انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 123/المأساة الفاشستية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 123/المأساة الفاشستية

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 11 - 1935



بقلم باحث دبلوماسي كبير

في الثامن والعشرين من أكتوبر احتفلت إيطاليا باختتام العام الثالث عشر لظفر الفاشستية الإيطالية وقيام النظام الفاشستي؛ فمنذ ثلاثة عشر عاماً زحف موسوليني وأنصاره من ذوي الأقمصة السود على رومة، وانتزعوا مقاليد الحكم؛ ومنذ ثلاثة عشر عاماً يسيطر موسوليني وحزبه على مصاير إيطاليا ومصاير الشعب الإيطالي؛ ولكن الفاشستية الإيطالية تحتفل بعيدها لأول مرة في ظروف خاصة؛ فهي الآن في مأزق خطر، بل هي تجوز معركة الحياة والموت؛ وهي تشعر لأول مرة بمرارة الخيبة وانهيار الآمال، وترى مشاريعها الاستعمارية العريضة في ميزان القدر تكبدها من الخسائر والمشاق الفادحة ما لم تكن تحلم بتكبده ولا قبل لها باحتماله، وترى فوق ذلك نفسها تواجه كتلة عالمية من الأمم الناقمة الساخرة تحيطها بسياج من الحفيظة والبغض، وتنظم ضدها مقاومة مادية فعالة وتزمع أن تقضي على كل مطامعها وأحلامها.

والفاشستية هي التي جنت على نفسها وعلى إيطاليا، وهي التي زجتها إلى ذلك المأزق الذي تتخبط فيه ولا ترى سبيلاً إلى الخلاص منه؛ فهي التي أقدمت عامدة مصرة على غزو الحبشة وانتهاك المعاهدات الدولية؛ وهي التي لم تخجل أن تصرح في جرأة منقطعة النظير أنها تغزو الحبشة وتعتدي على استقلالها لأنها في حاجة إلى التوسع والإستعمار واستغلال الثروات الطبيعية التي تبطنها وهاد الحبشة؛ وهي التي أثارت بعدوانها وغرورها وقحتها السياسية إشمئزاز كل الشعوب المتمدنة؛ وهي الآن في محنتها ويأسها تحاول أن تتشح بثوب الظافر، لأن الجيوش الإيطالية استولت على بعض الأراضي الحبشية في الشمال وفي الجنوب؛ ولكن العالم يعرف جيداً أن هذا النصر اليسير لم يكن نتيجة معارك حقيقية ولا بطولة عسكرية، وأنه مع ذلك قد كبد إيطاليا أعظم الجهود والخسائر، وأن المعارك الفاصلة ما زالت تنتظر إيطاليا في الوهاد الحبشية السحيقة التي لن تبلغها إلا بأفدح تضحية من المال والرجال.

لقد كان قيام الفاشستية في إيطاليا أول ضربة حقيقية للديموقراطية والحريات الشعبية بعد الحرب الكبرى؛ وكانت الديموقراطية قد استطاعت غداة النصر أن تكتسح النظ الإمبراطورية في ألمانيا والنمسا؛ ولكن الديموقراطية انساقت في فورة الظفر إلى ألوان خطرة من التطرف والفوضى؛ وكانت إيطاليا لهذا التطرف، ففي غمر الإضطراب العام وثبت الفاشستية تؤيدها العسكرية، وتؤيدها الصناعات الكبرى والمالية العليا، وقبضت على زمام الحكم بقوة؛ وظن خصومها في المبدأ أنها فورة الساعة وأن ريحها لن تلبث أن تركد، ولكن فورة الفاشستية كانت أشد وأقوى مما تتصوروا، وكانت المعركة قصيرة المدى، فلم يمض سوى قليل حتى سحقت الفاشستية خصومها، وسحقت الإشتراكية والديموقراطية، وكل النظم البرلمانية الحقيقية، وأخضعت الصحافة لصولها، ولم تبق متنفساً للشعب الإيطالي سوى طريقها، ولم تسمح له بأن يفكر إلا برأيها أو أن يرى إلا بعينها، وامتزجت الدولة بالحزب، فغدت الفاشستية هي الحكومة وهي الدولة، وهي مصدر السلطات وهي كل شيء في حياة إيطاليا العامة، وفي مرافقها ومصايرها.

كان ظفر الفاشستية سريعاً، وكان مطلقاً، ولكنها لم تدخر لتحقيق هذا الظفر أية وسيلة مثيرة؛ ولسنا نقف طويلاً بهذه الوسائل الهمجية التي أصبحت روح النظم الطاغية في عصرنا، سواء في روسيا البلشفية أو تركيا الكمالية أو إيطاليا الفاشستية أو ألمانيا الهتلرية، والتي تقوم على القتل والسجن والنفي والمصادرة وغيرها من أساليب العنف المنظم؛ ولكنا نقول أيضاً في إنصاف هذه الفاشستية الهمجية أنها لم تكن شراً مطلقاً، بل كانت لها آثار داخلية حسنة، وقد أسفرت جهودها في سبيل الإنشاء والتنظيم عن نتائج مادية ظاهرة الأثر في تكوين إيطاليا الحديثة وفي تطورها وتقدمها؛ فقد سحقت عوامل التفرق القديم الذي خسرت إيطاليا من جرائه مغانم الحرب في معاهدة الصلح، وسحقت عوامل الفوضى التي كادت تشل الحياة الإقتصادية في إيطاليا، وبثت في الشعب الإيطالي روحاً جديداً وعزائم جديدة في ميادين النشاط والتفكير والعمل، فخطت الزراعة والصناعة والتجارة إلى الأمام خطوات واسعة، ونظمت موارد الثروة القومية تنظيماً مدهشاً؛ وبذلت الفاشستية جهوداً محمودة لمعالجة الركود الإقتصادي والعطلة، وحماية الإنتاج القومي، وقامت بمئات المشاريع العمرانية النافعة، ولم تترك وجهاً من وجوه الحياة العامة إلا عملت لإصلاحه وتقويمه؛ ولم تقف عند العمل في ميادين النشاط المادي، بل عملت أيضاً في النواحي المعنوية، فطهرت الحياة الإجتماعية من كثير من أدرانها القديمة، وبثت في الشعب الإيطالي روحاً جديداً من العزيمة والخلال الحسنة، وقد كان قبل قيام الفاشستية في حالة يرثى لها من الإنحلال الفكري والأخلاقي، ونظمت الشباب والنشء تنظيماً بديعاً؛ والخلاصة أنها من حيث الوجهة الداخلية، خلقت إيطاليا خلقاً جديداً، وسارت بها في سبيل التقدم شوطاً بعيداً. وأما من حيث الوجهة الخارجية فقد عملت الفاشستية أيضاً لتقوية إيطاليا في البر والبحر والهواء، ورفعتها من حيث القوة العسكرية والهيبة الدولية إلى مصافي الدول العظمى ذات الرأي المسموع.

كل ذلك عملته الفاشستية في أعوامها الثلاثة عشر؛ ولكنها عملته فوق أكداس من الجرائم والضحايا، وعلى أنقاض الحريات العامة والكرامة البشرية والاستقلال الروحي والفكري؛ والفاشستية مادية مغرقة في المادية، والمعنويات في نظرها وسيلة إلى تحقيق المصالح المادية؛ ومن ثم جعلت من الجبل الإيطالي الجديد، في تفكيره وعقليته وتصرفاته قطيعاً من البشر مسلوب الرأي والإرادة، توجهه الزعامة العنيفة أينما شاءت. وكان من أكبر وأخطر جرائم الفاشستية أنها بثت في الشعب الإيطالي روحاً خطرة هي روح الغرور المغرق؛ ولا بأس من أن يتصف الشعب بالكبرياء القومية وأن يستمد من ماضيه المجيد وعظمته الحاضرة أسباب العزة القومية، ولكن الفاشستية بثت في الشعب الإيطالي أخطر عوامل الكبرياء والتحدي الفارغة؛ فالإيطالي الجديد يعتبر نفسه اليوم أرقى الخليقة، وأنه خلع بارتداء الفاشستية أثواب أوربا البالية، وأنه غدا يشرف من ذروة عظمته الجديدة على بؤس القارة القديمة وتدهورها، وأنه سيقود أوربا الجديدة طبق مبادئه وآرائه؛ ثم هناك ما هو أخطر من هذه الأوهام المعنوية؛ فقد بثت الفاشستية في الجيل الجديد روح العداء لأوربا القديمة، وروح التطلع والتحفز والعدوان، ولقنته نظرية جديدة هي أن إيطاليا الفاشستية خليفة الدولة الرومانية القديمة وقرينتها؛ وأن موسوليني إن هو إلا قيصر يقودها في سبيل الفخار والمجد، وغمرت هذه الروح القيصرية ذلك الشباب المغرور المتحدي، فأصبح يتصور أنه سيعيد حدود الدولة الرومانية القديمة، وأنه سيفتح مصر والأناضول وسورية وشمال أفريقية، ويجعل من البحر الأبيض بحيرة رومانية؛ ومضت إيطاليا الفاشستية تسخر بلسان زعيمها من كل دعوة للسلام ونزع السلاح، وكل دعوة إلى تفاهم الأمم، وآثرت نغمة الوعيد والتهديد، والحرب والإنتقام.

غير أن ذلك الروح الحربي المضطرم لم يتمخض عن إحياء الدولة الرومانية، ولا استعادة شيء من حدودها أو أملاكها القديمة، ولكنه تمخض عن مشروع استعماري مثير وضيع معاً: ذلك هو غزو الحبشة وافتتاحها لاستخلاص ثرواتها الدفينة، وليكون منها ومن الصومال والأرترية لإيطاليا القيصرية إمبراطورية استعمارية ضخمة؛ وقد كان زعيم الفاشستية يحلم بأن جيوشه ستكتسح الفريسة في سيل من النصر الباهر يدهش العالم ويروعه معاً. ولكن الفريسة صمدت للمعتدين عليها وأفهمتهم أن دون إزهاقها أهوالاً وتضحيات فادحة؛ وقد كانت الفاشستية في ذلك معتدية أثيمة تنكر أبسط مبادئ الحق والعدالة، بل تنكر ماضيها وعهودها وتصريحاتها التي أذاعتها لأول عهدها بلسان زعيمها. وإليك مبادئ السياسة الخارجية الفاشستية كما أذاعها موسوليني في أول برلمان فاشستي: (لا نريد استعماراً، ولا نريد اعتداء، ولكنا سنتخذ موقفاً يقضي على سياسة الإذلال التي جعلت إيطاليا أقرب إلى وصيفة وخادمة ذليلة للأمم الأخرى؛ إحترام للمعاهدات الدولية مهما كلفنا ذلك؛ إخلاص وصداقة نحو الأمم التي تقدم لإيطاليا أدلة صادقة على مبادلة هذه العواطف؛ تأييد للتوازن الشرقي الذي يقوم عليه سلام الدول البلقانية، ومن ثم يقوم عليه سلام أوربا وسلام العالم)، ولكن الفاشستية وهي حركة عنيفة تقوم على القوة وتعتبر الحق للقوة، لا يمكن أن ترتبط بعهد أو ذمام، ولا يمكن أن تؤمن بالحق لذاته أو العدالة لذاتها؛ وقد نمت الفاشستية واشتد ساعدها بسرعة، واستطاعت أن تخلق من إيطاليا قوة يخشى بأسها. بيد أنها بدلاً من أن تقف هذه القوة لتأييد الهيبة والمصالح القومية المشروعة، اتخذت منها أداة لتهديد سلام أوربا وسلام العالم، وجعلتها وقفاً على تحقيق الشهوات الحربية والاستعمارية، ولم تحجم عن أن تعرض سلام العالم للخطر فغي سبيل شهواتها وغاياتها.

واليوم وقد انساقت الفاشستية إلى مغامرتها الخطرة، فإنها تشعر لأول مرة في تاريخها بصدمة حقيقية؛ وقد كان موسوليني يظن أنه يستطيع افتراس الحبشة بأيسر أمر وعلى مرأى ومسمع من العالم، وأن صيحات الوعيد المتكرر تكفي لإخماد كل معارضة وتدخل: ولم يكن موسوليني ليقيم وزنا لعصبة الأمم، وقد سحق مبادئها من قبل يوم احتل جزيرة كورفو ليرغم اليونان علة تنفيذ مطالبه لخلاف نشأ بينهما من جراء مقتل بعض الرعايا الإيطاليين في الأراضي اليونانية؛ وكان موسوليني على حق في استخفافه بالعصبة وجهودها؛ ولكن من كان يظن أن عصبة الأمم ستضطرم فجأة بروح جديدة؟ ومن كان يعتقد أنها ستجرؤ على اتخاذ تلك القرارات التاريخية الشهيرة فتلقى تهمة الاعتداء العمد في وجه إيطاليا وتقضي عليها بالعقوبات الإقتصادية؟ ولكن عاملاً جديداً لم يكن يتصوره موسوليني قط هو الذي وثب فجأة ووقف للفاشستية ولإيطاليا بالمرصاد، واستطاع أن يقلب الأوضاع الدولية في أسابيع قلائل: ذلك هو تدخل إنكلترا وتحرك الإمبراطورية البريطانية. ولقد كانت إنكلترا تبغض الفاشستية منذ قيامها، وتعتبرها خطراً على السلم الأوربي؛ ولكنها مذ اشتد ساعد الفاشستية وذكا وعيدها وتدفقت جيوشها إلى شرق أفريقية، أدركت أن الفاشستية قد أصبحت بمطامعها ومشاريعها الاستعمارية خطراً داهماً على الإمبراطورية البريطانية، وعلى دولتها الاستعمارية في وادي النيل وشرق أفريقية، وعلى سيادتها في البحرين الأبيض والأحمر؛ ويجب لتأييد سلام الإمبراطورية وأمنها، أن تسحق هذه الفورة الخطرة؛ وهناك عامل معنوي آخر يقتضي في نظر إنكلترا الحكم على الفاشستية، هو أنها رمز النظم الطاغية العنيفة التي يمقتها الشعب الإنكليزي، ويراها خطراً على الديموقراطية التي غدت ملاذها وحصنها الأخير بعد أن اجتاحت معظم الدول الأوربية؛ وهكذا تستحيل المعركة اليوم إلى نضال خطير بين الفاشستية وبين الإمبراطورية البريطانية مستترة وراء عصبة الأمم؛ ولقد كان نجاح إنكلترا عظيماً في حشد أمم العالم ضد إيطاليا باسم العصبة، وفي تنظيم هذه العقوبات الاقتصادية التي ستشل عما قريب كل موارد إيطاليا وقواها المالية والاقتصادية؛ وهكذا تنهار تدابير الفاشستية فجأة، وترى نفسها وحيدة في الميدان، تواجه سخط العالم وتألبه، وتواجه الإمبراطورية البريطانية؛ وفي رأينا أنه ليس ثمة شك في نتيجة هذه المعركة، فالفاشستية تجوز معركة الحياة والموت، وهي تسير بلا ريب إلى انحلالها، وليس في وسعها أن تثبت طويلاً أمام هذه الصعاب الفادحة التي تواجهها في الخارج وفي الداخل؛ وتدل الطوالع على أن الحرب الحبشية التي أريد أن تكلل جبين الفاشستية بهالة من الظفر ستغدو قبراً للفاشستية؛ ومن المرجح أن يقترن فشل الفاشستية في مشروعها الاستعماري بانهيار سلطانها في الداخل، وعندئذ تختتم تلك المأساة الطويلة بانقلاب حاسم، وتتحرر إيطاليا من تلك الأغلال الحديدية التي صفدتها مدى ثلاثة عشر عاماً، ويتنفس العالم سعيداً إذ يرى مصرع تلك الفورة الطاغية الخطرة التي مازالت منذ قيامها تهدد أمنه وسلامه.