مجلة الرسالة/العدد 114/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
مجلة الرسالة/العدد 114/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
19 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
فريدريك نيتشه
للأستاذ خليل هنداوي
كانت أولى مآثر نيتشه للامعة في الفلسفة (نشأة المأساة)، فهي المثل الأعلى الذي وجده في البطل (ايشيل) والفيلسوف (شوبهناور) والفنان (فاجنر)، وفي أخريات أيامه جدد نيتشه العهد لمثله الأعلى الذي تكرر في (السوبرمان - الإنسان الكامل)، وبين هذين العصرين تمتد هاوية عميقة تفصل بين هاتين القمتين: عصر سلب ونقد مفرط. إن نيتشه قد عجل بالبناء وكأني به قد شعر بأن مواد بنائه لم تكن صلبة بالمقدار الذي يجب أن تكون عليه. ألم يحس في نشأته الأولى أن في أصول (شوبهناور وفاجنر) ما لا يمت بأصوله ولا يلتقي مع فكرته، فعمل على اقتلاع ما لا يتصل به واستخلاص ما داخل فكرته مما لا يوائمها. وفي العصر الثاني رأيناه يقتفي سبيله الذي انتهجه في البدء بعد أن حطم ما حطم من قيم فاسدة ونظم معفنة دون ما رأفة ولا شفقة. وبهذا انتقل من مرحلة السلب إلى مرحلة الاثبات، واستبدل جرأة الناقد بذهول النبي. وكان من آثار ذلك العهد الأول (أشياء إنسانية) و (آراء مختلفة) و (المسافر وظله) و (فجر)، وكلها سطرت يوم كانت الحادثات تهد صحة نيتشه، وكلها وليدة ذلك الحذر الأعمى من الوجود، هذا الحذر الذي ولده الداء في نفسه، فالريح الذي يخفق حوله بارد قاتم، ونيتشه يلوح كالمهدم العابث الذي زال من صدره عامل الإشفاق، يعمل على تهديم أسوار الشرائع وتحطيم أبراج الأخلاق، ففي كتابه (أشياء إنسانية) يحارب التشاؤم ويسطو على معلمه (شوبنهاور) جاحداً مذهبه، كافراً بتعاليمه، لا يؤمن بأن الإرادة شيء قائم بذاته، نافياً القول بإمكان (شيء يقوم بذاته)، يقاتل عاطفة الرأفة والشفقة، ويرذل فضيلة الزهد، هذه الفضيلة التي تجرد الإنسان من شخصيته وأنانيته، وفي هذا الكتاب أصبح لا يرى غاية الإنسانية توليد العبقرية كما جهر من قبل؛ ولكنها بمجموعها تمشي ولا غاية تسعى إليها. وفي كتاب (المسافر وظله)، يعلن ذلك الظل الذي يلحق الأشياء حين تشرق عليها شمس المعرفة، ويعتقد بأن الأشياء لا تدرس واضح جلية عندما يحدد دارسوها دراستها على ضوء المعرفة (المثالية) لأنه لا يبدو إذ ذاك من الأشياء إلا أجزاؤها المضيئة، أما الأجزاء القاتمة فتبقى بعيدة عن نظر المجتلي، وهكذا ينبغي للمفكر الحقيقي الذي يرغب بأن تكون له فكرة تامة عن الحقيقة أن يتأملها من وجهها الخفي. وفي كتابه (فجر) يُخضع نيتشه لنقده مسألة (القيم والنظم الأخلاقية) التي يقدسها الناس ويحترمون قواعدها، هو يرى أن الأيمان بالواجب ليس بنظام سماوي ولا بتعليم أوحته السماء على البشر، وليس هنالك قاعدة خالدة لتمييز الخير من الشر، وهذه الشريعة الأخلاقية التي تجبر الإنسان على أن يكون صادقاً أمام نفسه في كل شأن، قد تنتهي بالاضمحلال، فقد يغدو الإنسان بالأخلاق ردئ الأخلاق، كما يغدو بالدين زنديقاً، لأن إخلاصه لعقله يزجيه إلى أن يقذف بنقده الأخلاق ذاتها، وأن يكون في ريب من نظمها
والمثل الذي استخلصه نيتشه من الوجود أصبح يدنو الآن من المثل الواقعي، فقد يرى أن كل كائن في الثلاثين من أعوامه الأولى تتولد فيه حركة قد تحتاج الإنسانية إلى ثلاثين ألف سنة لتحقيقها. الإنسان الأول ينشأ في حداثته مؤمناً متديناً، ثم فاقداً لإيمانه في الله والخلود، مأخوذاً بما يزين له العلم النظري، ثم يفقد العلم النظري تأثيره، حين يمسي لا يشبع نفسه ولا يكفي عقله. وفي النهاية تستيقظ فيه الروح العلمية فتقوده إلى دراسة التاريخ والطبيعة درساً صحيحاً. وفي إنسان العلم وفي الروح الحر المفلت من كل وهم زائل والمنعتق من كل اعتقاد باطل، في هذا الإنسان يرى نيتشه الإنسانية المتسامية، فالروح الحر هو متشائم يعتمد على عقله، وهو مفتقر إلى صحة أدبية قوية لا غش فيها، تعمل على الحيلولة بينه وبين الاستسلام إلى اليأس والفناء، وليس من السهل على الإنسان أن يمزق عن جسده أثواب الخطأ الملتفة عليه في كل جانب ليرى الحقيقة ماثلة أمام عينيه، (فالحياة الإنسانية غارقة بأكملها في الأخطاء، وليس في استطاعة الفرد أن ينتشل نفسه من هذه الهاوية إذا لم يكن خصماً قاسياً على ماضيه، كثير السخرية من الإهواء التي تدفعنا إلى الإيمان بالمستقبل وبالسعادة الآتية)، وبهذا يستطيع إذا كان جريئاً صافي الطبع أن يجد في العلم ما يعمل على استنقاذ روحه من اليأس، فان المعرفة المبطنة بالتشاؤم تنقذه من السأم الذي يأكل قلوب سواد الناس. حتى إذا قدر أن يتحرر من كل ما يحترمه الناس زاده تمتعه بالأشياء طرباً وجمالاً، فهو يهوى أن يحلق فوق الاضطراب البشري لا يخفق قلبه رعباً فوق العادات والأوهام والعقائد، هو يحيا لكي يفهم فهماً صحيحاً، وإن أسمى مكافأة عنده هي أن يتفهم في نفسه وفي غيره من الأكوان هذه النواميس الضرورية المتجلية في حركات الكون، وأن يستدل - كالمنجم - على مستقبل الذرية البشرية
(وهل تعتقد بأن مثل هذه الحياة المتجلببة بمثل هذه الغاية باعثة للفناء خالية من اللذة؟. . . . إنك لم تدرك أن السحب الثقيلة، سحب الأحزان هي أثداء ضخمة ترضع منها أفاويق عذبة حلوة، لتقبل الشيخوخة فتفهم بنفسك كيف تلبي نداء الطبيعة، نداء هذه الطبيعة التي توجه العالم إلى السرور. هذه الحياة التي اتخذت الشيخوخة سنامها اتخذت الحكمة ذروتها. . . وهل الحكمة إلا ذلك الشعاع المنبثق من الفرح العقلي. . . الحكمة والشيخوخة عنصران نراهما على قمة طود واحد - هكذا شاءت الطبيعة - قد تقترب الساعة فلا تهتج! ولتكن حركتك الأخيرة - حين يتراكم ضباب الموت - جهداً تبذله وتوقاناً نزاعاً إلى النور، لتكن تنهداتك الأخيرة أنشودة انتصار الحكمة)
ومنذ عام 1882 بدأت تتبدل لهجة نيتشه تبدلاً محسوساً على أنه ثابر على نضاله ومحاربته لعقائد جيله حتى النهاية. فكتبه الأخيرة إنما هي غارة شعواء ضد المسيحية وما تحمله من زهد وتقشف. ولكن هذه الصيحات التي يرسلها قوية عالية أصبح يمازجها قليل من الألحان العاطفية؛ ألحان نشيد الانتصار
عاد نيتشه إلى صحته بعد أن قضى أيام علة وسأم، يرتقب الموت في كل فجر يتنفس، وفي كل ليل يتعسعس. عاد إليه رجاء جديد وتنفس جديد، - والأرض أرحب بكثير من كفة الحابل. . .! - يقول في فاتحة كتابه (العلم الطرب): (إن هذا الكتاب هو صيحة طرب بعد أيام طويلة مكفنة بالبؤس والعجز. هو إغنية مرح تتهادى فيها أصوات قوى بعثت بعثاً جديداً وألحان إيمان واسع في الغد وما بعده، في مستقبل مفتوح لي يحمل طيه حوادث قريبة، ينطوي على بحار حرة وغابات جديدة تجذبني نحو ما أستطيع أن أبلغه وأقدر أن أومن به) وهكذا تقشع من سماء نيتشه سحاب اليأس القاتم، فبانت له سماء صافية مضيئة. رحل الشتاء المتجمد وخفق قلب ربيع جديد.
وفي هذه الخطرات الجديدة التي هيمنت عليه عادة الشك في قيمة ذلك الروح الحر الذي بشر به وجعل منه مثالاً عالياً. إن هذا الروح الحر عابس ينقصه روح الطرب، قد جعل منه الألم كائناً كئيباً وهذا الروح لا يزال ثقيلاً لم يتعلم أن يرقص وأن يلعب ويفرح حراً طرباً وثاباً على أمواج الحياة، إن هذه الفكرة خلقت لنيتشه خيالاً جديداً انطوى على الصورة الرائعة التي وجدها في نبيه (زرادشت) هذا النبي الذي قضى في الصحراء عشرة أعوام، مرتاحاً لعزلته وفكرته، ثم نزل إلى الناس يلقنهم الديانة الجديدة، ديانة السوبرمان والعودة الخالدة، وهو يجمع حوله في مناراته المنعزلة نماذج متقاربة صافية للإنسانية المتألمة السامية. إن رجال الرغبة الكبيرة والاحتقار الكبير والسأم الكبير؛ هؤلاء الرجال يجب أن يفسحوا مكاناً للسوبرمان الذي يشفيهم من تشاؤمهم ويضيء لأعينهم آفاق المستقبل، ثم يموت في اللحظة التي يبلغ فيها أعلى ذروة الحكمة، في اللحظة التي تبلغ فيها شمس وجوده سمتها الأعلى في الهاجرة الكبرى، معلناً بموته انتصار مذهبه
وقد رأينا توصلاً إلى تحليل فلسفة نيتشه تحليلاً منطقياً أن نقسمها إلى قسمين: الناحية السلبية، وهي تنطوي على نقد الإنسان الحالي ونقد إيمانه وغريزته، والناحية الإيجابية، يبحث فيها السوبرمان وعودته الخالدة، وبهذا تبدو أفكار نيتشه مرصوفة ضمن نظام مذهبي لم تعرف به من قبل. لأن هذه الأفكار في الآونة الأخيرة لم تثبت على حال معهودة فهي سريعة التبدل وسريعة التنقل. ونتشه نفسه لا يريد أن يكون فيلسوف مدرسة. . . لأن الحقيقة عنده لا خلاف فيها. على أنه لم يحجم عن مهاجمة الآراء التي يراها فاسدة بأدلة باهرة وحجة منطقية (إلا أن غريزتي تريني في هذا الإنسان أو في هذه الكتلة من الناس جماعة منحطة تدعو إلى الاحتقار. . . وفي هذا المذهب أو في هذا الإيمان جرثومة مرض. . . إنني أحاربهم وأكافحهم كما يكافح الخطر والمرض. فإذا صح أنني أنصر مذهباً حياً وخصومي ينصرون مذهباً فاسداً فالنصر لا ريب معاودي، وفي الحالة المعاكسة لا يأتيني إلا الخسران! وبما أنني لا أريد إلا شيئاً واحداً هو انتصار الحياة، أراني أطرب بانكساراتي كما أطرب بانتصاراتي وكل ما وراء ذلك عندي سواء
أو ليس من الغباوة أن نشيد مذهباً منطقياً لفلسفة نيتشه ضمن هذه البوادر، شأن فلسفة (كانت) وشوبنهاور، وليس للمنطق كبير شأن في هذه الفلسفة؟. على أن نيتشه إذا صح حدسي كان يأتي المسألة ويدرسها من جوانب مختلفة، يتلقنها ثم يدرسها ثم يفحصها حتى تحين اللحظة التي يطلق فيها حكمه الأخير. فإذا درست آثاره أثراً أثراً ألفيت أن المواضيع نفسها تطوي وتنشر ومن وراء ذلك عقل نيتشه العظيم. وإذا لم يأخذ نيتشه بالمنطق ونظامه الدقيق كما يأخذ به أرباب الفلسفة فليس معنى ذلك أن الرجل خلت أحكامه منها، أو أن عقله لم يكن منطقياً. فالرجل حاد الفكر، وفلسفته - من حيث المجموع - يربط بينهما نظام منطقي دقيق. ولكن صحته السيئة حالت بينه وبين ترتيبها ترتيباً فنياً، فجاءت مقاطيع متفككة بأجزائها كاملة بكليتها. مقاطيع أودع فيها صاحبها كل نفسه وقلبه
(يتبع)
خليل هنداوي