مجلة الرسالة/العدد 123/في الجمال. . .
مجلة الرسالة/العدد 123/في الجمال. . .
- 2 -
لعل جمال المرأة أبرع مثل للجمال الطبيعي لو تدبرته؛ وسر الإعجاب
فيه هو سر الإعجاب في جمال الرجل: أعني الذكاء؛ والذكاء كما قلت
من قبل إبداع الوسائل الملائمة للغاية، ثم تطبيق هذه الوسائل على
غايتها في نظام دقيق محكم؛ فأنت لا تستطيع أن تفقه جمال المرأة إلا
إذا وقفت على حكمة الله فيها، وغرض الطبيعة منها، وأدركت ما بين
طبيعة خَلْقها وعلة وجودها من المواءمة التي تسترق الأفئدة وتدق على
إفهام البشر.
فالعلة الغائية لخلْق المرأة هي أن تكون زوجة وأُماً، وسبيلها أن تروق الرجل وتدمث خُلقه وترقق طبعه ليسكن إليها ويُشبل عليها بالمعونة والنجدة؛ وسكون الزوج إلى زوجه تدبير إلهي يقوم عليه بناء المجتمع وبقاء النوع، لأن المرأة وهي زوج تحمل، أو أم ترضع، لا تملك لنفسها ولأولادها غذاء ولا حماية؛ فما دام الولد في حاجة إلى أمه، فالأم في حاجة إلى أبيه. ولكن غريزة الاستقرار والاستمرار في الرجل ضعيفة، فلا بد لهذا الوحشي الشريد من صلة أخرى غير صلة الدم تحبسه على زوجه وتعطفه على بنيه؛ والحب وحده هو الذي مكن الطبيعة من هذه البُغية؛ فبفعل الجاذبية سكن النافر، وبسحر الجمال ثبت العَزوف. وللحب خصيصتان قويتان: الرغبة والحشمة؛ ومن ذلك كان جمال المرأة داعيَ الرغبة خافض الجناح حيي الطبع؛ والرجل مزهوٌّ على المرأة يُدل بحيازته لها، ويتعزز بقيامه عليها؛ فهو يريدها (ريحانة لا قهرمانة)، وحبيبة لا جليبة، لها سلطان ولكنه رفيق، وفيها إباء ولكنه رقيق.
ومن ذلك كان جمالها مزيجاً من الوداعة والعزة، وخِلطاً من الضعف والدلال، وطباقاً من الهيبة والنبل.
وجمال المرأة يحتفظ بدوامه وسحره ما دامت له روح من العاطفة تشع في نظراتها، وتنس في بسماتها، وتشيع في قسماتها، وتنشر أضواءها السحرية على أعصاب الرجل - وهو بطبعه ولوع - فيتمتع بنعمة اختياره ولذة إيثاره، ويجد في الضعف الذي يستلم ويستكين، الحبَّ الذي يطول ويحكم.
إن شبهة الخداع والتصنع تمحق كل شيء: لذلك كان في مخايل الطيبة والنزاهة، وفي سمات الظرف الغرير يتراءى وهو يختفي، وفي أسرار الهوى المكتوم تفضحه البسمة الحنون من شفة مطبقة، وتعلنه الومضة الخاطفة من نظرة حبية، وفي دلائل الملامح المعبرة في الوجوه والعيون تقول وهي تنصت، وتريد وهي ترفض: كان في كل أولئك بلاغة الجمال؛ فإذا أصيب الحب بالفتور ابتُلي الجمال بالخرَس.
وسلطان المرأة القوي على قلب الرجل إنما يأتيها من ذلك الذكاء المستسرِّ ترعاه معه وفيه على غير علمه؛ فكان من مزايا جمالها أيضاً أن تلوح هذه البصيرة الدقيقة على أسرَّة وجهها، وتشرق على الأخص في تلك النظرة الوديعة التي تتغلغل في طوايا القلب فتنسخ ظلال الفتور، وتبدد ظلام الكآبة، وتشعل خمود الحب. . . . . .
ومن خصائص جمال المرأة الاحتفاظ بالقلب الذي تصبَّاه وسباه؛ ووسيلته أن يطرد السأم عنه، ويجدد الشوق فيه، فيعير العادة المملة ألوان الجدَّة، ويقبس الحياة الرتيبة حرارة التنوع؛ وذلك هو السر العجيب الذي وضعه الله في الجمال النسوي، فيتكرر ولا يُمل، ويستعلن ولا يُفهم، ويتجدد ولا يتناهى، ويتنوع ولا يختلف، ويتولد ولا يبيد!!
إن في خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس؛ وإن في تجميع النهر، وتكوين الجبل، وتصريف الريح، وإثارة البحر - لجمالاً رائعاً يجري في كل شعور، ويستولي على كل قلب، لأنه يعلن القوة الخارقة؛ والقوة أروع خصائص الجمال وأشدها أخذاً بمدارك الحس؛ كذلك تجد في صغار الأشياء مفاتن للجمال الطبيعي تهز النفس وتصبي المشاعر؛ فورقة الزهرة، وجناح الفراشة، يبعثان في قلبك من الإعجاب ما يبعثه الطود المتموج بالثلج، والمحيط الملفف بالعاصفة؛ ولكن خصيصة الجمال في الزهرة والفراشة هي فرَة الألوان، ونصاعة الأصباغ، وتعدد الصور؛ وخصيصة الفرة أضعف من خصيصة القوة لتأثرها بالذوق، وخمودها بالألف والعادة.
ولعل خصيصة الذكاء أخفى الخصائص الجمالية جميعاً، لأن مرجعها إلى التأمل والفهم، وهذان لا يتيسران في كل وقت، ولا لكل شخص؛ فالبركان والإعصار يروعان القلب بالقوة المجردة، ولكن الجمال إذا قام على خصيصة الذكاء وحده، وهي الترتيب والمواءمة والإنتظام، خبا أثره في الناس إلا إذا كان محسوساً شديد الغرابة! أليس الواقع أن براعة القدرة وسر الإبداع سواء في العظاية والأسد، وفي القصبة والدوحة؟ ولكنك تعجب بالأسد والدوحة، ولا تكاد تأبه للعظابة والقصبة، لأن سلطان القوة غالب، وسحر العظمة عجيب.
فاجتماع الخصائص الثلاث إذن ضروري لحصول الجمال الصحيح في مشاهد الطبيعة وروائع الوجود.
(للبحث بقية)
أحمد حسن الزيات