مجلة الرسالة/العدد 118/من الأدب الأمريكي:
مجلة الرسالة/العدد 118/من الأدب الأمريكي:
قيصر
للقصصي الأمريكي بول بورك
تألق نجم مؤلف هذه القصة في العام المنصرم إذ تفوق بقصته (أخلاق) على جميع القصصيين الأمريكيين وأحرز من أجلها (جائزة أمريكا الأدبية لعام 1934)
بدأت المسألة بمعطف مطر. . .
وإذ خرج (قيصر سمث) في مساء يوم من أيام السبت المعهودة من جمعية رماية القرص التي يترأسها وسار على قدميه برغم المطر المدرار شاقا طريقه إلى منزله، رأى في تسياره الآنسة (شيلا) منزوية في مدخل لأحد المنازل غير حاملة مظلة ولا متدثرة بمعطف، وكانت تعمل جهدها للمحافظة على ثوبها الجديد من الماء الذي يتدفق منحدرا من سطح المنزل. . .
وإلى اليوم لم يدرك قيصر، وهو الرجل الخجول، كيف تسنى له أن يبدأ بحديث مع سيدة غربية عنه، ولكن لعل فوزه في رماية القرص عصر ذلك اليوم أحيا فيه النشوة. والخلاصة أنه خلع معطفه وقدمه إلى تلك الآنسة، وارتبك في القول
- (أنت هنا عرضة للتبلل بالماء. . . ارتدى هذا المعطف) ودهشت الآنسة من قوله ونظرت إليه في عجب وقالت:
- (ولكن كيف لي أن أقبل منك ذلك؟. . . وأنت؟) ولحظ قيصر أن لها عيونا ناعسة ساحرة، ولم يكن تبينها من قبل وقال لها:
- (لم يبق لي أن أسير طويلا، فنهاية سيري عند منعطف الشارع)
وكان ذلك منه اختلاقا، وترددت الآنسة بادئ ذي بدء، وكان من الواضح أن حرصها على ثوبها الجديد جعلها تتقبل في النهاية تلك التضحية. وأجابت
- (حقا إن ذلك لعطف منك عظيم. لقد انهالت الأمطار فجأة ويلوح لي أنها لن تحتبس قريبا. إنني مدينة لك بالشكر)
فأجابها قيصر وفي نبرات صوته شجاعة الكرام
- (إنه أمر لا يستحق أن ينوه به) وكان قد اعتزم المسير، فسألته الآنسة:
- (ولكن إلى أي مكان أرده؟)
فقال: (اسمي قيصر سمث)
وسرعان ما حدقت فيه الآنسة وقالت:
- (ما أروعه اسما! قيصر؟)
وأجاب في تواضع القنوع: (أي، ولماذا؟)
ثم فاه بكلام كبير المغزى إذ قال:
- (لا تكلفي نفسك مشقة إرجاع المعطف)
ثم سكت برهة وقال:
- (سأحضر بنفسي لآخذه)
فترددت الآنسة لحظة ثم قالت:
- (حسنا. إني أدعى شيلا هيرست وأسكن في شارع مونرو رقم 114)
وأسرع في ارتشاف ابتسامتها العذبة واستمر يتابعها بنظراته حتى أدركه جارف من الماء انساق إليه من حافة قبعته، فذكره بأن الوقت قد حان ليرجع إلى المنزل
وفي المساء التالي ذهب ليسترجع معطفه؛ فتعرف إلى المستر هيرست وزوجته، وقد استبقياه لتناول الشاي. وفي خلال ذلك تعرف إلى (المستر راند) الذي كانت له حظوة عند كل فرد من عائلة هيرست. وتراءى لقيصر أن تلك الحظوة وذلك العطف فيهما الكثير من المبالغة التي لا مبرر لها. وكان للمستر راند سيارة اتفق المجتمعون على أن يستقلوها إلى الشاطئ. وهنالك لم يجد قيصر من يتحدث إليه غير المستر هيرست، إذ أن راند كان يسير في صحبة (شيلا) على بضع خطوات خلفهما. ثم دعوا قيصر إلى العشاء في ذلك اليوم، وفي خلاله اختصته شيلا بابتسامة عذبة
وانتهى الأمر بقيصر إلى هذا الحد. ومنذ ذلك اليوم وهو يحمل وجها عبوسا، وما ذلك إلا لتأكده من أن مشاعره تحمل الحب لشيلا، ولكن أي أمل له - وهو الموظف البسيط ذو الأجر الضئيل - في آنسة يبتغيها لنفسه رجل مثل (راند) الثري. وبالمال الوفير تستهوى كل آنسة؛ ثم ماذا يقدمه لها عوضا عن المال؟ أيقدم اسمه العظيم الذي لم يحسن حتى اليوم صيانته؟ أم يقدم لقبه كرئيس لجمعية رماية القرص؟ لا شك أن هذا وذاك لا يغري، وليس ثمة من فائدة ترتجى أما لو كنت رئيسا أو وكيلا لرئيس أو على الأقل سكرتيرا لإحدى المؤسسات الكبرى، وكان لدى ما فيه الكفاية من المال لما توانيت عن نقش اسمي ووظيفتي على قبعتي، ولأمكنني إذن أن أفصح عما يخالج نفسي، ولعرفت كيف أرفع من شأن اسمي.
ولكن أي حال عليها أنا الآن؟ قيصر!! لاشك أنه هزؤ وسخرية، وما دمت موظفا بسيطا في (محل دولتل وشركائه) فلست قيصرا بل مجرد (أنت يا سمث) أو (أي. أنت الذي هنالك) ذلك إذا ما أريد مني شيء
وانطوى على أفكاره، ثم تذكر موعده فسار إلى منزل شيلا، ولاحت له من بعد سيارة (راند) مستقرة أمام المنزل. والأولى أن نتغاضى عما تمتم به ساعة أن رآها
وسألها (راند) أثناء تناول الطعام:
- إذن فستحضرين يوم السبت إلى ملعب كرة القدم، حيث تشاهدينني في الحفلة التي تقام ضد فرقة الأبطال الأقدمين)
وأجابت شيلا: (نعم)
ونظرت إلى قيصر وقالت:
- (ولعلك تحضر أنت أيضا!)
وهز هذا رأسه وقال:
- (إنني آسف، إذ أني سأشترك في اللعب)
وسأله (راند): (أي شيء، كرة القدم؟) ثم نظر إلى قيصر متعجبا من ضآلة جسمه وحقارة مظهره الذي لا ينم عن بطولة
واحمر وجه قيصر خجلا وقال:
- (كلا، بل رماية القرص)
فقال (راند) هازئا:
- (أي، إنكم ترمون بذلك الطبق الصغير هنا وهنالك، أليس كذلك؟ لقد فعلت هذا يوم أن كنت صبيا. أما الآن فأني أجدها لعبة مملة) وأجاب قيصر لفوره:
- (وكذا شأني وكرة القدم. لقد كنت أبحث دائما عن لعبة تتجلى فيها المهارة. ولا شك أن قرصا يرمي ليصيب هدفا أدعى للمهارة والدقة من كرة تدفع بالأرجل لتتقدم في السير)
وتدخلت شيلا في ذلك الحديث الذي أخذ يشتد وقالت:
- (ألم نذكر شيئا عن النزهة بالسيارة؟)
وتحمس (راند) وقال:
- (بلى، دعينا نذهب إلى الشاطئ)
والتفتت شيلا لقيصر وقالت له:
- (وستكون بالطبع معنا)
وما أن وصلوا إلى الشاطئ حتى نزل ثلاثتهم من السيارة، وأخذوا يتريضون في طريق البحر، وقد خلا من الناس أو كاد، ولم يبقى إلا بضعة أفراد متفرقين يستمتعون بالاستحمام في البحر
وأرادت شيلا أن تطرق حديثا لا يجر إلى المشادة، فسألت:
- (هل يمكنك السباحة؟)
ولم يعرف كلاهما لمن وجه السؤال، إلا إن قيصر بادر بالإجابة فقال:
- (قليلا، إذ لم أتدرب عليها التدريب الكافي)
ثم قال (راند):
- (وكذلك حالي، إن لعب كرة القدم يستولي على كل وقتي، ولهذا كانت معرفتي بالسباحة ليست عظيمة للغاية)
وسألته شيلا ثانية:
- (وماذا أنت فاعل إذا رأيت رجلا يغرق؟ وليكن على سبيل المثال ذلك الرجل) وأشارت بإصبعها إلى رجل يسبح على بعد غير كبير من الشاطئ
وأجاب (راند) في لهجة الواثق من نفسه:
- (بالطبع أقذف نفسي في الماء وأعود به إلى الشاطئ)
ونظرت شيلا إلى قيصر وقالت: - (وهذا ما أنت فاعله أيضا، أليس كذلك؟)
وتردد قيصر في الجواب ورنا ببصره إلى ما وراءه فوجد قائمة في مدخل البحر معلقا بها (حزام النجاة) مشدودا بحبل إلى القائمة. فقال:
- (كلا، إنني لا أقذف بنفسي في اليم إذ أني لا أجيد السباحة، ولا يمكنني أن أسدي للغريق نفعا)
وصاح راند بصاحبه: (أي جبان!) ضمنها شيء من السخرية
وحدقت شيلا في قيصر الذي يحمل اسما كثير الوعود والآمال. وسألته مرة أخرى:
- (إذن تتركه يغرق؟)
فأجاب قيصر: (كلا)
وقبل أن يتم حديثه أخذ السابح - وقد كان على وشك النسيان منهم - في أن يثير المسألة بنفسه. وكانت مفاجأة عجلى ساعة أن رفع السابح ذراعيه في الهواء وصرخ مستغيثا.
فنزع راند معطفه. ثم تردد وقال في نفسه: هل من الأنصاف أن أضحي بحياتي؟ ولاشك أنه رأى في هذه اللحظة الماء في تلك البقعة أعمق منه في المحيط، ثم هو أصقع من ثلج القطب.
وحثته شيلا، وقد بدأ القلق ينتابها:
- (أسرع إنه يشرف على الغرق)
وصاح الرجل من الماء في صوت يكاد يختنق:
- النجدة، النجدة!!
وصاحت شيلا مرة أخرى:
- (أسرع، أسرع وإلا ذهبت أنا بنفسي إليه)
وقال قيصر بينما كان منافسه يتباطأ بشكل مزر ليخلع حذاءه:
- (قفي مكانك!)
ثم انتزع (حزام النجاة) واتخذ موقفا كالذي اعتاد أن يقفه في عصر كل يوم سبت لرماية القرص. ثم رمى رميته فتطاير الحزام مع الهواء ورسم في الفضاء قوسا عاليا، ثم انبطح دفعة على الماء. وقد كاد يسقط على رأس المشرف على الغرق وقال قيصر وقد تملكته السكينة والثقة بالنفس:
- (مصيب!. . . يقدر بنقطتين. .)
وكانت شيلا ترقب رميته وتتابعها بنظرات وجلة. فلما أن اقتيد الرجل الذي نجا وجيء به إلى الشاطئ وأفرغ زفيره وتأوهاته، سأل عمن رمى إليه بحزام النجاة، فأشارت شيلا إلى قيصر وقد تملكها الفخار
وحدق الرجل الذي نجا من الغرق في قيصر وقال له:
- (ظننت حقا أن حياتي قد انقضت، إذ أصبت بتصلب في الشرايين فجأة. . . لقد كانت رمية متقنة)
وأفصحت شيلا عن قيصر بقولها:
إنه رئيس جمعية رماية القرص
وقال الرجل وقد أدرك سر الأمر:
- (آه، لهذا كانت تلك الرماية محكمة. والآن اسمح لي أن أقول لك إنك أستاذ ماهر. ولو أنك لم تكن هنا لكنت الآن في ناحية ما من قاع البحر. . . إنني أود من صميم فؤادي أن أقدم لك خدمة بأي حال، فعرفني ماذا تريد)
وما فرغ من كلامه حتى أخذ ينظر إلى قيصر من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، ثم سأله:
- أين تعمل؟
فأجاب قيصر:
- (في محل دولتل وشركائه)
- (واسمك؟)
- (قيصر سمث)
وقال الآخر بصوت خافت:
- (إن قيصر اسم بديع) ثم أفصح وقال: (واسمي بلوارك) وأعقبه قيصر متسائلا:
- (من مصنع ينيفرسال للسيارات؟!) فقد كان اسم بلوارك معروفا للجميع، حتى لصبية الشارع
فقال هذا: - (نعم، وإن لم تعلق أهمية خاصة على وظيفتك الحالية فإني أتقبلك في محل عملي بكل ارتياح إنني دائما في حاجة إلى شاب له قدرة على العمل في الوقت المناسب والرجل العملي يجد عندي الطريق مفتوحا أمامه.)
وأبرقت عينا قيصر وتمتم:
- (إذا فلا أقل من سكرتير!)
واتجه ببصره نحو شيلا التي كانت تحدق فيه طوال هذه المدة والإعجاب به قد تملكها
واندفع قيصر قائلا وكأنه قد استقر على أمر
- (ليس من طبعي أن أستخلص الحوادث فأستثمرها لنفسي، ولكن إن كنت حقا في حاجة إلي فأني أبحث عن وظيفة تمكنني من الزواج.)
ثم أخذ يد شيلا في يده، فما تراجعت ولا وهنت، وكان ذلك أمام سمع (راند) وبصره الذي تبلبل وانطفأ منذ اللحظة الأولى لتلك الواقعة
وهكذا جاوز قيصر كل تقدير
نقلها عن الإنجليزية
ا. ا. ي