مجلة الرسالة/العدد 116/إلى الدكتور طه حسين
مجلة الرسالة/العدد 116/إلى الدكتور طه حسين
نزيل حمص
للأستاذ محمد روحي فيصل
هو العبد الحبشي الماكر، ومولى السيد جبير بن مطعم، (وحشي). نزل حمص واستقر بها فيمن نزلها من المسلمين الفاتحين في صدر الإسلام، واتخذوها لهم مقاماً ومستقراً، وكان وحشي في الجاهلية، فتى شجاع رقيقاً يخضع على كره منه لما يخضع إليه الرق من ضعة الذل والعبودية، فلما كانت غزوة أحد وقامت الحرب التي لابد منها بين النبي وخصومه، صاح به مولاه جبير وقال:
- هذا العداء دائر بيننا وبين محمد، وأنت باسل طموح، فلئن قتلت حمزة عبد المطلب عم النبي وثأرت لي منه، فأنت حر طليق
- سمعاً وطاعة يا مولاي
وتشب النار، ويضطرب الناس، وتتساقط القتلى من الفريقين، ووحشي الماكر كامن أثناء المعركة وراء شجرة يستتر بها عن الأعين ويرقب الفرصة السانحة، فلما رأى أسد الله حمزة يجول في الميدان ويصول على جواده، رماه بحربة من هذه الحربات القاتلة التي لا تخطئ موضع الخطر في الإنسان، ولا تحيد عما قصد بها من غاية. .!!
وينطلق العبد إلى مولاه جذلان مرحاً، ويظفر بحريته الحبيبة، (ولكنه لم يعد إلى بلده، وكيف سبيل العودة إليها؟ ولم يسد في مكة، وكيف السبيل إلى السيادة فيها؟ إنما عاش بين قريش حراً كالعبد وطليقاً كالأسير)
ثم ينتشر الإسلام، وتنهار الوثنية، ويدخل المسلمون الظافرون مكة الكافرة، فتضيق الدنيا على رحبها بالعبد القاتل، ويفكر كثيراً في نجاته، فيفزع آخر الأمر مضطراً إلى الإسلام، ويقصد خائفاً وجه النبي، ولكن النبي لم يقتل قط رجلاً جاءه مسلماً. ويحزن النبي عليه السلام حين رآه، ويسترجع بالذكرى والخيال عمل وحشي المنكر الماضي، فيقول له: غيب وجهك عني! فخضع التائب للأمر الواقع، وندم على ما فعل (وعاش وحشي في المدينة حراً كالعبد؛ وطليقاً كالأسير، وجعل الندم يحز في قلبه حزاً، ويمزق فؤاده تمزيقاً، يؤرقه إذا دنا الليل، ويعذبه إذا أقبل النهار!) ويلهو العبد النادم بالجهاد، ويشترك في حروب الردة، فيبلو فيها البلاء الجميل، ويقتل مسيلمة الكذاب، ثم يمعن في جهاده ويغزو مع من غزا بلاد الروم، فينزل حمص ويستقر بها فيمن نزلها من المسلمين الفاتحين، واتخذوها لهم مقاماً ومستقراً؛ ولكن الندم على هذا الجهاد المتصل لا يزال قوياً واضحاً يفعل أفاعيله في نفس وحشي المسلم، يقلق عليه مضجعه، ويشغله عن كل شيء، ويعذبه عذاباً أليماً
ويمضي على عادته أديب العربية الكبير الدكتور طه حسين في تحليل النفس النادمة، ووصف ما تعاني من الآلام، فإذا وحشي (يستعين على الندم بالخمر، وإذا هو يشرب ويسرف في الشرب، وإذا هو يضرب في الشراب فلا يمنعه الحد من معاودة الشراب، وإذا هو المعروف في أهل حمص بما قدم من خير وشر، وإذا هو معروف في أهل حمص بسكره إذا سكر، وبصحوه إذا صحا، وإذا هو يسكر حتى يصبح مخوفاً على من يدنو منه، ويصحو حتى يصبح عاقلاً حلو الحديث. والندم يلح عليه حتى يبغضه إلى نفسه تبغيضاً، ويصرفه عن الصحو صرفاً، وكلما مضت عليه الأيام ازداد إمعاناً في الشراب، والسن تتقدم به، وجسمه يضعف شيئاً فشيئاً، وعقله يذهب قليلاً قليلاً، والندم ماثل مع ذلك في نفسه، ملم بداره، يأخذه من كل وجه، وهو لا يجد سبيلاً إلى الفرار منه إلا إلى الشراب، وهو يضرب في الشراب، وقد ضعف وفني، فلا يحتمل الضرب فيموت
وقفت خاشعاً بالأمس على قبر وحشي المجاهد السكير، وهو قبر متواضع متهدم لا يزال قائماً في شرق حمص يزوره الناس كل يوم، أسترجع الجهاد العظيم الذي أبلاه صاحبه، وأتمثل مصرع حمزة (خير الناس) ومسيلمة (شر الناس) على يده، وأسأله هل شرب فأسرف في الشرب؟ وضرب على ذلك فلم يمتنع عن السكر؟ وهل كان حقاً لا يجد سبيلاً إلى الفرار من الندم إلا إلى الشراب، وهل ختم حياته الصالحة بهذا الشر المنكر؟ وما عهدتني قط في حياتي أقف على الأرماس البالية المتداعية، أخشع حيالها وأسكن إلى صمتها وأستنطقها تاريخ أصحابها كما يسجله الدهر، وتمليه الحقيقة، ويقتضيه المنطق، وخرس القبر الأبكم الأصم فلم يجب السائل ولم يتحدث إلى الواقف، ولكن معناً واضحاً أشرق على قلبي وتمدد في نفسي، يقول أن وحشي المجاهد قد ظلم ظلماً كبيراً، ونسب إليه ما هو منه براء، ولم يكن كما وصف مدمناً يفزع الخمر ليقتل ندمه الماثل وينسى ألمه الرازح
ورجعت إلى الكتب أستنطقها هي الأخرى عن حياة وحشي، فإذا بها تتحدث إلي عن كل شيء، وتقص لي ما تعرف في هدوء المنطق وجمال الحقيقة، ولكنها تنكر هذا الشرب المتصل الذي ختم به وحشي حياته وضرب من أجله مرات، والإسلام يمحو ما قبله، فكيف اشتد الندم بالصحابي هذا الاشتداد، حتى لجأ إلى الخمر يعاقرها ويلهو بها، وهو يعلم أن الله قد رضى عنه وغفر له حين دخل في الإسلام؟
أن الكاتب الأديب الروائي غير مطالب بالدقة التاريخية، ولا هو مسؤول حين يعمم القول ويرسله إرسالاً، مادام قوله لا يناقض وجه التاريخ ولا يهدم ظاهر الرواية؛ ولكنه مطالب مسؤول حين يقرر شيئاً يخالف المأثور الواقع أو لا يقره التاريخ عليه ولا يؤيده الحق فيه
وما أرى إلا أن عظام الصحابي الجليل قد اهتزت في قبره، وضج الحمصيون لما نسب إلى نزيلهم الكريم. ونحن خبيرون بثقافة الدكتور الواسعة العميقة، وشدة تحريه في كتب التاريخ الإسلامي، واستقامة منطقه ونظرته، فهل يدلنا الدكتور أو تحيلنا (الرسالة) على مصدر الرواية التي يصورها الأديب المثقف فيحسن تصويرها ويبدع في سردها، والتي لم نعثر عليها فيما بين أيدينا من كتب التاريخ ومراجع البحث؟
(حمص)
محمد روحي فيصل