مجلة الرسالة/العدد 113/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
مجلة الرسالة/العدد 113/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
18 - تطور الحركة الفلسفة في ألمانيا
فريدريك نيتشه
للأستاذ خليل هنداوي
الآن تبين لنيتشه أن هاوية سحيقة تفصل بينه وبين شوبنهاور وفاجنر، وقد تقبل مذهب التشاؤم من قبل ليتخذه سلاحاً يصرع به التفاؤل الخادع، وقد بدا له أن نقد الوجود نقداً مصحوباً بالتشاؤم هو من واجب كل نفس خالصة، ولكنه لم يتقبل تلك النتائج السلبية التي استخلصها شوبنهاور من نظراته، ولم يتقبل العدم وسلب الحياة كغاية منشودة في الوجود. ولكن هذا المذهب العدمي الذي يستسر فيه الخطر، قد لا يكاد يقل مذهب التفاؤل المطلق عنه خطراً، فان جيلنا إذا نمت فيه الروح الراضية القانعة والذات الخانعة، كان هذا منه علامة الوهن والضعف والانحطاط. تنشأ في جيل تعب من الحياة وتصدع من الألم، ويرتاح إلى الراحة المتمثلة في العدم، وهكذا بدرت لنيتشه مسألة جديدة شغلته طيلة حياته. . . ما هو منشأ هذا الانحطاط الحديث؟ ما هي العلامات التي ساعدت على نشره. وما هو داء العدمية؟ وما هو دواؤه؟ ولم يكد يبلغ هذه النقطة حتى وجد أن حكمه على ذينك المعلمين قد تحول من الكل إلى الكل. وإذا برفيقيه اللذين كانا عدته في مكافحة التفاؤل يغدوان خصمين عنيفين له تثقل عداوتهما عليه وعلى المجتمع. وأدرك في النهاية أن ثباته على صداقتهما فيه خطر عليه كبير، فإذا لم يبرأ من هذه الصداقة ويخلص من تأثيرها ومرضها فانه لن يتاح له أن يقف أمام نفسه واعياً همسها فاهماً نجواها لابساً لباسها، ولن يتاح له أن يأتي الناس بإنسانه الكامل الذي أوحته إليه تعاليمه الجبارة فيما درس من عبقريات اليونان، فنفض عنه هذه الزخارف الصبيانية التي يتحلى بها أسلوب (فاجنر) ووجد فيه ذلك الدليل الأمين الذي ينفع المفكر الذي يبغي أن يدرس هذه النفس وينحدر إلى أعماقها. فهو اعتنق مذهب (فاجنر) بادئ ذي بدء ليصل إلى هذه النفس. والآن يحاول أن ينجو من حبائل هذا الساحر. (إن ما يشغلني الآن هو الشقاء. . . لم يكن (فاجنر) إلا علة من عللي). . على أن الأندية الأدبية قد ارتاعت لهذا الانقلاب وهذه المفاجأة. وأجمعت كله الحملة على نيتشه العقوق الذي رأت فيه الناكث للعهود. وأخذت الأندية تبعث بتآويل شتى لمعنى هذه الانفصال. وكلها أزمعت القول بأن نيتشه كان في الحالة الأولى خير من تفهم (فاجنر) ووقف على دقائق مذهبه، وكان تحليله الأول له خير ما أخرجه ناقد محلل عن هذا الفنان. وعللت بأن ما عراه من مرضه العقلي الذي ساقه إلى قطع علاقاته مع المجتمع، هو الذي ساقه إلى التنكر لأصدقائه، ولكن هذا التعليل تعليل فاسد يفسد على الرجل كل فلسفة، وهو الذي كتب نظراته وأعطى مذهبه حراً مفكراً مختاراً. لم يكن مجنوناً ولا مخبولاً يوم طعن (فاجنر) ونال من مذهبه. أما أصدقاء نيتشه فهم يعزون ذلك إلى انخداع نيتشه بهذا الفنان. وهنالك آراء تقاربت تجئ طوراً مع نيتشه وتارة عليه. أما الذين يمقتونه فهم ينقمون منه هذه الشخصية أو هذه الأنانية التي قادته إلى نكران الصداقة، زاعمين أن شخصية نيتشه لا تود أن ترى ظلاً لشخصية غيرها، وشخصية نيتشه في الحقيقة شخصية ذاتية قوية، لأن الرجل يرى أن الشخصية هي كل شيء، يضحي في سبيلها بكل شيء ولا يضحي بها في سبيل أي شيء. فوجد نيتشه أن شخصيته تكاد تفنى في شخصية (فاجنر) وهو الذي التصق به واتصل لمجرد الوصول إلى نفسه وتفهمها. ولم يجعل منه رسولاً هادياً ولا مثلاً سامياً. . وهكذا أخذت هذه الشخصية الغالبة تضيق عليه ويضيق بها، وتخفي صوته الحقيقي، فليضح بكل شيء في سبيل ذاته. ولعل نيتشه أدرك أن القوم سيختلفون في تعليل هذا الانقلاب فكتب هذه الرسالة التي تنطوي على صفاته ولون تفكيره. (كنا صديقين غريبين. . . . . كنا كمركبين. كلاهما له غايته وله سبيله. . . . قد نتلاقى ونرفع أعلام اللقاء كما فعلنا. . . وفي هذه اللحظة ذاتها قد رسا المركبان في مرفأ واحد، يغمرهما شعاع واحد، كأنهما مقدمان على هدفهما، وكأن هذا الهدف واحد عندهما، ولكن الضرورة التي لا تُدفع قد تقذف بمركبينا قذفة جديدة نحو بحار مختلفة وأنواء متباينة. وقد نتراءى ولكن لا نتلاقى. كم لوحتنا الشمس والأمواج! نظل غريبين لأن الشريعة الغالبة تريد ذلك. . ولكن صداقتنا القديمة تبقى شيئاً قدسياً. . . وهكذا نريد أن نؤمن بصداقتنا (في النجوم) حتى في العهد الذي يجب أن نكون فيه خصمين علٍى الأرض)
أليس في هذه الكلمة ما يجعل نيتشه بريئاً شريفاً بازاء خصميه وأنصار خصميه؟
نيتشه الفيلسوف! - 1 -
لم تكن نهاية عمر نيتشه إلا معركة متصلة الأسباب، يشنها صاحبها على الداء الذي خامره، يصرعه حيناً وحيناً يصرعه. وهو خلال ذلك يطول صراعه ويمتد نزاعه، يحول الداء بينه وبين إتمام عمله الذي تصدى له، ولا يشعر بالمجد الذي صار يركض إليه في أصقاع العالم
هذه الفلسفة الغريبة الشاذة قد شك عند مناقشتها النقاد الذين لم تتسع لها عقولهم، فقالوا عنها: إنها فلسفة طائشة جاء بها مجنون، قد تمخض بها الجنون فناً من قبل! وهؤلاء قد ظلموا الرجل ميتاً كما ظلمته الطبيعة حياً، على أن شذوذ هذه الفلسفة لا يدعو إلى حسبانها فلسفة مجنونة، فقد كتبها صاحبها واعياً وغالب بها ألمه قبل أن يستحيل إلى جنون، ومهما ذهب النقاد في تعليل جنون نيتشه: أهو جنون اكتسابي أم وراثي، فان الرجل قد استطاع بما أوتي من عبقرية سامية أن يحدث في صفحة الحياة أمواجاً عنيفة بالحجر الذي ألقاه. وبهذا لا ينبغي لنا أن نعتقد أن الجنون أثر في آثاره وهو الذي دل على وعي خارق في أحدِّ نوباته وأعنف آلامه
- 2 -
أراد نيتشه آلامه، وعمل على تحملها غير مستثقل ولا مستضعف، يحولها إلى الحاجة التي يريدها ويستخلص منها ما يلائم حياته. فإذا لم يكن هذا الرجل جديراً بالرأفة والشفقة لأنه لا يريدهما؛ فهو جدير بالاحترام. والبطل يحترم مستلئماً ومكفَّناً
أول نعمة احتسبها للألم أنه أنقذه من مهنة التعليم ودراسة اللغات المندثرة، إذ أخذ يحس أن هذه المهنة برغم شرفها لا تتلاءم والغرض الذي تتوق إليه روحه. فهو فيلسوف قبل أن يكون عالماً بدراسة اللغات. وأخذ يشعر بأن وفاءه لهذه المهنة دفعه إلى قتل أزهى أيامه وتعطيل دراساته، فما أثقل اليوم على ظهره هذه الأعباء! فجاء الداء وأجبره على تحطيم كل حلقة تربطه بالماضي الذي أصبح يعده غريباً عنه وهو منه. جاء فبدل حياته بحياة ثانية تختلف مظاهرها، وألقاه في عزلة عميقة لا يقر فيها إلا إلى نفسه لأنها حرمت عليه الانكباب على المطالعة والانصراف إلى الدرس. فهو اليوم وحيد مع نفسه، أمام نفسه. يسمع نداء من كان في أذنه وقر عنها. فرحت اليوم نفسه بعودته إليها، بأوبته إلى العزلة والراحة الخالدة: هذه النفس التي كادت تقتلها الحادثات وتطغي عليها جبلة المجتمع قد نفضت عنها الأكفان ورفعت صوتها الرنان (ما تذوق يوماً من السعادة ما تذوقه خلال أيام دائه لأنه عاد إلى نفسه. وهذه العودة إليها كانت شفاءه. وهذا الشفاء يتلوه شفاءه المادي)
على أن الداء لم يزد نيتشه إلا احترازاً في النظر إلى مسائل الكون والحياة، وهو عاكف على التطلع إلى هذه المبادئ الفلسفية، ولكن يراها بمجموعها جملة مبادئ هي حقائق بعينها؛ اطلع إليها كأنها ابنة طبع مبدع وشخصية مبدعة، ومما ينبغي أن ينظر إليه بعين الاعتبار مسألة تأثير الصحة والسقم في العقل البشري، فإذا تألم جسدنا - وهو العقل الأكبر - فالعقل الصغير لابد متأثر بما نزل بالعقل الكبير، وإذ ذاك يسأل السائل: هل هذا المذهب علامة من علامات صحة صاحبه أو انحطاطه؟ وقد أيقن نيتشه بأن السقم زاده احتراساً وانتباهاً من سلطة الأخلية والأوهام التي تتولد عادة عند من راقت لهم صفحة الحياة وبهجة الدنيا (بلى! إنني أدرك أن الألم لا يحمل الإنسان إلى المقام الأحسن، ولكن الألم ينحدر بنا إلى أعماقنا!)
والإنسان الذي يريد أن يناضل ما ينتابه من قلق جسماني متسيطر ينبغي له أن يفرض على نفسه قوة يقهر بها نفسه، تخرج منها إرادته المتمرنة ظافرة كما يصنع الهندي المستسلم لألوان من العذاب، أو أن يستسلم لزهد مطلق واعتزال كامل وهجر للإرادة، والإنسان الذي يتمكن من هذا الامتحان يقضيه من غير ضعف، يتعلم منه أن يتأمل مسائل الحياة بوضوح وجلاء، لا يخدعه عن حقيقتها شيء؛ فهو يأبى أن تصرفه عن حقيقة الوجود هذه التشابيه والخزعبلات المغرية، وكأن دافعاً للانتقام والثأر من الحياة يتحرك في طوايا نفسه، يريد أن يستبدل بها آلاماً تتولد له حين يقابلها وجها لوجه يميط عن وجهها النقاب. وينزع كل زينة خادعة تتبرج بها لإغواء الناس؛ وهو إذا أحب الحياة بعد ذلك فانه يحبها كالعاشق الغيور المتحرز، حبك لامرأة خدعتك وأصبحت مثار الشك عندك
يلاحظ نيتشه أن الألم هو الذي جعله متفائلاً، والسقم قد علمه ما يبلغ تأثير الانحطاط الجسماني في عقل المفكر، ولاحظ به كيف يسعى الألم إلى قهر عزة النفس العقل الفلسفي ورد هذه العزة ضعفا وذلة وحزناً وكآبة. وأدرك ما هي المواضيع والزوايا السماوية التي يلجأ إليها عقل المرضى والمنحطين سعياً وراء ما يخفف عنهم من فاقتهم وكآبتهم. وأدرك بعد هذا كله أن كل فلسفة تضع السلم فوق الحرب، وكل فضيلة تعطي للسعادة تحديداً سلبياً، وكل علم من علوم ما وراء الطبيعة يرى أن في مراحل الاعتدال والراحة التامة والأمل الديني في عالم خير من هذا العالم، وفي برزخ غير هذا البرزخ، يرى في هذا كله حداً للرفعة والسمو؛ إن هذه الفلسفة مهما كانت مظاهرها فهي تحمل طابع الفساد والانحطاط؛ وآمن بأنه فهم أن كل هذه المذاهب الداعية إلى التشاؤم والركون المطلق تدل على أن أصحابها الواضعيها كانوا في حالة مرض عضوي؛ ولما أراد هذا المريض أن يشفى ركن إلى التفاؤل؛ وقد نفعته أيام البلاء بالوقوف على أسباب التشاؤم، فانصب على الداء بكل ما يحوي جسده ونفسه من عزم، يقاومه في معركة لا هوادة فيها ولا رحمة، وبقوة روحه قد انتصر في عالمي جسده ونفسه؛ عاد متفائلاً، وعادت إليه العافية، (ألا إنني اكتشفتُ حياة جديدة؛ اكتشفتُ نفسي. إنني قد جرعتُ الأشياء الكبيرة كما رشفت الصغيرة منها، وجعلتُ من رغبتي في الشفاء والحياة كل فلسفتي، حذار جميعاً؛ إن الأعوام التي انحطت فيها حيويتي، هي الأعوام التي طلقتُ فيها تشاؤمي، وغريزة الوقاية هي التي صرفت عني فلسفة اليأس والفاقة)
(يتبع)
خليل هنداوي