الحبشة جاعلاً سواكن ومصوع قاعدتين لحركته. ولعله كان يطمع في ضم مقاطعة هرر التي يكثر فيها المسلمون إلى أملاكه والاستيلاء على منابع النيل الأزرق، أو أنه فكر في أن توسع الحبشة وتقوية جيشها مما يضر بمصالح المصريين ويجعل بلاد السودان معرضة للغارات، أو أن الدول الطامعة في بلاد مصر أرادت أن تشغل الجيش المصري القوي بالفتوح في الحبشة وتقضي عليه بالتدرج، ويجوز أن رغبة الخديو الشخصية كانت ترمي إلى التوسع. والظاهر من مجرى الأحوال أن توجيه المصريين أنظارهم إلى الحبشة قربت النكبة التي أصابت المصريين بعد ذلك.

ولا شك في أن تجهيز الجيوش وإرسالها على التعاقب مما أحرج الموقف المالي الذي ساء من جراء بذخ إسماعيل باشا.

وفي سنة 1872 أنزل المصريون جيشهم إلى سواحل الصومال في زيلع، وتقدموا نحو مقاطعة هرر، ودخلوا شوعا، إلا أن الرأس ساهالا مريام أجلى الجيش المصري عنها وقضى عليه بالقرب من بحيرة (أوسة).

وفي سنة 1874 احتل المصريون هرر وأنزلو جيشاً بقوة 14 , 000 في مصوع، فتقدم نحو عدوى، فتظاهر رأس تيجري في بادئ الأمر بالولاء له، وفي ليلة ظلماء باغته من كل جهة وقضى عليه، فلم يفلت منه إلا النزر القليل.

وفي سنة 1876 أراد الخديو أن ينتقم من الأحباش، فجهز جيشاً بقوة 20 , 000، وناط قيادته بابنه الأمير حسين باشا وأنزله في مصوع؛ ولما تقدم قابله الأحباش بقوة 200 , 000 جندي، وفي المعركة التي نشبت في جرة إنكسر الجيش المصري بعد أن خسر 13 , 000 رجل، فوقع الأمير حسين باشا في الأسر مع هيئة أركانه، ولم يخل الأحباش سبيلهم إلا مقابل فدية من المال.

والغريب في هذه الحركات أن الأجانب كانوا يتولون قيادة الجيش كأن المصريين من أهل البلاد لا يستطيعون القيادة، بينما التاريخ يشهد لهم ببراعتهم في ذلك، فالجيش الأول كان قائده موزنجر باشا، وكان يقود الجيش الثاني ضابط دنمركي الأصل، أما رئيس أركان الجيش الثالث وأركانه فكانوا أميركيين.

وفي الوقت ذاته كان المسلمون في السودان بقيادة المهدي يهاجمون الحبشة من الشمال، فدخلوا جوندار وأحرقوها، وكان من أمر ذلك أن أرغم يوحانس المسلمين القانطين في الحبشة على الخروج منها، وأدى ذلك إلى هجرة كثير من المسلمين من الحبشة بعد أن كانوا متنعمين فيها، فتشتتوا هنا وهناك؛ أما الذين بقوا فيها فاضطهدهم الأحباش حتى اضطر بعضهم إلى التنصر، ولو لم ينزل الطليان إلى الساحة الإستعمارية في بلاد الحبشة لظل المسلمون مضطهدين، إلا أن محاولة الطليان التوغل في بلاد الحبشة اضطرت ملوك الحبشة إلى التساهل مع المسلمين تمهيداً لتوحيد المساعي إزاء هذا العدو الجديد.

وبعد أن احتل البريطانيون أرض مصر لم يتدخلوا في الحروب التي وقعت بين السودانيين والأحباش. ولكي ينتقم يوحانس لوقعة جوندار جهز جيشاً كبيراً وتقدم على رأسه نحو قوات المهدي، وفي المعركة التي وقعت في متمة 13 آذار أواخر (مارس) سنة 1889 وقع جريحاً ومات فانكسر جيشه.

والحقيقة أن قيام المهدي وبسط نفوذه على السودان وانتصاره على الأحباش جعل البريطانيين يفكرون في العاقبة، لأن القوات البريطانية والمصرية وحدها لم تكن كافية للتغلب عليه.

ولعل نزول الطليان إلى الساحة كان بتشويق من البريطانيين للتغلب على المهدي من جهة ولمشاغلة الحبشة بقوات جديدة من جهة أخرى لكيلا تسيطر دولة قوية على مياه النيل فتهدد مصالح البريطانيين المتوقعة في السودان.

(يتبع) طه الهاشمي