انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 116/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 116/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 09 - 1935



صور من هوميروس

6 - حروب طروادة

للأستاذ دريني خشبة

لم يبق إذن على الأسطول إلا أن يقلع إلى طروادة فيدمرها تدميراً! ولكن البحر هادئ، والرياح نائمة، ولابد لهذه السفن المثقلة بالعدة والعديد من قوة هائلة تدفعها في هذا الخضم الساخر!

الأيام تمضي دون أن تستيقظ الريح!

والملال يدب في قلوب الجند من طول ما لبثوا في تلك الجهة من شاطئ العابس المتجهم لا يريمون!

والميرة تكاد تنفذ!. . . . .

والخيل تعلك حديدها كأنها برمت بهذا الركود!

- (كالخاس!)

- (مولاي!)

- (أذهب يا رجل فاستوح لنا أربابك ماذا تنبغي لتطلق الرياح؟؟. . . . . . . .)

- (لبيك يا مولاي)

وانطلق عراف الحملة إلى المعبد القريب فمكث غير قليل، وعاد بقلبٍ موهون، وجسمٍ مضعضع، ووجه مغبر، وجبين كاسفٍ معقد

- (ما ورائك يا كالخاس؟!)

- (مولاي!. . . . . . . . .)

- (تكلم! تكلم يا كالخاس!)

- (الآلهة! الآلهة عطشى يا مولاي!)

ولم يتمالك العراف الشيخ أن سقط على نفسه من الإعياء، ومما يخترم فؤاده من الهم! وأسقط في أيدي القادة. . . وعالجوا كالخاس بالماء، ودهنوه بالطيوب، حتى أف وقال العراف مخاطباً أجاممنون:

- (مولاي؛ ابنتك يا مولاي!)

- (ابنتي؟! ابنتي من؟)

- (إفجينيا!. . .)

- (ماذا؟ افجينيا مالها؟)

- (لابد من تقديمها قرباناً! لابد من أن يطل دمها على مذبح الإله الأكبر!)

- (ولمه؟)

- (لكي تطلق الرياح من عقالها، ولكي تكون فدى للجيش كله، ولهيلاس جميعاً!!!)

- (يا للهول! لا كانت هذه الحرب!)

وما كاد يقولها حتى تكبكب القواد حوله، وطفقوا يترضونه: (من أجل الآلهة، وفي سبيل الوطن!)، والرجل يبكي وينشج، ويذهب نفسه شعاعاً!!

وأمرهم أن يتركوه وحده ليرى رأيه. . . .

فلما انصرفوا دعا إليه كالخاس، وأخذ معه في حوار طويل، ثم رجاه أن يذهب إلى المعبد فيضرع إلى الآلهة، عسى أن تقبل قرباناً آخر غير هذه الفتاة الحبيبة المنكودة، مهما غلت قيمة هذا القربان!

وعاد كالخاس، وأخبر أن الآلهة لا تبتغي بافجنيا بديلا!

وانهزم أجاممنون الأب، وانتصر أجاممنون المؤمن التقي الورع، الذي يقدس الآلهة، ويعرف لها قدرها، فأمر بقرطاس وقلم، وكتب إلى زوجه كليتمنسترا:

(بشراك يا حبيبتي!

أتعرفين أخيل؟

أخيل الذي أصبح ملء الأسماع والأفواه والقلوب! بطل هيلاس الذي وعدتنا الآلهة طروادة على يديه! الشاب الوسيم القسيم القوي الأبي الشجاع! يتقدم أخيل لخطبة إفجنيا - ابنتنا المحبوبة - ويود لو تزف إليه قبل أن يقلع الأسطول لتدمير طروادة! إنه لاشك سيرى في مرآة إفجنيا وطنه، وحينئذ يكون حرباً على الأعداء، ونقمة عليهم من السماء!

أرسليها أيتها العزيزة، وأحب إلى أن تسرعي بإرسالها من دون ما جلبة ولا عناد، فالوقت ضيق ونحن على وشك الإبحار)

(أجاممنون)

وانطلق رقيق عجوز بالخطاب إلى آرجوس. . . حيث تثوى كليتمنسترا في قصرها المنيف (أتريدي) مع أبنتها أفجنيا، وأبنائها الآخرين!

وخفق قلب الفتاة حينما أخبرتها أمها أن أخيل يريد يدها. فقد كانت هيلاس كلها تتحدث باسم الفتى، وتصلي للآلهة التي وفقته للانضمام إلى الجيوش الغازية

خفق قلب إفجنيا. . . وكأنما غرقت في لجة من الأحلام التي تجيش عادةً في قلوب العذارى، حين يمر بهن هذا الطور الناعم الجميل من أطوار الحياة. . .

ولكن ما الذي أوحى إلى أجاممنون بهذا التدبير؟ ولم أختار هذه الحيلة المكشوفة لاستدعاء ابنته التاعسة؟ لا ندري!

لقد مرت أيام دون أن تحضر إفجنيا. ولم يكن الطريق طويلاً أو شاقاً بين أوليس وآرجوس حتى تتأخر كل هذه المدة. . . فهل حدث شيء؟. . .

وكأنما طول الانتظار قد أثار العاصفة من جديد في قلب أجاممنون الأب! فبدا له ألا يصدع لهذا الظلم الأولمبي، ولو صار بعدها زنديقاً ملحداً مطروداً من جنة الآلهة، مغضوباً عليه من قلب الوطن!!

قد كان!

فانه استدعي الرقيق العجوز، الذي كان يحمل دائماً بريد القائد العام إلى آرجوس، ودفع إليه برقعة أمر فيها ألا تحضر إفجنيا!! وأمره أن يسرع بها إلى زوجه، قبل أن تكون قد أخذت أهبتما للسفر!

وا أسفاه!

لقد لقي منالايوس - شقيق أجاممنون وزوج هيلين وملك إسبارطة؛ والذي من أجله شبت هذه الحرب - الرقيق العجوز حامل الرسالة، فاستوقفه وقرأها!

ودارت الدنيا بالملك المحزون، واحلولكت الحياة في عينيه وقصد من فوره إلى أخيه فانتهره، ونشبت بينهما معركة حامية من السباب والتعيير. يدفع أجاممنون عن ابنته، وفلذة كبده، ويفتديها بنفسه وبالدنيا وما فيها، ويعيره منالايوس بالمروق من الدين، وعصيان الآلهة، وشق عصا الطاعة على السماء!

وإنهما لكذلك، إذا برسول بعلنهما أن كليتمنسترا، زوجة أجاممنون وابنتها إفجنيا، تستأذنان في المثول بين يدي الملك، ويدي القائد العام!!

يا لسخرية المقادير؟

يتفجر الحنان في قلب منالايوس المتحجر، ويرق لأخيه البائس الملتاع، فيقول له: (أخي! أنقذها يا أخي! إنها ابنتي كما هي ابنتك، فأنقذها كما يحلو لك!!)

ويبهت أجاممنون لهول الموقف، ولا يدري ماذا يقدم أو يؤخر؛ ثم يراه واقفاً وحده يبكي. . . كما يبكي الأطفال. . . بعد إذ غادره أخوه

ويلمح زوجه مقبلة، فيصلح من شأنه، ويتكلف البشاشة والتبسم، وإنها لبشاشة باكية، وإنه لتبسم حزين!!

- (أهلاً أهلا إفجنيا!! مرحباً مرحبا كليتمنسترا! سفر حميد ورحلة طيبة!!

- (أين أخيل، وماذا أعددتم للاحتفال بالعروسين؟)

- (أ. . . أ. . . أجل. ولكن لابد أن تعودي أنت إلى آرجوس!)

- (أعود إلى آرجوس! أعود واترك ابنتي!)

- (أجل! تعودين وتتركين إفجنيا!)

- (والعرس! وإعلان الخطبة على الأقل؟ ألا أحضر شيئاً من ذلك؟ هذا لا يكون! لن أعود حتى أشهد كل شيء!)

وتصر كليتمنسترا على بقائها حتى تحتفل بابنتها، وحتى ترى إلى هذا العسكر المجر والأساطيل المنتشرة في البحر كالدبى، تحي ابنتها وتحي أخيل، وترقص طرباً للعروسين!!

ثم يحدث ما ليس في حسبان أحد!!

يحضر أخيل ليقابل القائد العام، وليبدي له سخطه وسخط جنوده (الميرميدون) من طول هذا الانتظار الذي يبدو أن ليس له آخر. . . ويلح لديه في وجوب الإقلاع إلى طروادة مهما كلفهم الأمر!

وما تكاد كليتمنسترا تسمع كلام أخيل، وتسمعه يذكر فرقة الميرميدون المشهورة في جميع الآفاق ببسالتها وكلفها الخارق بالحروب، حتى تعرفه أنه أخيل. . . أخيل بعينه. . . خطب ابنتها. . . وزوج إفجنيا الحبيب!

فتتقدم إليه هاشةً محيية، حتى إذا أنس إليها، بدهته بالسؤال عن العرس!

- (عرس؟ عرس ماذا؟)

- (عرس ماذا؟ ألست أخيل! ألست قد تقدمت إلى أجاممنون، أمير آرجوس، تطلب أن تكون إفجنيا زوجة لك؟ ألم تطلب يد إفجنيا؟ تكلم!. . .)

ولكن أخيل يسمر مكانه باهتا، لا يدري ماذا يقول، لأنه لا يعرف مما قالت السيدة شيئاً!! وتحملق الملكة في أخيل طويلاً، ويتصبب العرق من جبين إفجنيا، الفتاة البريئة، لما ترى من حيرة أمها، وارتباك هذا الجندي الباسق الجميل، الذي كانت تحلم به زوجاً كريماً لها؟!

وكأن هذا الموقف لم يرض أحداً. . . حتى الرقيق العجوز، حامل بريد القائد العام؛ فقد انفجر هذا الخادم الأمين من شدة الحنق، فباح بكل شيء. . . . . .! باح بكل ما سمع من تحاور منالايوس الملك، وأجاممنون القائد الأعلى، بخصوص هذا الزواج المفترى: (مولاتي الملكة! خذي حذرك لفتاتك المسكينة، إنها ستذبح! إن الكهنة الأشرار سيذبحونها اليوم ليسقوا أربابهم الظامئة من دمها الثمين! إن أخيل الكريم لم يتقدم ليطلب يد إفجنيا! بل هو لا يعرف من أمر ذلك قليلاً أو كثيراً! هاهو أمامك فاسأليه!. . .)

وكأن صواعق السماء جميعاً نزلت على قلوب القوم!

لقد تحطمت كليتمنسترا!

وذاب الثلج في عروق إفجنيا!

وزلزل أجاممنون!

أما أخيل! فقد شده، وحجبت ناظريه سحابة كثيفة من الذهول! ثم ما هو إلا أن أفيق فاضطربت به الأرض، وأحنقه أن يتخذ مطية لهذا العبث العابث، والسخرية المهينة!

وصاح الشاب كأنه أسد مهيج، وانقدح شرر الغضب من عينيه، حتى خيف أن يبطش بأجاممنون وجنوده،. . . كيما يثأر لاسمه، ويطهر كرامته. . .

وانتهزتها الملكة فرصة غالية لتنقذ ابنتها من القتل، فانبطحت عند قدمي أخيل تقبلهما، وتغسلهما بدموعها، متوسلة إليه أن يدفع عن إفجنيا، ويحول بينها وبين الموت!

- (فان لم يكن بحسبك أن أمرغ خدي تحت قدميك لتكون حامي ابنتي، فإنها هي أيضاً تفعل مثلي يا أخيل! إنها تمرغ حر جبينها عند موطئ هذه القدم الطاهرة لتكون حاميها وحارسها!!)

- (قفي يا سيدتي! وكلمي أباها في شأنها، فان لم يحل بينها وبين الموت، فإني سأقتتل من دونها حتى أنقذها من الهلاك، ولو حاربت هيلاس جميعاً!!)

وترجو الأم زوجها أن يحول بين ابنته وبين هذه القتلة الشنيعة؛ ويتصدع قلب أجاممنون، وتنهمر دموعه شفقة على الفتاة التعسة. . . فيعد! ولكن. . . لآت حين موعد!!

لقد نمى إلى العسكر أن أخيل أنذر أن سيقف دون الدم الذي أمرت الآلهة أن يراق فغيظوا وأحنقوا، وذهبوا إليه يتحسسون جلية الأمر، فصارحهم به، فانقضوا عليه يرشقونه بألسنتهم الحداد، ويرجمونه بحجارة الشاطئ. . . فولى مدبرا!!

وريعت الأم حين رأت إلى الميرميدون - جنود أخيل الأمناء - يرجمون سيدهم فيمن يرجمه من الجنود الآخرين، فعولت على أن تحمل السلاح وتقف إلى جانبه، تذود هؤلاء الوحوش!!

ولكن إفجنيا الصغيرة! إفجنيا الفتاة! إفجنيا العظيمة! وقفت في وجه أمها، وصرخت قائلة:

(مكانك يا أماه! لن يموت أخيل من أجل فتاة!

من أنا حتى يفتديني هذا البطل العظيم؟ وما حياتي التافهة في حياته المذخورة الغالية؟. . . إن رجلاً يحارب من أجل هيلاس، أجدر بالحياة من عشرة آلاف امرأة لا يستطعن إلى حرب من سبيل؟

أيها الجنود!

خلوا سبيل سيدكم، فلن تفتح طروادة إلا عليه، كما أخبرت بذلك آلهتكم! ومادام النصر معلقاً بحياتي، فكم يبهجني أن أفتدى الوطن، وأرضى أربابي!! أن هيلاس كلها تنظر إلي اليوم! فهل فخرأكثر من أن أكون عند حسن ظنها بي!! أنا لها! أنا أفديك يا وطني! أماه! لا تحزني! انظري إلي! هأنا أبتسم للموت. . . . للقتل. . . . للذبح. . . . هلموا يا سادة. . . . هلموا. . . أين المذبح. . . صلوا من أجلي. . . تحيى هيلاس!. .)

وفي هذه اللحظة فقط، تكبر إفجنيا في عيني أخيل، فيتمنى لو أجلت في حياتها لتكون زوجة كريمة له. . . ويعرض استعداده للمنافحة عنها بسيفه، ولكنها تنهاه، وتوصيه أن يعيش لوطنه، ويذب عن بيضته، ويعلي كلمته. . .

وتنسكب دموع أخيل. . .

ويسير الجميع وراء إفجنيا العظيمة. . . إلى. . . المذبح!!

فيا للفتاة. . .

ويا للأم. . .

ويا لأخيل البطل!

وتضع إفجنيا رأسها على رخامة المذبح، ويرهف الكاهن مديته. . . ولكن؟. . . لقد شده القوم. . .! ونظر بعضهم إلى بعض. . .!

انهم ينظرون فلا يرون إفجنيا!!

بل يرون مكانها ظبياً. . . رشاً غريراً!!

إذن هي المعجزة!!

لقد تفطر قلب ديانا الكريمة من أجل الفتاة، فهبطت من ذرى الأولمب لتنقذها. . . فرفعتها إلى السماء. . . ثم أرسلتها لتكون راهبة معبدها العظيم في مملكة توريس!!

وارتفعت أغاني الغواني. . .

يسبحن للآلهة العطشى!!

(لها بقية)

دريني خشبة