انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 115/المسرح المصري

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 115/المسرح المصري

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 09 - 1935


للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

أخفق المسرح المصري، أو لم يقم، وهذا أصح، لأن الذين حاولوا هذا الأمر لم يجدوا من يسدد خطاهم، ويأخذ بيدهم، ويشد أزرهم، فخابت مساعيهم، وضاعت عليهم جهودهم وأموالهم، وتخبطوا حيناً، ثم يئسوا وانصرفوا عن أمر لا طائل تحته، ولا محصول وراءه، ولا خير فيه لا لهم ولا للأدب ولا للناس.

ويخطئ من يظن أن الذنب للحكومة وحدها، وأن تقصيرها في بذل العون للمسرح قعد به ثم قضى عليه، ولا ريب أن الحكومة أهملته وتركته للأقدار، حتى طار في النزع، ثم حاولت أن تدركه، ولكن بعد أن تفاقمت العلة وتعضَّلت المداوى، فلم ينفذه المال الذي بذل له، بل أزلفه إلى البوار الذي لم يبق منه مفر، ذلك أن المال لم يكن كل ما بالمسرح فقر إليه، فقد بدأ مستغنياً بنفسه عن مثل هذه المعونة، وكان في أول عهده يلقى من الإقبال والتشجيع ما ينفى عنه الشعور بوجود خلة تتطلب أن تسدّ، ثم فتر الإقبال وانصرف الناس لأنهم لم يجدوا ما يطلبون، وما كان خليقاً أن يؤدي إلى قيام مسرح مصري بالمعنى الصحيح، فقد كان المسرح معنياً بالترجمة والنقل والتمصير، فكان صدى للمسارح الغربية، ولم تكن له صبغة مصرية، وليس عندنا ممثلون في وزن ممثلي الغرب، والحياة المصرية لا تشبه الحياة الغربية إلا في بعض المظاهر المنقولة، ومجتمعنا يقوم على نظم تغاير نظم الغرب من وجوده شتى، على الرغم من كثرة ما أخذنا عنه واقتبسنا منه، وكذلك تختلف الروح والمزاج والطبائع والنزعات. فإنا شرقيون على فرط ما نحاول أن نتغرّب، ومازال صحيحاً أن الشرق شرقٌ، والغرب غربٌ، وأنهما لا يكادان يلتقيان، والشرق مهبط الأديان، والغرب مصانع آلات، والأديان لا تهبط الآن في شرق أو غرب، ولكن مزاج النفوس هو هو، كما كان، في الناحيتين، وتهيؤها واستعدادها واتجاهها، وأسلوبها في تلقي الحياة وتناولها، ولا عبرة بالتعليم أو الجهل في هذا الباب، وإنما العبرة بالروح العامة، قد يزوّرها التعليم ويخفيها أو يسترها، ولكنه لا يستطيع أن يغيرها.

لهذا كان ما يمثل على المسرح المصري من الروايات المترجمة أو الممصرة، لا يستولي على هوى الجمهور، ولا يشعره أن ما يراه يصور حياته كما بدت للكاتب، وبعد أن أفرغ عليها صبغة الفن، فبقى المسرح غريباً أو أجنبياً وإن كانت لغته العربية حيناً، والعامية أحياناً، صار المرء يؤثر أن يقرأ هذه القصص في الأصل أو بإحدى اللغات التي نقلت إليها، أو أن يشاهد ما يعرض منها في دور السينما.

وقد قطع المسرح - أو باعد على الأقل - ما بينه وبين الأدب، فكانت تلك جناية ليس كمثلها جناية، ألوت به أشد الإلواء، وأتت عليه من قواعده، ولسنا نفرد رجال المسرح أو الأدباء باللوم، فان كلا من هؤلاء يحمل نصيبه، ولعل رجال الأدب قصراً في الاتصال بالمسرح، وعسى أن يكون الذنب للاتجاه العام الذي سار فيه الأدب المصري بعد نهضته الحديثة، فقد كانت العناية كلها - أو جلها - بالشعر والبحث والنقد، ولم تكن القصة تشغل حيزاً في هذه الحلبة الواسعة، ولكن رجال المسرح كانوا أشد تقصيراً، فقد كانوا يستطيعون أن يحولوا إليهم جدولاً من ذلك النهر الفياض، غير أنهم تهيبوه وأشفقوا من مطالبه، وظنوا في مقدورهم أن يستغنوا عنه، واجروا سفينتهم على العامية فجنحت بهم ولزقت بالأرض، وتحطمت على الصخر.

والعامية لفظة نطلقها هنا على اللغة وعلى أسلوب التناول أيضاً، فنحن نعنى بها الجمل باللغة، والجهل بالروح التي كان يجب أن يستوحيها المسرح، وهو توسع في التعبير نجيزه لأنفسنا في هذا المقام ولا نرى منه بأساً، ولا نخشى معه التباساً، والأدب وحده هو الذي يدخل في وسعه أن يهتدي إلى اللغة المرافقة لقصة المسرح، وهو وحده الذي يستطيع أن يستلهم روح الجماعة، فأما أنه هو الذي يقدر على الأداء الموافق، فلأن الأدب ذوق وبصر وسليقة وعلم وفن، فان لم يكن هذه فهو ليس بأدب، وأما قدرته على الاستيحاء فذاك لأنه فن، والفن ملكة يحصل بها إدراك الحقائق وإبرازها على نحو يصدق على العموم وإن كان يبدو أنه في أمر على الخصوص، ومن هنا فرق ما بينه وبين التجربة، فإنها معرفة بأحوال معينة وخبرة بها تقتصر عليها ولا تتسع حتى تكون شاملة، أما الفن فيتعاق بالحقائق العامة، وهو فطنة، لا علم، وملكة قد تساعدها الخبرة ولكنها لا تخلقها، وذوق تصقله وترهفه المرانة غير أنه لا يكتسب بها، وإن كانت المرانة تفيد الحذق والبراعة.

ولا يقل أحد إن الجماهير لا تقدر الأدب، وإنها يشق عليها أن ترتفع إلى طبقته كما يتعذر عليه أن ترتفع إلى طبقته كما يتعذر عليه هو أن ينزل إليها، فان القول بهذا اجهل وغفلة، والذي يذهب إلى هذا الرأي إنما ينظر إلى الشكل والعبارة لا إلى الجوهر والموضوع، ثم هو يخلط بين ضروب متباينة من الأدب. نعم، يعسر على الجماهير غير المثقفة أن تنتفع أو تستمتع ببحث أو درس، أو أن تدرك القيمة الحقيقية لقصيدة، وأن تفطن إلى عناصر الجمال أو الجلال أو القوة فيها، ويعييها أن تبين لماذا يطربها الشعر أو يروقها الكلام ويطيب موقعه من نفوسها، أو يؤثر فيها، ولكنها تميز بغريزتها وإن لم تميز بعقلها، وتحس بروحها وإن عزها الاهتداء إلى السبب، والقصة، بعد، شيء لا عناء عليها في فهمه، لأنها حوادث ووقائع قد يكون أو لا يكون وراءها معنى عويص أو فكرة عميقة، على أن الوقوع على المراد لا يعجز الجمهور إذا سيق مساق القصة، وللناس نفوس، وفيهم نظر ولهم إدراك وإحساس إذا لم يكن لهم علم. وأسلوب القصة يسهل التلقف، ويقرب المغاص، وفي وسع القارئ أو المشاهد أن يعرف مبلغ الصدق في التصوير إذا لم يستطيع أن يقطن إلى دقائق الفن، كما يعجب بالصورة ويشهد لها بالصدق في التعبير، والقوة في النطق، وإن غابت عنه المزايا الفنية التي لا يراها أولا يستطيع الحكم عليها إلا أهل هذا الفن والعارفون به.

وقد تم هدم المسرح لما ظهرت السينما الناطقة، لأن مجالها أرحب، وميدانها لا تكاد تحصره الحدود، وقد تضعضع المسرح في أوربا من جرائها، فلا بدع أن قوضته في مصر، وهو هناك يعانى منها البرح، فغير مستغرب أن يدركه هنا الفناء، وعسير بعد السينما الناطقة أن يقوم في مصر مسرح إلا في ظل الحكومة وبمالها ورعايتها، ولكنه لا خير في هذه الرعاية إذا لم يقض عليه القائمون به الصبغة المصرية، ولم يخلعوا عنه ذلك الثوب المستعار الذي انتهى بأن صار كفناً له، وقد صار أمل المسرح المصري معقوداً الآن برجلين أثنين يتوليانه: حافظ عفيفي باشا، والشاعر خليل مطران، فإذا خاب هذان، فلست أرى أملاً للمسرح وراءهما.

وقد كانت عناية الحكومة - إلى الآن - بالأوبرا دون غيرها، وصحيح أنها اعتادت في السنوات الأخيرة أن تمنح الفرق إعانات، وأن تبذل للممثلين مكافآت، ولكن الإعانة كانت ضئيلة لا تغنى، والمكافأة كانت زرية، وكان الأسلوب الذي تجري عليه وزارة المعارف في منحها لا يخلو من استهان لكرامة الممثل. على أن هذا كله لم يكن إلا ستراً لجودها على الأوبرا، وليست الأوبرا مصرية، ولا التمثيل فيها بلغتنا، ولعل مصر هي الدولة الوحيدة التي تبنى داراً للأوبرا لتستقدم إليها فرقاً من أمم شتى تمثل بلغاتها ويضمن لها الربح، وإن كان أبناء البلاد لا يذهبون إليها ولا يشهدون ما يمثل على ملعبها. وهو تكلف شديد انفرادنا به، ولا غاية منه إلا أن تجد السياح حين يفدون داراً للأوبرا، عامرة بمثل ما ألقوه في ديارهم، ولو أن هذه الأوبرا كانت مصرية والتمثيل فيها كذلك، لكان هذا أبعث على سرور السياح، لأنهم لا يجيئون إلى بلادنا ليروا فيها ما يرون في بلادهم، بل ليطلعوا على ما عندنا نحن، مما لعنا تميزّنا به وخالفناهم فيه، ولو وثقوا أن ما عندنا ليس إلا صورة لما تركوه لما جشموا أنفسهم عناء السفر ومشقات الرحلة ونفقاتها. وليت الفرق التي نبذل لها المال لنفاخر بها من الطراز الأول! والغريب بعد ذلك أن الفرق المصرية كانت تذاد عن دار الأوبرا إلا في الندرة القليلة والفلتات المفرده. وهذا حال يجب أن يقلب ليعتدل، وعار ينبغي أن يغسل عنا، ومهزلة يجب أن تقصر الحكومة عنها، وإلا صح فينا بعد ألف سنة أننا أمة تضحك من جهلها الأمم.

إبراهيم عبد القادر المازني