مجلة الرسالة/العدد 117/صور حجازية (طبق الأصل)
مجلة الرسالة/العدد 117/صور حجازية (طبق الأصل)
الإعدام!
للأستاذ علي الطنطاوي
سيقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض: هذه وحشية، هذه همجية، هذا لا يكون في القرن العشرين، قرن الحرية والنور، هذا يأباه فلاسفة العالم المتمدن؛ المسيو فلان، والمستر علان، والهر جرمان، والسنيور إيطاليان
ويقول الحق: هذا واجب، هذا حسن، هذا دواء القرن العشرين، قرن الاستعمار والاستعباد، وإبادة الضعفاء، واغتصاب الحريات، هذا ما أمر به الله، وجاء به رسول الله ﷺ فلينظر امرؤ مسلم: أيتبع أمر الله، وسنة رسول الله ﷺ، أم يتبع رأي المسيووات والمساتير، والهررة والسنانير؟!. . .
سمعت - وأنا في مكة - أن أمراً سيقع بعد صلاة الجمعة (آخر المحرم سنة 1354) فجعلت أرقب وأنتظر، لا أحب أن أسأل أحداً، كيلا تفوتني لذة المفاجأة وروعة الحدث. ثم إن الرجل في الحرم كالسائح في أرض الله، لا يدري من يسأل؛ ولا يعرف من يخاطب، وبينا هو في (الهند) يسمع لغة الهنود ويرى أزياء الهنود، ويبصر عادات الهنود، إذا به ينتقل بعد خطوات إلى (نجد) فإذا هو بين النجديين، وإذا كل شيء من حوله عربي نجدي، ثم يخطو فإذا هو في مصر، بين المصريين، يسمع حديث مصر. في لهجة مصر. . . فكأن الدنيا كلها قد استقرت في الحرم، تستظل بالبيت العتيق، وتطوف به، وتجثو خاشعة من حوله، فلا يحس الرجل وهو فيه بأن وراءه دنيا، أو ظاهر جدرانه حبا من الناس، أو عامراً من الأرض
حتى إذا قضيت الصلاة، وانفتل الإمام، ابتدر الناس أبواب الحرم يستبقون إلى شارع الحكومة - وهو في أسفل أجياد، يمتد من شمال الصفا حتى يجاوز باب إبراهيم - فلم تكن إلا هنيات حتى امتلأ الشارع على سعته بالناس، ولم يبق فيه موطئ قدم، فجعلت أزاحم الناس لأخلص إلى الساحة، فلا أتقدم خطوة؛ ومن لي باختراق هذا السد الهائل من الأجساد، واجتياز هذا الخضم من الناس؟ فأيست واحتسبت مصيبتي في فوت المشهد عند الله، وهممت بالعودة إلى الحرم، وإذا أنا بالشيخ يوسف ياسين (سعادة سكرتير جلالة الملك فتعلقت به وقلت:
- والله لا أدعك حتى تبلغ بي الساحة
فأعتذر وتملص، فما نجا ولا تخلص، وكيف يتملص مني وقد كنت كالغريق وجد سفينة النجاة، أفيدعها بعدما وجدها؟ فأجاب على كره وسار وأنا أتبعه، والبحر ينشق له كأن بيده عصا موسى. . . وما للناس لا يتفرقون من بين يديه حذرين خائفين، وهو سكرتير الملك؟ حتى إذا بلغ بي درج القصر عاد لشأنه وتركني، فصعدت فلم أجد مكاناً أقف فيه، ووجدت الغرف كلها ملأى بالموظفين والمقربين والحاشية فقادوني إلى غرفة فخمة أعدت للأمير فيصل (ابن الملك ونائبه على الحجاز) ولأهل البيت: بيت الملك
ولم لا يفعلون وأنا ممن يكتب في الصحف، والإكرام إنما يكون لمن يكتب في الصحف، أو يملك سبيلاً من سبل الدعاية، والحذر إنما يكون من هؤلاء. فذكرت قالون وزير لويس السادس عشر، حين رأى أن خير طريقة لتقوية الحكومة الضعيفة، وإغناء الخزانة الفقيرة، أن تقيم الحكومة الولائم الفخمة وتنفق الأموال الطائلة، تشتري ألسنة المادحين، وأقلام الكاتبين حتى يقال: إنها غنية. . فقالوا: إنها غنية، لأنهم أكلوا خبزها ولكن الخزانة قالت: إني فقيرة! وقال التاريخ: إن قالون رقيع. . .
وقفت في النافذة بين فتية من آل البيت؛ فيهم ابن للأمير فيصل في نحو الثانية عشرة من عمره، ما رأيت في لداته أثقب منه ذهناً، ولا أصح جواباً، ولا أحد ذكاء؛ وأطللت على الناس، وإذا هم أخلاط من كل جنس ولغة وزي، فمن رجل عباية على رأسه عقال أسود على صماد أحمر قد التحف بعباية رقيقة على ثوب أبيض، وقد حلق لحيته كلها إلا نقطة واحدة من العثنون، وهلالاً دقيقا من تحتها، نما فيه صف واحد من الشعر كأنما هو مروحة تدلت على صدره: سنة يتبعونها ما أنزل الله بها من سلطان. . . وهذا هو النجدي
ومن رجل يلبس ثوباً رقيقاً فوقه رداء قصير (جاكيتة) من قماش هفهاف، وعلى رأسه قلنسية (طاقية) بيضاء، إذا مشى في الشمس تعمم عليها بملحفة بثقل الفراش، يتقي بها شمس مكة الحادة المخيفة وهو حليق اللحية صغير الشاربين. . . وهذا هو الحجازي
ومن رجل وسخ الثياب، ممزقها، لا تدري عن ثيابه ما لونهما وما هي، وعلى رأسه حبل قد وضعه مكان العقال. . . وهذا هو الأعرابي ومن رجل يلبس ثوباً متقن الصنع، عليه عباءة جميلة شفافة وعلى رأسه عقال مذهب، أو يلبس بدل الثوب حلة (بدلة) بيضاء وهو حليق اللحية، إلا قليلاً منها يبقيه بمثابة الدلالة على أنه ملتح. . . وهذا هو السوري. وأكثر السوريين في الحجاز موظفون في الوظائف الفنية، وأقلهم تجار
ومن رجل على رأسه عمة ضخمة فخمة كعمائم السلاطين من آل عثمان - يوم كان لآل عثمان سلاطين، وكان لسلاطينهم عمائم - وقد أرخى بين كتفيه عذبة طويلة، وله لحية كثة مستديرة، وشاربان طويلان، أما ثيابه فقميص تحته سراويل بيض، تبلغ الكعبين. . . وهذا هو الهندي
ومن شاب حليق الوجه كله (على الأسلوب الأمريكاني) نظيف الثياب مهفهف قد ائتزر بمئزر (فوطة) لفها على خصره النحيل لفاً محكماً، واجتزأ بها عن السراويلات، وارتدى عليها رداء قصيراً رقيقاً، وربما بلغ ثمن المئزر من هذه المآزر خمسة الجنيهات أو أكثر. . . وهذا هو الطالب الجاوي، وما أكثر هؤلاء الطلاب في مكة
ومن عبد أسود، جعد الشعر، أفطس الأنف، ضخم الشفة، عارٍ إلا من خرقة تستر عورته أو بعض عورته. . . وهذا هو الأفريقي الأسود
ومن. . . ومن أمم ربنا التي لا تعد ولا تحصى
وكان القوم مختلفين في أزيائهم ولغاتهم وأجناسهم، ولكنهم تجمع بينهم هذه القبلة التي قطعوا السباسب، وخاضوا البحار، ليواجهوها، ويقفوا أمامها، ويتعلقوا بأستارها
ثم أقبل الجند، وهم بثياب عربية. قد تمنطقوا عليها بمناطق الرصاص، فاصطفوا من حول الساحة، ثم أقبل الأمير فيصل في موكبه، يحف به طائفة من عبيده الأمناء الأشداء الأوفياء، فصعد إلى الغرفة التي نحن فيها فجلس في شرفتها الكبرى
ثم جيء بالرجل؛ وهو قصير كز ساهم، ما عليه إلا قميص واحد مشقوق الجيب، وكان أصفر قد دمع وامتقع لونه، وغاض من وجهه الدم، مجموعة يداه إلى قفاه، قد مات من قبل الممات. يقوده جندي آخذاً بتلابيبه، حتى إذا بلغ به الساحة خلاه فهوى جاثياً على ركبتيه، فلبث لحظة ما يفتح عينيه من الجزع، ثم ارتدت إليه نفسه بعد حين، فجعل يقلب عينيه في الناس فيرى كل شيء من حوله ميتاً لا حياة فيه، فكأن الدنيا قد أظلمت في ناظريه حين يئس من الحياة، كبيت أطفئ فيه المصباح في ليل داج
وجعل يرى الشمس مشرقة، ويرى الجند جائين ذاهبين، يدلون بشاراتهم وسلاحهم، ويرى القصر قائماً يحمل سطوة الحكومة وهيبة السلطان. . . ولكنه لا يرى من ذلك كله إلا صوراً مطموسة، تطلع عليه من خلال حلم عميق. . . ثم تضاءلت هذه الصور واختلطت، ولم يبقى قيد ناظريه إلا الكعبة، يبصرها من باب الحرم، فجعل يحرك شفتيه بالتوبة والاستغفار ويشير بسبابته إشارة التوحيد، ثم أغمض عينيه وجرفه سيل من العواطف المتباينة فغاب في ذهول عميق، ولم يعد يفكر في شيء
وجيء بالمجرم الآخر، وهو عبد أسود، ضخم الجثة، غليظ الشفتين، كثير الشعر، كأنه غول هائل، أو وحش مروع، وقد قيده الجند، وجمعوا يديه إلى عنقه وأقبلوا يمسك به ستة منهم وهو يصاولهم ويقاومهم، ويزمجر ويصرخ صراخا شديداً، وهم يزبرونه ويقرعونه حتى انتهوا به إلى الساحة، فاجتمعوا عليه فأضجعوه على سرير من الخشب وشدوه إليه شداً وثيقاً، وأقاموه بحيث يرى رفيقه ويبصر مقتله
وكأن العبد قد اهتجمت نفسه، وأدركه الخور، فسكت وسكت الناس وعلقوا أنفاسهم وشخصوا بأبصارهم
وجعلت أطل من الشباك أبحث عن الجلاد فلا أرى أحداً، وأفتش عمن يتلو حكم الإعدام فلا أجده. وأرى سمو الأمير يشير بيده، فإذا عبد ضخم يبرز من بين الصفوف، وبيده سيف صقيل مسلول، فيأتي الأعرابي من ورائه وينخسه بالسيف، فينتبه ويمد عنقه مستطلعاً، فيهوي العبد بالسيف على قذاله، ثم يحز به الرأس حزّا، فلا تمضي ثوان إلا والرأس قد بتر عن الجسد، من القذال إلى أعلى الصدر، وطاح ثلاثة أمتار قبل أن تند من المقتول صرخة، ونفر الدم من عنقه كأنه نافورة، ومال الجسد قليلاً قليلاً ثم هوى، وهويت أنا قبل هويه وكفاي على عيني، ولم أعد أشعر بشيء
ولما صحوت قيل قد فاتك المشهد الهائل: قطعت يد العبد ورجله من خلاف
قلت: ويحكم، ماذا تقولون؟
قالوا: قطعت يده ورجله، ألم تتل قول الله عز وجل:
(إنَّما جَزَاءُ الذّين يُحاربُونَ الله ورَسولَه ويَسعْونَ في الأرض فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أو يُصَلَّبوا أو تُقَطّعَ أيدْيهم وأَرْجُلُهم من خِلاف أو يُنْفَوْا مِنَ الأرض). أما إنه لولا هذا ما بلغتم أرض الحجاز سالمين. وما العهد السابق ببعيد، أفلا نستحيي بقتل واحد أو أثنين الناس جميعاً؟ قلت: بلى والله! صدق الله العظيم: (ولكم في القِصاص حياة)
دمشق
علي الطنطاوي