انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 113/حول النزاع الإيطالي الحبشي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 113/حول النزاع الإيطالي الحبشي

مجلة الرسالة - العدد 113
حول النزاع الإيطالي الحبشي
ملاحظات: بتاريخ: 02 - 09 - 1935



عصبة الأمم

وما تستطيع أن تفرضه من العقوبات

بقلم باحث دبلوماسي كبير

تعاني عصبة الأمم أزمة دقيقة من جراء تعرضها للنزاع بين إيطاليا والحبشة؛ ولم يكن في وسع العصبة أن تقف جامدة أو أن تتنحى عن بحث مشكل يقع في صميم اختصاصها بمقتضى (الميثاق) وتثيره دولتان كلتاهما عضو في العصبة، وعصبة الأمم تعرف من البداية أنها تواجه في المشكلة الإيطالية الحبشية أزمة خطيرة، بل تواجه محنة قد يقوض الفشل في درئها صرح العصبة، وكل المبادئ الدولية التي يقوم عليها، وتعرف منذ البداية أيضاً أنها لن تستطيع أن تقوم في معالجة هذه الأزمة بدور فعال، أو بإجراء حاسم، ولكنها أيقنت في نفس الوقت أن قليلاً من الشجاعة في مواجهة الموقف، وأن تطبيق بعض الإجراءات النظرية التي ينص عليها ميثاق العصبة في مثل هذه الأحوال، وأخيراً أن محاولة اكتساب الوقت في بعض المجادلات الفقهية قد ينتهي بإنقاذها من مأزق الحياة والموت

وقد أبدت العصبة هذا القليل من الشجاعة فاستمعت إلى نداء الحبشة في بحث النزاع، وإن لم تبحثه إلا في الحدود الضيقة التي ارتضتها إيطاليا، وسعت إلى تطبيق المادة الثالثة عشرة من الميثاق، واتفق الطرفان على محاولة إجراء نوع من التحكيم، وألفت بالفعل لجنة تحكيم مشتركة تمثل الفريقين المتنازعين؛ ولكن الحوادث تطورت بسرعة، وأكدت إيطاليا وما تزال تؤكد بمنتهى الصراحة أنها لا تبغي بديلا بافتتاح الحبشة والاستيلاء عليها، وأنها سوف تلجأ لتحقيق غايتها بالقوة القاهرة، وأنها لن تني عن مشروعها أمام أي تدخل أو أية قوة في العالم؛ وهكذا تحطمت جميع الآمال التي علقت على تدخل العصبة، وعلى لجنة التحكيم، ولن يحول دون اضطرام الحرب في شرق أفريقية سوى معجزة، أو تطور في الحوادث لا يخطر ببال إنسان، ولن تحدث هذه المعجزة أو هذا التطور الخارق

ونحن نعرف كيف حاولت السياسة البريطانية جهد استطاعتها أن تحول دون اضطرام الحرب في هذه المنطقة التي تجاور عدة من الأملاك البريطانية، ويهدد حلول إيطاليا فيها وادي النيل من منبعه إلى مصبه، ويضع السودان ومصر في مأزق خطر، ويجعلها عرضة لأخطار النزعة الاستعمارية التي تضطرم في إيطاليا، ويهدد من جهة أخرى مواصلات الإمبراطورية البريطانية في البحر الأحمر، وفي عدن وباب المندب بصفة خاصة؛ ولكن السياسة البريطانية لم توافق رغم ما بذلته من الجهود وما عرضته من الحلول إلى إقناع السياسة الإيطالية الجامحة المتوثبة بالعدول عن مطامعها وأحلامها العريضة في إقامة إمبراطورية استعمارية ضخمة في شرق أفريقية

والآن، وقد فشلت كل محاولة للتسوية السلمية، ولم يبق سوى اضطرام هذه الحرب الهمجية التي تصر الفاشستية على إضرامها تحقيقاً لمطامعها ومشاريعها المثيرة في افتراس الشعوب الآمنة، تحاول السياسة البريطانية أن تجد سبيلاً لمقاومتها وتحطيم مشاريعها، لا حباً بالحبشة، أو نصرة لقضية السلام في ذاتها، ولكن توسلا إلى درء الأخطار التي تتهدد سيادتها ومصالحها الإمبراطورية في البحر الأبيض المتوسط وفي شرق أفريقية إذا استطاعت الفاشستية أن تفوز ببغيتها في افتتاح الحبشة. وقد تستطيع السياسة البريطانية أن تشل حركة الفاشستية ببعض الإجراءات والمساعي التمهيدية، وقد لا تحجم عن أن تخوض معها غمار الحرب إذا لم تجد مناصاً من خوضها

ومن هذه الإجراءات والمساعي التمهيدية التي تفكر إنكلترا في التذرع بها لرد الفاشستية عن عدوانها، محاولة توقيع العقوبات الدولية التي ينص عليها ميثاق الأمم. وقد كثرت الإشارة أخيراً إلى هذه العقوبات ومداها ومبلغ ما ينتظر من تأثيرها إذا طبقت. ولهذا نرى مناسبة لأن نتناولها بشيء من الشرح والتفصيل، فنقول إن المادة (15) من ميثاق العصبة تنص على الإجراءات والقرارات التي يمكن اتخاذها لتسوية المنازعات الدولية التي قد تقع بين أعضاء العصبة عن يد العصبة ذاتها وما يمكن أن يقوم به مجلس العصبة في هذا السبيل. وتنص المادة التالية أي المادة (16) على العقوبات الدولية التي يمكن توقيعها على الدولة التي تخالف تعهداتها وتلتجئ إلى الحرب، وإلى القارئ نص هذه المادة الشهيرة كاملاً:

(إذا التجأ عضو من أعضاء العصبة إلى الحرب خلافاً للتعهدات المنصوص عليها في المادتين 12 و13 أو المادة 15، فانه يعتبر فعلاً قد ارتكب عملاً حربياً ضد كل أعضاء العصبة الآخرين. ويتعهد هؤلاء أن يقطعوا في الحال معه كل علائقهم التجارية والمالية، وأن يحظروا كل علائق بين رعاياهم وبين رعايا الدولة التي خرقت الميثاق، وأن يقطعوا كل المواصلات المالية والتجارية والشخصية بين رعايا هذه الدولة وبين رعايا أية دولة أخرى سواء أكانت عضواً في العصبة أم لا

(وفي هذه الحالة يجب على المجلس (مجلس العصبة) أن يوصي إلى الحكومات المختلفة ذات الشأن بتقديم القوى العسكرية أو البحرية أو الجوية التي يساهم أعضاء العصبة في تقديمها للقوى المسلحة التي تقوم بالعمل على احترام تعهدات العصبة

(ويتعهد أعضاء العصبة أيضاً أن يعاونوا بعضهم بعضاً في تطبيق الإجراءات الاقتصادية والمالية التي تتخذ طبقاً لهذه المادة والتي يراد بها أن تخفض إلى أدنى حد ما يمكن أن يترتب عليها من الخسائر والمضار. ويتعهدون بالتعاون أيضاً في مقاومة كل إجراء خاص يوجه إلى أحدهم من جانب الدولة التي خالفت الميثاق؛ ويتخذون الإجراءات اللازمة لكي يسهل المرور في أراضيهم لقوات أي عضو من أعضاء العصبة يساهم في العمل المشترك الذي يقصد به العمل على احترام تعهدات العصبة

ويمكن أن بفصل من العصبة كل عضو ينتهك أحد التعهدات المترتبة على هذا الميثاق. ويصدر قرار الفصل بموافقة جميع أعضاء العصبة الآخرين الممثلين في المجلس)

هذا هو مجمل الإجراءات التي سجلها ميثاق العصبة لتوقيع العقوبات الدولية على العضو المعتدي أو المنتهك لميثاق العصبة. وظاهر أن هذه العقوبات ذات صبغة اقتصادية محضة؛ ويمكن وصفها بأنها نوع من الحصار الاقتصادي. ولهذا الحصار الاقتصادي إذا طبق على دولة من الدول أكبر الأئر في الضغط عليها وشل مشاريعها العسكرية، خصوصاً إذا كانت مثل إيطاليا تعتمد على الخارج في كثير من المواد الأولية الأساسية. بيد أن هذه النصوص التي سجلتها عصبة الأمم في ميثاقها لا تزال نظرية محضة، ولم يجر تطبيقها حتى اليوم بصورة فعلية، وإن كان ذكرها قد جرى في بعض الأزمات الدولية، ولا تزال أكبر نقطة ضعف فيها خلوها من أي ضمان فعلي للتنفيذ؛ فليست لعصبة الأمم أية قوة أو أية سلطة فعلية تمكنها من تطبيق مثل هذه العقوبات، وليس في وسع مجلس العصبة إلا أن (يوصي) إلى الحكومات ذات الشأن بتقديم القوى اللازمة، فإذا رفضت هذه الحكومات أن تقدم هذه القوى، فماذا عسى أن يستطيع مجلس العصبة إزاء الدولة (المعتدية)؟ هذا ومن جهة أخرى فان صفة (الاعتداء) لم تعرف حتى اليوم تعريفاً كافياً؛ وربما كان من الميسور أن يعرف (المعتدي) حالاً في مسألة النزاع الإيطالي الحبش، إذ لا ريب في أن (المعتدي) هو إيطاليا؛ ولكن ليس من السهل في كثير من المنازعات الدولية أن يقطع في أمر (المعتدي) قطعاً لا مرية فيه

وقد كان هذا النقص في ضمان التنفيذ وما زال أعظم نقط الضعف في مواثيق السلام والتحكيم الدولية، وهو أعظم نقط الضعف في ميثاق تحريم الحرب (ميثاق كلوج) الذي اغتبط اعقده أنصار السلام أيما اغتباط، ثم لم يلبث أن ظهر عقمه حين الحاجة إلى تطبيقه. وقد كان اعتداء اليابان على منشوريا أعظم صخرة ارتطم بها ميثاق عصبة الأمم وميثاق تحريم الحرب. والآن يبدو عقم هذه المواثيق الدولية مرة أخرى إزاء النزاع الإيطالي الحبشي؛ وحيثما كان الفريق الأقوى يعتبر المواثيق الدولية قصاصات لا قيمة لها، كما هو الشأن في حالة إيطاليا التي ترتبط مع الحبشة ومع فرنسا وإنكلترا بأكثر من معاهدة لاحترام استقلال الحبشة وسلامة أراضيها، فان المناقشات الفقهية في احترام مواثيق السلام لا تجدي ما لم تكن مؤيدة بالقوى الفعلية لتنفيذها

ولكن السياسة الإنكليزية ما زالت تعول على دستور عصبة الأمم في سعيها لرد عدوان السياسة الفاشستية. وهي تشير إلى مسألة العقوبات الاقتصادية التي نصت عليها المادة السادسة عشرة كوسيلة من وسائلها. والواقع أنه ربما كان لهذا السعي أثره المادي إذ أيدته الدول. فقد حدث في سنة 1921، حين غزت يوجوسلافيا الأراضي الألبانية، أن هددت عصبة الأمم بتطبيق العقوبات الاقتصادية، فكان ذلك كافياً لوقف الاعتداء. وقد عجزت العصبة في سنة 1923 أن ترد السنيور موسوليني عن احتلال جزيرة كورفو البونانية تنفيذاً للبلاغ النهائي الذي وجهه إلى اليونان، ولكنها استطاعت بعد ذلك بعامين أن تحول دون اضطرام الحرب بين اليونان وبلغاريا من جراء النزاع بينهما على الحدود. وقد فطنت عصبة الأمم نفسها إلى هذا النقص الذي يعتور نص المادة (16)، وبحثت في أمره، وقررت في شأنه بعض التعديلات التي من شأنها أن تسهل الإجراءات في حالة الأزمات الخطيرة؛ ويقضي هذا التعديل (بأنه يجب على مجلس العصبة أن يقرر ما إذا كانت قد ارتكبت مخالفة للميثاق) ولكن العصبة صرحت أيضاً أن المجلس لا يستطيع أن يفعل أكثر من أن يدعو الأعضاء إلى تطبيق العقوبات الاقتصادية، وقد يستطيع بعد ذلك أن يطالب الدول بتقديم المعاونة العسكرية التي يمكن استخدامها ضد الدولة المعتدية. بيد أن هذا التعديل لم تصدقه عليه الأغلبية المطلوبة من الأعضاء حتى اليوم

وقد تستطيع السياسة الإنكليزية أن تقنع عصبة الأمم بتوقيع العقوبات الاقتصادية على إيطاليا، وهذا الإقناع ميسور إذا استطاعت أن تجذب السياسة الفرنسية إلى جانبها وأن تقنعها بضرورة العمل معها لدرء الأخطار التي تهددها وتهدد أوربا من جراء الحرب التي تعمل الفاشستية لاضرامها. وعندئذ يمكن أن تؤدي إنكلترا في هذا الحصار الاقتصادي الذي ينص عليه ميثاق العصبة أكبر دور، هذا فضلاً عن الدور الذي تؤديه باقي الدول المؤيدة لإنكلترا ضد إيطاليا، وذلك بقطع المواد الأولية عن إيطاليا ورفض التعامل معها في كل ما يمكن أن يسهل استعداداتها الحربية؛ أما إنكلترا ففي وسعها أولاً أن تلجأ إلى إغلاق قناة السويس بالاستناد إلى نص المادة (20) من ميثاق العصبة، وهي التي تنص على إلغاء جميع المعاهدات السابقة التي لا تتفق مع نصوص الميثاق وغاياته، باعتبار أن معاهدة سنة 1888 التي تضمن حيدة القناة وفتحها في كل وقت من أوقات السلم أو الحرب ولسفن جميع الدول أضحت مناقضة لميثاق العصبة، وهذا ما تنكره إيطاليا على إنكلترا كل الانكار، لأن معاهدة سنة 1888 ما تزال قائمة في نظرها ويجب احترامها طبقاً لنص المادة 282 من معاهدة فرساي (بند 11)، حيث ينص على تعداد المعاهدات التي تبقى نافذة المفعول مع ألمانيا، وميثاق عصبة الأمم ليس إلا فصلا من فصول معاهدة فرساي. وفي وسع إنكلترا أن تلجأ أيضاً إلى إغلاق جبل طارق في وجه السفن الإيطالية، كما أنها تستطيع أن تغلق في وجهها بوغاز باب المندب فتقطع بذلك على إيطاليا كل سبيل للاتصال بالإرترية أو السومال. على أن إيطاليا ترى في هذه التصرفات كلها أعمالاً عدائية وإعلان حرب تقابله بالمثل، ومن المحقق أن إنكلترا ستفكر طويلا قبل أن تقدم على شيء منها

وهناك مسألة تصدير السلاح إلى الحبشة، وهذه أيضاً وسيلة ناجعة في يد إنكلترا؛ وقد ألغي تصدير السلاح إلى الحبشة مؤقتاً في انتظار نتيجة المساعي السلمية، فإذا أصرت إيطاليا على موقفها، وهو الأرجح، فان إنكلترا ستعود إلى تصدير السلاح إلى الحبشة؛ وتزويد الحبشة بالسلاح يطيل أمد الحرب، ويزيد في متاعب إيطاليا إلى حدود قد لا تقوى على مغالبتها

وسنرى على أي حال ما إذا كانت عصبة الأمم، أو بعبارة أخرى ما إذا كانت الدول التي تسيطر على مجلس العصبة، تستطيع في هذه الدورة القريبة التي ستعقد بعد يوم أو أثنين، أن تذهب في الشجاعة والحزم إلى حد المطالبة بتوقيع العقوبات على إيطاليا