انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 119/شاعرنا العالمي أبو العتاهية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 119/شاعرنا العالمي أبو العتاهية

مجلة الرسالة - العدد 119
شاعرنا العالمي أبو العتاهية
ملاحظات: بتاريخ: 14 - 10 - 1935



للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

فنونه الشعرية: تناول أبو العتاهية لأول أمره من فنون الشعر الغزل والمدح والرثاء والهجاء والعتاب والاستعطاف وما إلى ذلك مما كان يتناوله غيره من الشعراء، ثم استفرغ بعد ذلك جل شعره في الزهد والوعظ والحكمة والمثل، فأعطى الشعر العربي من ذلك ثروة عظيمة كانت تنقصه

فأما غزله فكان يذهب فيه مذهب الشعراء العشاق كجميل بثينة وغيره، وإن كنا قد ذكرنا في ترجمته أنه لم يكن صادق العشق مثلهم، ولكن سجيته التي كانت تنازعه من أول أمره إلى قول الزهد، لم تكن لترضى له أن يذهب في غزله مذهب فساق الشعراء كامرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة وغيرهما، فجاء غزله عفيفا بعيدا عن الفحش والفجور، ليس فيه إلا شكوى الصبابة وألم الصد وعذاب الفراق ونحو ذلك من وجدانات أهل العشق؛ ولعل هذا أيضا مما كان يرغب المهدي والرشيد في غزل أبي العتاهية ويجعلهما يغضبان عليه إذا أراد أن يتركه إلى الزهد، مع أنهما كانا لا ينظران إلى غزل أحد غيره بتلك العين التي نظرا بها إلى غزله، وأمر المهدي مع بشار في غزله معلوم، وكذلك أمر الرشيد مع أبي نواس؛ وقد شاع الغزل بالمذكر في عصر أبي العتاهية فصان نفسه عنه، ولم يدنس شعره به، وهذه شهادة مسلم بن الوليد في غزل أبي العتاهية. ذكر أبو الفرج أن مسلما قال: كنت مستخفا بشعر أبي العتاهية فلقيني يوما فسألني أن أصير إليه: فجاءني بلون واحد فأكلنا، وأحضرني تمرا فأكلناه، وجلسنا نتحدث، وأنشدته أشعارا في الغزل، وسألته أن ينشدني، فأنشدني قوله:

بالله يا قُرة العينين زوريني ... قبل الممات وإلا فاستزيريني

إني لأعجب من حبٍّ يقربني ... ممن يباعدني منه ويعصيني

أما الكثير فما أرجوه منك ولو ... أطمعتني في قليل كان يكفيني

ثم أنشدني أيضا:

أخلايَ بي شجو وليس بكم شجو ... وكل امرئ عن شجو صاحبه خِلْوُ

وما من محبٍّ نال ممن يحبه ... هوّى صادقاً إلا سيدخله ز بليتُ وكان المزحُ بدء بليتي ... فأحببت حقاً والبلاءُ له بدْو

وُعلِّقْتُ من يزهو على تجبراً ... وإنيَ في كل الخصال له كُفو

رأيتُ الهوى جمر الغضا غير أنه ... على كل حال عند صاحبه حلو

ثم أنشدني:

خليلي مالي لا تزال مضرتي ... تكون مع الأقدار حتما من الحتم

يصاب فؤادي حين أُرمي ورميتي ... تعود إلى نحري ويسلم من أرمي

صبرت ولا والله ما بي جلادة ... على الصبر لكني صبرت على رغمي

ألا في سبيل الله جسمي وقوتي ... ألا مسعد حتى أنوح على جسمي

تُعدُّ عظامي واحداَ بعد واحد ... بمحني من العذال عظما على عظم

كفاكِ بحق الله ما قد ظلمتني ... فهذا مقام المستجير من الظلم

قال مسلم: فقلت له لا والله يا أبا إسحاق ما يبالي من أحسن أن يقول مثل هذا الشعر ما فاته من الدنيا؛ فقال يا أبن أخي لا تقولن مثل هذا، فان الشعر أيضا من بعض مصايد الدنيا

وأما مدحه فقد كان مدحا تجاريا لم ينطق فيه عن عقيدة، بل كان يمدح به قوما يخالفونه في عقيدته الشيعية، ولا يقصد من ذلك إلا الحصول على المال الذي أباح الشيعة أخذه من المتملك لأنه حق لهم، فسار أبو العتاهية في مدحه بقدر ما يصل به إلى هذا الغرض، ولم يدخل به في الخصومة السياسية التي كانت قائمة في عصره بين العباسيين والعلويين، وذهب فيها كثير من الشعراء مذاهب باطلة، ودفعهم حب مال العباسيين إلى أن يجعلوا حقهم في ملك المسلمين بالإرث عن رسول الله ، لا يشاركهم فيه العلويون ولا غيرهم من المسلمين، وفي هذا يقول قائلهم:

أنَّى يكون وليس ذاك بكائن ... لبني البنات وِراثةُ الأعمام

ولم يفرح العباسيون بشيء فرحهم بهذه الفكرة الخاطئة، فعدوها أكبر نصر لهم على خصومهم من العلويين، وأغدقوا على من أبتكرها لهم شعرا ما لا يحصى من الأموال، وحملوا الشعراء على التفنن فيها، وتصريف الشعر في تأييدها ونشرها

فلم يصل مدح أبي العتاهية للعباسيين إلى هذا الحد، ولم يبع عقيدته بأموالهم فيفضلهم على العلويين أو يذمهم من أجلهم، بل كان على حبه للمال وبخله به يعرف كيف يرفضه إذا كان في قبوله إهانة له، أو حطا من كرامته؛ ويمكننا أن نسوق على ذلك شواهد كثيرة، ذكر أبو الفرج أن أبا العتاهية كان منقطعا إلى صالح المسكين، وهو ابن أبي جعفر المنصور، فأصاب في ناحيته مائة ألف درهم، وكان له ودودا وصديقا، فجاءه يوما وكان له في مجلسه مرتبة لا يجلس فيها غيره، فنظر إليه قد قصر به عنها، وعاوده ثانية فكانت حاله تلك، ورأى نظره إليه ثقيلا، فنهض وقال:

أراني صالحٌ بُغضَا ... فأظهرتُ له بُغضَا

ولا والله لا ينق ... ض إلا زدتهُ نقضَا

وإلا زدته مقتا ... وإلا زدته رفضا

ألا يا مفسد الوُدَّ ... وقد كان له محضا

تغضبتَ من الريح ... فما أطلب أن ترضى

لئن كان لك المال ال ... مصّفى إن لي عِرْضا

فنمى الكلام إلى صالح فنادى بعداوته فقال فيه:

مَدَدتُ لمعرض حبلا طويلا ... كأطول ما يكون من الحبال

حبالٌ بالصريمة ليس تفنى ... موَصَّلةٌ على عدد الرمال

فلا تنظرْ إليَّ ولا ترِدْني ... ولا تَقَربْ حبالكَ من حبالي

فليت الرّدمَ من يأجوج بيني ... وبينك مُثبتاً أخرى الليالي

فَكرْشٌ إن أردتَ لنا كلاما ... ونقطع قحفَ رأسك بالقتال

وذكر أيضا أنه قدم يوما منزل يحي بن خاقان، فلما قام بادر له الحاجب فانصرف، وأتاه يوما آخر فصادفه حين نزل فسلم عليه ودخل إلى منزله ولم يأذن له، فأخذ قرطاسا وكتب إليه:

أراك ترَاعُ حين ترى خيالي ... فما هذا يرُوعكَ من خيالي

لعلك خائف مني سؤالي ... ألا فلك الأمانُ من السؤال

كفيتُكَ إن حالك لم تمِل بي ... لأطلب مثلها بدَلا بحالي

وإن اليسر مثل العسر عندي ... بأيهما مُنيتُ فلا أُبالي

ولا شك أن هذه النفس في إبائها وعقيدتها المخالفة لعقيدة ممدوحيها لو كانت لغير أبي العتاهية لصعب عليها في الشعر مقام المدح، ولكن طبع أبي العتاهية في الشعر سهل عليه كل شيء، وجعله يأتي في ذلك من المدح بما أرضى ممدوحيه غاية الرضى، وكان على ما ذكرنا في ترجمته يقصر التشبيب أمام المدح ولا يطوله حتى يكون كأنه هو مقصوده من شعره، كما كان يفعل ذلك غيره

وكان ابن الإعرابي يتعصب لأبي العتاهية فتنقصه رجل أمامه ورمى شعره بالضعف، فقال له: الضعيف والله عقلك لا شعر أبي العتاهية، ألأبي العتاهية تقول إنه ضعيف الشعر؟ فوالله ما رأيت شاعرا قط أطبع ولا أقدر على بيت منه، وما أحسب مذهبه إلا ضربا من السحر؛ ثم أنشده قصيدته في الزهد:

قَطَّعْتُ منك حبائل الآمال ... وحَطَطْتُ عن ظهر المطيَّ رحالي

ثم قال للرجل هل تعرف أحدا يحسن أن يقول مثل هذا الشعر؟ فقال له الرجل: يا أبا عبد الله جعلني الله فداءك، إني لم أردد عليك ما قلت، ولكن الزهد مذهب أبي العتاهية، وشعره في المديح ليس كشعره في الزهد، فقال: أفليس الذي يقول في المديح:

وهرونُ ماء المُزْنِ يُشفي به الصَّدى ... إذا ما الصدِى بالريق غُصَّت حَناجرُه

وأوْسط بيتٍ في قريش لَبَيتُه ... وأول عز في قريش وآخره

وَزحْفٌ له تحكى البُرُوقَ سيوفُهُ ... وتحكي الرعودَ القاصفات حوافره

إذا حَمِيَتْ شمسُ النهار تضاحكت ... إلى الشمس فيه بِيضُهُ ومَغافره

إذا نكِب الإسلام يوماً بنكبة ... فهرون من بين البرية ثائره

ومن ذا يفوت الموتَ والموتُ مُدْركٌ ... كذا لم يَفُتْ هرونَ ضِدٌّ ينافره

قال: فتخلص الرجل من شر ابن الإعرابي بأن قال له: القول ما قلت، وما كنت سمعت له مثل هذين الشعرين، وكتبهما عنه:

وأما رثاؤه فكان يذهب فيه مذهبه في الزهد والحكمة، لقرب مقامه من مقامهما، ومن ذلك رثاؤه في علي بن ثابت، وكان صديقا له، وبينهما مجاوبات كثيرة في الزهد والحكمة، فحضره أبو العتاهية وهو يجود بنفسه، فلم يزل ملتزمه حتى فاض، فلما شُدَّ لحياه بكى طويلا، ثم أنشد يقول:

يا شريكي في الخير قَرَّبكَ الل ... هُ فنعم الشريك في الخير كُنتا قد لعمري حكيت لي غُصص المو ... ت فحركتني لها وسكنتا

ولما دفن وقف على قبره يبكي طويلا أحر بكاء ويردد هذه الأبيات:

ألا من لي بأنسك يا أُخيَّا ... ومن لي أن أبثك ما لَدَيَّا

طَوَتْكَ خطوبُ دهرك بعد نشر ... كذاك خطوبه نشراً وَطَيَّا

فلو نَشَرَتْ قُواكَ لي المنايا ... شكوتُ إليك ما صنعت إليَّا

بكيتك ياعَليُّ بدمع عيني ... فما أغنى البكاءُ عليك شَيَّا

وكانت في حياتك لي عظاتٌ ... فأنت اليوم أوعظ منك حيَّا

وهذه المعاني كما قال أبو الفرج أخذها كلها من كلام الفلاسفة لما حضروا الإسكندرية، وقد أخرج ليدفن، قال بعضهم: كان الملك أمس أهيب من اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس؛ وقال آخر: سكنت حركة الملك في لذاته، وقد حركنا اليوم في سكونه جزعا لفقده. وهذان المعنيان هما اللذان ذكرهما أبو العتاهية في هذه الأشعار

وذكر أبو العتاهية أنه ماتت بنت للمهدي، فحزن عليها حزنا شديدا حتى أمتنع عن الطعام والشراب، فقلت أبياتا أعزيه بها، فوافيته، وقد سلا وضحك وأكل وهو يقول: لابد من الصبر على ما لابد منه، ولئن سلونا عمن فقدنا، ليسلون عنا من يفقدنا، وما يأتي الليل والنهار على شيء إلا أبلياه، فاستأذنته في إنشاد ما قلت فأذن:

ما للجديدين لا يَبْلىَ اختلافهما ... وكل غَضٍّ جديد فيهما بَالي

يا من سلا عن حبيب بعد مَيْتَتِهِ ... كمْ بعد موتك أيضاً عنك مِن سال

كأن كلّ نعيم أنت ذائقُهُ ... مِن لذة العيش يحكي لَمعَة الآل

لا تلعبنَّ بك الدنيا وأنت ترى ... ما شئتَ من عبرٍ فيها وأمثال

ما حيلةُ الموت إلا كلُّ صالحةٍ ... أوْلا فما حيلةٌ فيه لمحتال

وأما الهجاء فكان أبو العتاهية يترفع عنه ولا يقوله إلا مضطرا، فإذا قاله لم يفحش فيه كغيره، وكانت بينه وبين والبة بن الحباب مهاجاة حينما قصد والبة بغداد وهو كوفي مثله، فحسده على أن بلغ في بغداد ما لم يبلغه، وأخذ يهجوه ويذمه. وقد حدّث محمد ابن عمر الجرجاني قال: رأيت أبا العتاهية جاء إلى أبي فقال له: أن والبة بن الحباب قد هجاني، ومن أنا منه؟ أنا جرار مسكين - وجعل يرفع من والبة ويضع من نفسه - فأحب أن تكلمه أن يمسك عني، فكلم أبي والبة فلم يقبل، وجعل يشتم أبا العتاهية فتركه، ثم جاءه أبو العتاهية فسأله عما فعل في حاجته، فأخبره بما رد عليه والبة، فقال لأبي لي الآن عليك حاجة، قال وماهي؟ قال لا تكلمني في أمره، فقال هذا أول ما يجب لك، فقال أو العتاهية يهجوه:

أوالبُ أنت في العرب ... كمثل الشيص في الرُّطب

هَلمّ إلى الموالي الصِّ ... يد في سَعةٍ وفي رَحب

فأنت بنا لَعمرُ الل ... هـ أشبهُ منك بالعرب

غضبتُ عليك ثم رأي ... تُ وجهك فانجلى غضبي

لِما ذكَّرْتني من لو ... نِ أجدادي ولون أبي

فقل ما شئت أقبَلهُ ... وإن أطنبتَ في الكذب

لقد أُخبرْتُ عنك وعن ... أبيك الخالص العرب

فقال العارفون به ... مُصاصٌ غيرُ مؤتَشب

أتانا من بلاد الرو ... م مُعتجِراً على قَتب

خفيف الحاذِ كالصمصا ... م أطلسُ غير ذي نشب

أوَالب ما دهاك وأن ... ت في الأعراب ذو نسب

أراك وُلِدْتَ بالمري ... خ يا ابن سبائك الذهب

فجئتَ أَقيشرَ الخدين ... أزرق عارمَ الذنب

لقد أخطأتَ في شتمي ... فَخبَّرني ألم اُصِب

وقال فيه أيضا غير ذلك، فبلغ والبة، فجاء أبي فقال قد كلمتني في أبي العتاهية وقد رغبت في الصلح، فأخبره بما أخذه أبو العتاهية عليه، فقال له والبة فما الرأي عندك؟ قال تنحدر إلى الكوفة، فركب زورقا ومضى من بغداد إلى الكوفة، وكان هجاء والبة فيه ضعيفا سخيفا لا يقوى على هذا الهجاء، وفيه من الفحش ما نروى بعضه ليعلم بعد ما بين الهجائين:

قل لابن بائعة القِصارِ ... وابن الدَّوارِق والجِرَارِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . .

تهجو مواليك الأولى ... فكوككَ من ذُلَّ الاسار

هذا مثل من هجوه وإن الشعر لأعلى مقاما من هذا القبح الذي أتى به، وإنه لينال من نفسه بذلك قبل أن ينال ممن يهاجيه

عبد المتعال الصعيدي