انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 12/في الأدب العربي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 12/في الأدب العربي

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 07 - 1933



عكاظ والمربد

للأستاذ أحمد أمين

من أبعد الأماكن أثراً في الحياة العربية عكاظ والمربد، وقد كان أثرهما كبيرا من نواح متعددة: من الناحية الاقتصادية ومن الناحية الاجتماعية ومن الناحية الأدبية، ودراستهما تضئ لنا أشياء كثيرة في تاريخ العرب.

ولكن يظهر لي أنه لم يعن بهما العناية اللائقة، فلا نرى فيما بين أيدينا الا كلمات قليلة منثورة في الكتب يصعب على الباحث أن يصور منها صورة تامة أو شبهها، ومع هذا فسنبدأ في هذه الكلمة بشيء من المحاولة في توضيح أثرهما وخاصة من الناحية الأدبية.

عكاظ

في الجنوب الشرقي من مكة وعلى بعد نحو عشرة أميال من الطائف ونحو ثلاثين ميلا من مكة، مكان منبسط في واد فسيح به نخل وبه ماء وبه صخور، يسمى هذا المكان (عكاظ)، وكانت تقام به سوق سنوية تسمى سوق عكاظ، وقد اختلف اللغويون في اشتقاق الكلمة فقال بعضهم: اشتقت من (تعكظ القوم) إذا تحبسوا لينظروا في أمورهم، وقال غيرهم سميت عكاظا لأن العرب كانت تجتمع فيها فيعكظ بعضهم بعضا بالمفاخرة أي يعركه ويقهره، كما اختلفت القبائل في صرفها وعدم صرفها، فالحجازيون يصرفونها وتميم لا تصرفها، وعلى اللغتين ورد الشعر:

قال دريد ابن الصمة: (تغيبت عن يومي عكاظ كليهما)

وقال أبو ذؤيب:

إذا بُنى القباب على عكاظ ... وقام البيع واجتمع الألوف

وكان للعرب أسواق كثيرة محلية كسوق صنعاء، وسوق حضرموت وسوق صحار وسوق الشحر، انما يجتمع فيها - غالبا - أهلها وأقرب الناس إليها. وبجانب هذه الأسواق الخاصة أسواق عامة لقبائل العرب جميعا، أهمها: سوق عكاظ، وسبب عمومها وأهميتها على ما يظهر: (1) أن موعد انعقادها كان قبيل الحج، وهي قريبة من مكة وبها الكعبة، فمن أراد الحج من جميع قبائل العرب سهل عليه أن يجمع بين الغرض التجاري والاجتماعي بغشيانهم عكاظ قبل الحج، وبين الغرض الديني بالحج.

(2) أن موسم السوق كان في شهر من الأشهر الحرم - على قول أكثر المؤرخين، والعرب كانت في (الشهر الحرام) لا تقرع الأسنة، فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يهيجه تعظيما له، وتسمى مضر الشهر الحرام بالأصم لسكون أصوات السلاح فيه، وفي انعقاد السوق في الشهر الحرام مزية واضحة، وهي أن يأمن التجار فيه على أرواحهم، وإن كانوا أحيانا قد انتهكوا حرمة الشهر الحرام فاقتتلوا كالذي روي في الأخبار عن حروب الفجار كما سيجيء، ولكن على العموم كان القتل في هذا الشهر مستهجنا، قال ابن هشام: إني آت قريشا فقال: إن البراض قد قتل عروة وهم في الشهر الحرام بعكاظ، الخ وقد قال ذلك استعظاما لقتله.

(فكان يأتي عكاظ قريش وهوازن وغطفان والأحابيش وطوائف من أفناء العرب) وكانت كل قبيلة تنزل في مكان خاص من السوق، ففي الخبر أن رسول الله ذهب مع عمه العباس إلى عكاظ ليريه العباس منازل الأحياء فيها، ويروى كذلك أن رسول الله جاء كندة في منازلهم بعكاظ بل كان يشترك في سوق عكاظ اليمنيون والحيريون. يقول المرزوقي: كان في عكاظ أشياء ليست في أسواق العرب، كان الملك من ملوك اليمن يبعث بالسيف الجيد والحلة الحسنة والمركوب الفاره فيقف بها وينادي عليه ليأخذه أعز العرب، يراد بذلك معرفة الشريف والسيد فيأمره بالوفادة عليه ويحسن صلته وجائزته ويروي ابن الأثير عن أبي عبيدة (ان النعمان ابن المنذر لما ملكه كسرى ابرويز على الحيرة كان النعمان يجهز كل عام لطيمة - وهي التجارة - لتباع بعكاظ). فترى من هذا أن بلاد العرب من أقصاها إلى أقصاها كانت تشترك في هذه السوق. واختلفت الأقوال في موعد انعقادها، وأكثرها على أنه كان في ذي القعدة من أوله إلى عشرين منه، أو من نصفه إلى آخره، قال الأزرقي في تاريخ مكة.

(فإذا كان الحج. . . خرج الناس إلى مواسمهم فيصبحون بعكاظ يوم هلال ذي القعدة فيقيمون به عشرين ليلة تقوم فيها أسواقهم بعكاظ، والناس على مداعيهم وراياتهم منحازين في المنازل تضبط كل قبيلة أشرافها وقادتها، ويدخل بعضهم في بعض للبيع والشراء، ويجتمعون في بطن السوق، فإذا مضت العشرون انصرفوا إلى مجنة فأقاموا بها عشرا، أسواقهم قائمة، فإذا رأوا هلال ذي الحجة انصرفوا إلى ذي المجاز ثم إلى عرفة؛ وكانت قريش وغيرها من العرب تقول لا تحضروا سوق عكاظ والمجنة وذا المجاز الا محرمين بالحج، وكانوا يعظمون أن يأتوا شيئا من المحارم أو يعدو بعضهم على بعض في الأشهر الحرم وفي الحرم.)

وظيفته: كانت سوق عكاظ تقوم بوظائف شتى فهي (أول كل شيء) متجر تعرض فيه السلع على اختلاف أنواعها، يعرض فيه الأدم والحرير والوكاء والحذاء والبرود من العصب والوشى والمسير والعدة ويباع به الرقيق ويعرض فيه كل سلعة عزيزة وغير عزيزة، فما يهديه الملوك يباع بسوق عكاظ ويتقاتل ابن الخمس مع الحارث بن ظالم فيقتله ابن الخمس ويأخذ سيف الحارث يعرضه للبيع في عكاظ، وعبلة بنت عبيد بن خالد يبعثها زوجها بأنحاء سمن تبيعها له بعكاظ.

ونسبوا إلى عكاظ فقالوا: أديم عكاظي أي مما يباع في عكاظ. ولم تكن العروض التي تعرض في سوق عكاظ قاصرة على منتجات جزيرة العرب، فالنعمان يبعث إلى سوق عكاظ بمتجر من حاصلات الحيرة وفارس لتباع بها ويشتري بثمنها حاصلات أخرى، بل كان يباع في عكاظ سلع من مصر والشام والعراق، فيروي المرزوقي أنه قبل المبعث بخمس سنين حضر السوق من نزار واليمن ما لم يروا أنه حضر مثله في سائر السنين، فباع الناس ما كان معهم من إبل وبقر ونقد وابتاعوا أمتعة مصر والشام والعراق. وكانت السوق تقوم بأعمال مختلفة اجتماعية، فمن كانت له خصومة عظيمة انتظر موسم عكاظ (كانوا إذا غدر الرجل أو جنى جناية عظيمة انطلق أحدهم حتى يرفع له راية غدر بعكاظ فيقوم رجل فيخطب بذلك الغدر فيقول: ألا أن فلان ابن فلان غدر فاعرفوا وجهه، ولا تصاهروه ولا تجالسوه ولا تسمعوا منه قولا، فان اعتب وإلا جعل له مثل مثاله في رمح فنصب بعكاظ فلعن ورجم.) وهو قول الشماخ:

ذعرت به القطا ونفيت عنه ... مقام الذئب كالرجل اللعين

ومن كان له دين على آخر أنظره إلى عكاظ، ومن كان له حاجة أستصرخ القبائل بعكاظ كالذي حكى الأصفهاني أن رجلاً من هوازن أسر فاستغاث أخوه بقوم فلم يغيثوه فركب إلى موسم عكاظ وأتى منازل مُذْحَجَّ يستصرخهم. وكثيراً ما تتخذ السوق وسيلة للخطبة والزواج فيروي الأغاني أنه اجتمع يزيد بن عبد المدان وعامر بن الطفيل بموسم عكاظ، وقدم أميّة بن الأسكر الكناني وتبعته ابنة له من أجمل أهل زمانها فخطبها يزيد وعامر فتردد أبو هاشم، ففخر كل منهما بقومه وعدد أفعاله في قصائد ذكرها.

ومن كان صعلوكا فاجرا خلعته قبيلته (إن شاءت) بسوق عكاظ وتبرأت منه ومن فعاله كالذي فعلت خزاعة: خلعت قيس بن منقذ بسوق عكاظ أشهدت على نفسها بخلعها إياه وأنها لا تحتمل له جريرة ولا تطالب بجريرة يجرها أحد عليه.