مجلة الرسالة/العدد 121/خيبة المدنية
مجلة الرسالة/العدد 121/خيبة المدنية
وا أسفاه!! أبعد هذه الحقب الملايين التي أتت على سليل الطين فسوت من خلقه، وراضت من خلقه، وصقلت من ذهنه، وصفت من جوهره، وجعلته على ملكوت الأرض يديره على حكمه، ويجريه على نظامه - لا يزال كأوابد الفقر وضواري الغاب يسطو القوى على القوى بالختل، ويعدو القوى على الضعيف بالقتل، وتضطرب الشهوات والمآرب بين الحيلة والغيلة اضطراب الأثرة بين العجز والقدرة؟!
أبعد الرسالات المتعاقبة التي بلغها رسل الله فغمرت العالم بالضياء، ووصلت الأرض بالسماء، ونهجت للنقص البشري سبيل الكمال المطلق - لا يبرح الإنسان باسطاً عنانه في الجهل، يرتكس في عماية الهوى، ويرتطم في حمأة المادة، ويجعل من الدين غشاء لنابه، ومن الأخلاق طلاء لظفره!
أبعد انتشار العلوم التي هتكت أستار الكون، وكشفت أسرار الطبيعة، وسبرت أغوار الحياة، وذلك ريض القوة - يظل أبن آدم على حيرة من يومه، وفي غمة من غده؛ لا يثق وثوق العالم بالحاضر، ولا يطمئن اطمئنان المؤمن بالمستقبل؟
أبعد ازدهار الآداب التي خلقت للناس أجنحة من الشعر، وكشفت للعالم أجواء من الخيال، وأبهجت مشاعر النفس بسحر المجهول، ودبجت حواشي العيش بألوان الربيع، ووجهت مطامح العيون إلى رفيع المثل - يظل الإنسان مسفا إلى حقير الأمل، مدفوعاً إلى دنى الغرض، محصوراً في حدود المنفعة؟!
أبعد هذه المدينة المغرورة التي تزعم إنها حررت الفكر، وأبطلت الرق، وضمنت حقوق الإنسان، ووحدت المقاييس بين الألوان، وحصرت أهواء الدول العاتية في قصر من قصور (جنيف) لتأمين خصامها بالتوفيق، وضمن سلامها بالتعاهد، وتجعل من جماعتها ألباً على الطغيان، وحرباً على العدوان، ويداً على الإثم - يظل الإنسان على عاد الجاهلية: يتكاثر بالعديد، ويتعزز بالسلاح، ويرصد الغفلة للغزو، ويفتري الحجة للغضب، ويغذى قوته على ضعف غيره؟!
من كان يظن بعد هذا الدهر المتطاول والعمران المستبحر والتقدم العجيب، أن يظل الناس على ضراوة الفطرة لا يتغير فيهم غير الغشاء، ولا يتبدل غير الأسماء، فتصبح البربرية بالعلم مدنية، والاغتصاب بالمدينة إنتداباً، والإسترقاق بالقانون وصاية! من كان يظن أن بحر الروم الذي كان بالأمس مسبحاً لغارة القرصان، ومسرحاً لبغي الرومان، لا يزال اليوم مجالاً لمثل ذلك؛ فالأساطيل على وجهه، وفي جوفه، وفي جوه، تضطرم بالحديد والنار لا استجابةً لصريخ الحق، ولا إطاعة لأمر القانون، ولكن لأن طاغية من طغاة المدنية المغشوشة، حشر جنوده في البر والبحر والهواء ليقتل أمة عزلاء قبل أن يتفق مع منافسيه على اقتراف الجريمة واقتسام الغنيمة؟!
من كان يظن إن هذا (الفاشي) المفتون يقف بمرأى من (الفاتيكان)، وعلى مسمع من (جنيف)، فيلغي قانون (العصبة)، وينقض ميثاق (كيلوج)، ويتحدى جميع الدول، لأنه نفخ (زقاقه السود) بالهواء الحار، وحوَّل الحذاء الإيطالي كله مصانع للذخائر والآلات، ومعامل للسموم والغازات، ثم تكبر وإختال، وتيخل ثم خل، وفكر فيمن يحرقه بهذا الرصاص، ويمزقه بهذا الديناميت، ويخنقه بهذا الغاز، ويسحقه بهذا الحديد، فلم يجد كفاء لتالد روما وطريف الفاشيست غير الحبشة المتواضعة المسكينة!! ولكن بأي حجة يبلغ (الدوتشي) الشعوب الهمج. والأحباش ولا ريب همج لأنهم لا يأكلون (الأسباجتي)، ولا يشربون (الكيانتي)، ولا يسترقون إلا الأفراد فلم يرتقوا بعد إلى استرقاق الأمم!!
أما بعد، فلو كانت أمور الناس تجري على سنن المنطق لكانت الحبشة أولى بتمدين إيطاليا؛ قضى خمسون دولة بالإجماع على الطليان بالعار والخزي، فقاطعوهم مقاطعة المجذوم، وطاردوهم مطاردة الآثم؛ ووقف الأحباش من المغير موقف الكرامة والنبل، يقابلون العدواة بالسلم، ويدافعون السفاهة بالحلم، حتى ظفروا بإعجاب العالم ورشح النجاشي لجائزة نوبل!! فلما أغار (المتمدنون) من غير إعلان، وقاتلوا من غير ضمير، واستعملوا أسلحة بغير حق، دافع (الهمجيون) دفاع المستبسل الحر، وجاهدوا جهاد المستشهد الصابر، وغالبوا باطل المعتدين بقوة الحق وعطف الشعوب ومزايا الرجولة، وكان موقف النجاشي الأسود من الزعيم الفاشي الأبيض موقف رب الدار من اللص، وصاحب القانون من الجرم!
رويدك يا أسود الشعار وممثل دور الجبار ومنذر العالم بيوم القيامة! إن أرواح الشباب الذين قذفتهم ظلماً في جحيم الحبشة، لتخرق أذنيك من خلال اللهيب بهذا الهتاف الرهيب:
على رسلك يا نيرون! إنك تحرق روما مرةً ثانية!! أحمد حسن الزيات