انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 12/حاجة اللغة العربية إلى دراسة الثقافة اليونانية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 12/حاجة اللغة العربية إلى دراسة الثقافة اليونانية

مجلة الرسالة - العدد 12
حاجة اللغة العربية إلى دراسة الثقافة اليونانية
ملاحظات: بتاريخ: 01 - 07 - 1933



من محاضرة للمستر اربري أستاذ اللغة والآداب اليونانية

واللاتينية في كلية الآداب

انقضى نحو ألف من السنين والعالم الإسلامي مُولٍ ظهره لليونان وثقافته، ولم يبدأ الاهتمام بهذه الثقافة مرة أخرى إلاّ في الجيل الحديث، وهذه العودة إلى دراسة الآثار اليونانية ليست أقل الظاهرات التي امتازت بها النهضة العلمية والأدبية الجديدة في البلاد الناطقة بالضاد. وقد كان لمصر فضل السبق في هذا الميدان كدأبها في جميع الحركات الهامة.

ونظراً لأن أشعار هوميروس هي أول ثمرة أنتجتها قرائح اليونان، فكان من الملائم جداً أن يكون أول ما ترجم إلى العربية حديثاً من الآثار اليونانية إلياذة هوميروس. وقد بدأ سليمان البستاني ذلك العمل الشاق في عام 1887، واستطاع أن يخرج للناس في سنة 1904 ترجمة عربية كاملة منظومة. ومن الظلم البين أن يحاول الإنسان نقد هذا العمل الجليل أو الحط من شأنه، ماذا يهمنا أن نقرر بأن النظم ليس من مرتبة عالية، أو أن المعنى الأصلي - بل والروح أيضا - لم يدركه المترجم أحيانا؟ حقيقة أنه من سوء حظ المترجم أنه اختار للترجمة ملحمة لكي يظهر فيها مقدرته على النظم، فان اللغة العربية لا يلائمها هذا الضرب من القريض بنوع خاص (كذا) نظراً لما لها من نظام معقد في الوزن والقافية. ولكن على رغم هذا، الأجدر بنا ألاّ نطبّق قواعد النقد الأدبي على تلك الترجمة، بل ننظر إليها كأنها بشير ينبئنا بما يمكن للأدب العربي أن يبلغ إليه بعد.

ولا أظن أن بي حاجة إلى أن أحصي لكم المترجمات الأخرى التي ظهرت في هذا القرن. فكلنا نعلم جهود الأستاذين لطفي السيد بك، والدكتور طه حسين في هذا الباب. فبفضل ما بذلاه من جهود أصبحت اللغة العربية مرة أخرى غنية بما ترجم من آثار الفيلسوفين أفلاطون وأرسطو. وواجب على كل محب لرقي الآداب والعلوم العربية أن يشجع كل عمل من هذا القبيل. ولكني الآن أريد أن أتساءل، ومن المهم جدا أن أتساءل، هل من المستحب ترجمة الآثار اليونانية واللاتينية إلى اللغة العربية في الوقت الحاضر؟ وإذا كان هذا مستحبا، فهل يكتفي بالترجمة عن التراجم التي في اللغات الأوربية الحديثة؟ أم هل من اللازم أن يكون المترجم ملمّا بالأصل اليوناني أو اللاتيني للكتاب الذي يترجمه؟ ولنبدأ بالرد على السؤال الثاني. فنرى من البديهي أن الترجمة عن ترجمة، شيء لا يكفي ولا يغني، وإذا جاز لنا أن نضرب مثلا فلنتصور كاتباً فرنسياً يريد أن يطلع قومه على جمال الأدب العربي ولكنه بدلاً من المبادرة إلى تعلم العربية يلجأ إلى ترجمة إنجليزية أو ألمانية للكتاب الذي يريد أن ينقله، ثم يكتفي بنقله على هذه الصورة إلى اللغة الفرنسية. فكيف يستطيع مثل هذا الكاتب إذا أراد ترجمة المعلقات مثلا بهذه الطريقة، أن يحتفظ بما فيها من خيال شعري، ونظم البديع؟ أو إذا أراد نقل رسالة من تلك الرسائل الدقيقة المعنى التي ألّفها ابن العربي أو مقالة من مقالات الجاحظ البليغة، فهل يمكن أن تكون ترجمة الترجمة التي يقدمها للقراء، إلاّ بمثابة شبح لشبح؟ ولو أني قابلت رجلا من هذا القبيل لأبديت له إعجابي بحماسه وغيرته، ثم طلبت إليه بكل ما لدي من أدب وحزم أن يبدأ بدراسة العربية خمس سنين ثم ينظر بعد ذلك هل في وسعه أن ينهض بذلك العبء.

فإذا كان لابد من نقل الآثار اليونانية واللاتينية إلى العربية، فليس من شك في أن هذا العمل الخطير يجب أن ينهض به علماء من الناطقين بالضاد، لهم إلمام تام بهاتين اللغتين. وليس من وسيلة أخرى لإتمام ذلك العمل على الوجه الأكمل، بل أني أذهب إلى أبعد من هذا فأقره بأن العمل لا يستحق أن يعمل بأي شكل آخر.

ولكن هل من اللازم القيام بذلك العمل؟ قد يتساءلون: أليست آدابنا وحدها كافية لتثقيف المصري في عصرنا هذا؟ أليس الأولى بمن لغتهم العربية، أن يقصروا دراستهم على الأدب العربي اللهم إلاّ فريق المتخصصين؟ ثم على فرض أنه من المستحب لأسباب كثيرة أن ندرس لغات وأدبيات أجنبية، ألا يكون الأفضل دراسة اللغات الأوربية والآسيوية الحديثة؟ وما دامت اللغتان اليونانية واللاتينية قد ماتتا منذ قرون عديدة، أليس الأولى بنا نحن أن نتركهما في رمسهما؟ وإلاّ فما الفائدة التي تجنيها اللغة العربية والآداب المصرية من دراسة تلك الآثار اليونانية واللاتينية بما لا يمكن الحصول عليه بشكل أكمل وأحسن بدراسة الآداب الحديثة؟

لقد جاء في كتاب (الفلسفة في الإسلام) تأليف دي بوير العبارة الآتية: (إن أجلّ شيء خلقه لنا العقل اليوناني في الفنون وفي الشعر وفي التاريخ، لم تصل إليه أيدي الشرقيين. وكان من الشاق عليهم أن يفهموه لجهلهم حياة الإغريق. فنرى مثلا مؤرخي العرب قادرين على ذكر أمراء اليونان حتى كيلوباترا، وكذا قياصرة الروم. ولكنهم كانوا يجهلون المؤرخ تيو سيديد، ولا يعرفون اسمه. أما هوميروس فلم ينقلوا عنه غير جملة واحدة وهي: (لا يكون الحكم إلاّ لواحد). ولم يكن لهم أدنى دراية بالشعراء والروائيين من الإغريق.

ولكن مثل هذا الحكم ليس عادلا تماما. حقيقة لم يكن للمسلمين الأولين إطلاع على القسم الأعظم من أدب اليونان. ولم يكن لهم علم بحياة الإغريق، ولم يهتموا بمعرفتها، ولكن لو أن المصادفة ساقت إليهم هذه الآثار المجيدة، أكان يتعذر عليهم أن يتذوقوها ويقدروها حق قدرها. أليس الأرجح أن شعبا متوقد الذكاء، شديد الإحساس بالجمال، مثل الشعب العربي هو أقدر الناس على تقدير محاسن الأدب اليوناني، كما أمكنه أن يقدر ويفهم دقائق الفلسفة اليونانية؟ ولكن ظروفاً سيئة حالت بين العرب والأدب اليوناني. ففي وقت نشأة الإسلام كانت الدولة البيزنطية يغشاها ظلام. وأشد العصور التي مرّت بها حلكة وظلاما هي المدة ما بين 641 و 850. ويحدثنا عن الحالة في أول هذه الفترة فيقول في كتابه عن تاريخ الدراسات اليونانية واللاتينية: أن القيصر ليو الثالث الذي استطاع أن يرد إغارة العرب على القسطنطينية. وأن يعيد تنظيم الإمبراطورية سواء من الناحية الحربية أو المدنية. لم يصنع مع هذا كله شيئا لتشجيع العلوم. بل لقد حرم معهد العلوم الإمبراطوري من ممتلكاته بالقرى من أيا صوفيا. وطرد رئيس المعهد ومعه إثنا عشر معلما كانوا يتولون مع نيوريس الفنون والفقه. وكذلك يروي بعض المؤرخين انه أمر بإحراق مكتبة المعهد، وبها نحو ثلاثة وثلاثين ألفاً من المجلدات في موضوعات دينية وغير دينية، ولئن كانت هذه حالة دولة اليونان في هذا العصر أي في العصر الذي اتسع فيه نفوذ الثقافة اليونانية في البلاد العربية، فكيف ترجو أن يعنى العرب بدراسة الآداب اليونانية واللاتينية؟ أما الفلسفة والعلوم المفيدة فقد كان لها عندهم المكان الأول، نظرا للظروف الخاصة التي دعت للاهتمام بهما: إذ كانت الفلسفة عندنا على الجدل الديني، والعلوم النافعة مثل الطب والهندسة، من بواعث الراحة المادية للإنسان. وكذلك يجب ألاّ تنسى أن العرب كان لهم أدب زاهر لا مراء في أنه من الرقي بمكان عظيم. وكأنما وجد الناس في القصائد الجاهلية وفي المدائح والمراثي والمنظومات المختلفة التي تغنى بها الشعراء الأمويون والعباسيون، وجد الناس في هذا كله بغيتهم من الخدمة الأدبية. أما النثر فانه من بعد تلك المعجزة الأبدية: (القرآن) قد جعل يرتقي حتى بلغ في أيدي كبار الأساتذة أمثال الجاحظ والحريري والهمذاني على مرتبة عالية من الكمال. وبهذه الصورة نما للعرب أدب خاص ممتاز وأصبح تراثا عظيما آل اليوم إلى البلاد الإسلامية.

ولكني وإن علمت ما امتاز به هذا التراث من عظمة واتساع ورقي. فإني على ذلك لا أتردد في أن اقرر بأن الذكاء العربي قادر بعد على إنتاج ثمرة لا تقل عن تلك المنتجات. بل لقد تفوقها وأنا زعيم بأن بلوغ تلك الغاية على أكمل وجه إنما يكون بدراسة آداب اليونان والرومان.

إن جميع الآداب الأوربية الحديثة مدينة دينا لا يمكن حصره للآداب اليونانية واللاتينية، وحسبنا أن نذكر تلك الحقائق المألوفة عن عصر النهضة في غرب أوربا وكيف أن استكشاف الآداب اليونانية من جديد - على أثر استيلاء الأتراك على الأستانة وانتشار العلماء والأسفار اليونانية في أوربا - كان باعثا لحياة جديدة في ميدان العلم والأدب، ووسيلة لغرس بذور الآداب القومية في كل بلد من البلاد الأوربية. . . .

في الوقت الحاضر نرى الآداب الأوربية الحديثة تدرس بحماس وبتقدير يبعثان على الإعجاب. وحاشاي أن أحاول الغض من هذا الحماس والنشاط. بل أني لأرى في المقالات التي كتبها المنفلوطي ومدرسته والكتّاب المعاصرون أمثال العقاد ومنصور فهمي وسلامة موسى وغيرهم من أعضاء ذلك الرهط النابغ من الكتّاب بعثاً جديداً في الأدب العربي. وخصوصا وفوق كل شيء نرى تلك النهضة في نبوغ شوقي الذي لا يضارع إعجابنا به إلاّ حزننا على فقده. وفي تلك الروايات التمثيلية التي أثمرها فكره الناضج الجميل.

ولكن إذا ما ذهبنا لرؤية رواية من رواياته تمثل في أحد المسارح فلنذكر أن الفن التمثيلي إنما ولد في بلاد اليونان، وإن ما خلفه الإغريق من القطع التمثيلية التي هي للعالم ذخر يعتز به ويحرص عليه، منذ خمسة وعشرين قرنا، لأنها هي أكمل وأبدع الروايات التمثيلية التي أنتجها الفكر البشري. لنذكر ونحن نقرأ روايات شكسبير وكورني وجوتيه، انه لولا اليونان لما كانت تلك الآثار وكذلك فنون الأدب الأخرى، فان مرجعنا فيها إلى أدب اليونان والرومان، الذي هو المنبع والمرجع لكل من آداب الأمم العربية. والآن يحق لنا أن نتساءل هل يجوز أن تستبعد الآثار اليونانية من النهضة الجديدة التي يعيش في ظلها كل مصري في وقتنا هذا سواء أدرك ذلك أم لم يدركه، وسواء رغب في ذلك أم رغب عنه؟ ومن ذا الذي تبلغ به الجرأة على أن ينادي بالاكتفاء بالأدب الأوربي عن الأدب اليوناني، والاستغناء عن المثال اكتفاء بالقياس؟

قال الأستاذ جيب في كتاب (تراث الإسلام) مقارنا بين أدب اليونان والعرب؟: (من أهم مميزات الأدب العربي والفارسي أنه عاطفي وأن الطالب الذي نشأ على حب المثل اليونانية في الأدب لن يجد في أدب العرب والفرس تلك الصفات التي امتاز بها أدب اليونان والتي هي السر في قوته الساحرة الباقية على مدى الزمان، وبرغم ما فيه من قوة الصياغة التي قد يفوق فيها قوة الصياغة في أدب اليونان، فإن فيه جمودا وفي أدب اليونان تنوعا، وفيه إغراق ومبالغة وفي أدب اليونان شدة ووقار، وقد بلغ الكتّاب اليونان واللاتين ما بلغوه من العظمة بتوخي البساطة والسهولة وعدم الاندفاع. بينما الكاتب الشرقي ينسج آياته فيملأها بالبديع الغامض من اللفظ، ويلتمس لها الاستعارات والكنايات البعيدة الخلاّبة. واليوناني يؤثر في الفكر بواسطة الجمال الخالص. أما العربي أو الفارسي فيؤثر في الحاسة أو في الخيال بما يأتي به من الألوان الساحرة).

والآن أليس من المحتمل أن قد يتاح لأبناء مصر أن يوفقوا بين المثل الأدبية العربية واليونانية؟ أليس ممكنا أن تعليما يتناول دراسة الأدبين العربي واليوناني في آن واحد، قد يأتي بنتائج لا يحلم بها أحد، ويوجد في الأدب العربي ثروة جديدة، إذ يكون سببا في خلق مسرح قومي وأناشيد وقصائد وتاريخا ونقدا أدبيا، وهذا كله يجمع مزايا كل من الأدبين ويفوق كلا منها؟ فهل يكون أملاً بعيداً أن نرجو أن الجامعة المصرية قد تصبح يوما ما ذات شهرة عظيمة في أمور كثيرة، ومنها أنها المعهد الذي يساعد على إيجاد مثل ذلك الأدب؟

في القرن الثالث الهجري، كتب الجاحظ وهو بالبصرة: (إننا لو لم تكن لدينا كتب الأوائل التي خلّدوا فيها حكمتهم وعلمهم والتي ذكروا فيها تاريخهم وأعمالهم حتى نكاد أن نراهم بأعيننا. ولو لم تكن عندنا ثروة تجاريهم، لكان حظنا من الحكمة والعلم صغيرا ضئيلا). هكذا كتب الجاحظ وما كان نصيبه من حكمة القدماء إلاّ نزرا يسيرا. فهل نكون نحن أقل اعترافاً منه بالجميل مع أن نصيبنا أكبر وأوفر؟