انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 111/إلى الشيخ اللغوي. . . و (فلان)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 111/إلى الشيخ اللغوي. . . و (فلان)

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 08 - 1935



الوظيفة والموظفون

للأستاذ علي الطنطاوي

اعلم - أعزّك الله - أن الوظيفة ليست غُلاًّ في العنق، ولا قيداً في الرجل، وليست مقايضة أو مباددة، آخذ فيها الوظيفة باليمين، لأعطى الوجدان بالشمال؛ ولو أنها كانت كذلك، لعزفت عنها وأجوبتها، ونفضت يدي منها، ولآثرت أن أبيع خزانة كتبي كرّة أخرى، أو أقضي وأسرتي خمصا، على أن آكل خبزي مغموساً بدم الضمير. . . وعليّ أن أكفر بالفضيلة، وأومن بالمصلحة، فأزن كلّ شيء في الدنيا بميزان صنجاته الدنانير، وأبصر كلّ ما في الكون من ثقب القرش، وأفكر إذ أفكر بعقلي الذي في كيس نقودي، لا بعقلي الذي في رأسي، فاختزل المنطق كله في قضية واحدة، هي الأولى والأخرى، وهي الحق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهي الكتاب المعجز الذي لا يُفرط فيه من شيء، ولا يعجزه شيء، فيكون المنطق كله هذه القضية: تحصيل المال واجب، وفي هذا الأمر تحصيل مال، فهذا الأمر واجب. . وضَع مكان (هذا الأمر) ما تشاء من أفعال اللؤم والخسّة، والكذب والنّذُولة، والضّعة والفُسُولة، تنتظم القضية وتستقم، وتصح وتطرد. . . . . ولا يبقى في الدنيا رديء ولا فاسد، ولا منكر، ما دام معه المال!

لا - يا سيدي - لست أسلك هذه الطريق التي لا أزال أحذر منها من لم يسلكها، وأصرف عنها سالكيها، وإن كان السالكوها هم الكثرة من موظفينا وعلمائنا، ومن كل ذي وظيفة، أو صاحب صلة بالحكومة، حتى أن الرجل من هؤلاء ليأتي الأمر يعترف أنه مؤذٍ للأمة، منافٍ للفضيلة، مناقضٌ للشرف، فيحتج له بأن مصلحته تقتضيه، ومعيشته تستلزمه، وأنه رجل (عاوز يعيش. .) ولا يعيش من لا يساير وينافق، ويذل ويتزَلَّف، لا يدري الجاهل أن المعيشة على الصَّعتر مع الشرف، خير من حياة النعيم والترف، من غير فضيلة ولا شرف!

ومن أنبأك - أعزّك الله - أن الموظف لا يحق له أن يفكر إلا بعقل رؤسائه، ولا يرى إلا بعين امرأته، فلا يحقق من الآراء ما أبطلوا، ولا يقبل ما ردّوا، ولا يوقر ما سفّهوا، ولا يرى ما استقبحوا حسناً، ولا ما كتموا ظاهراً، ولا ما صغّروا كبيراً، ولا ما عظموا حقيراً؟ أو لو كان رؤساؤه مخطئين، أو لو كانوا لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون؟

ومن ذا حظر عليه ما أبيح للناس، ومنعه ما منحوا من حرية التفكير، وحرية الرأي، وحرية القول، ولماذا يشتهي من الطعام ما يعافه رئيسه، ويستحسن من أبيات الشعر وأصوات الغناء ما يستهجنه ويستثقله، ولا يكون عليه في ذلك من حرج، ثم لا يتخذ له من الآراء غير رأيه، ومن المذاهب غير مذهبه؟ ولماذا لا ينشر هذا الرأي، ويؤيد هذا المذهب، ما دام لا يأتي محرماً في الشرع، ولا ممنوعاً في القانون؟. .

والوظيفة - يا سيدي - عقدٌ بين الدولة والموظف، على أن يعمل عملاً بعينه، على جُعْلٍ بذاته، أفهل يعمل الأجير في الدكان، والعامل في المصنع، والنادل في الفندق، والخادم في البيت، وكلُّ مأجور من الناس في عمل جلَّ أو قلَّ، علا أو سفل، فإذا أكمل عمله وجوّده، استحق الأجر، وانطلق حراً في وقته، يقضيه على ما أحب، حراً في ماله ينفقه على ما شاء، حراً في رأيه ينحو به النحو الذي أراد، ويسوقه المساق الذي اختار. . . ثم لا يكون الموظف حراً أبداً، ولا يملك من أمر نفسه شيئاً؟

وماذا عليّ وأنا مدرس إذا أنا أعددت درسي وألقيته، وقرأت وظائف تلاميذي وصحّحتها، وفعلت كل ما يوجب عليّ القانون أن أفعل وزدت على الواجب النوافل، أن أُؤلًّف وأكتب، وأنقد الأخلاق والكتب والعادات، وأساهم في الجهاد الإصلاحي، وأحمل القسط الذي أطيقه من أثقال الأمة، ومن ذا يحمله إذا لم أحمله أنا وأمثالي من الموظفين والمتعلمين؟ وكيف تتقدم الأمة وتسير في طريقها إلى غايتها، إذا لم تجد من أبنائها من يحمل أثقالها؟

أفهل يريد سيدي - أعزّه الله - أن أمحو ملكة الكتابة من رأسي، وأطمس نور البصيرة من قلبي، وأسدل على عيني حجاباً حتى لا أرى فأسرّ فأشكر، أو أبتئس فأنقد، وأهجر الكتب حتى لا أقرأ فيفتح على الكتاب طريقاً إلى مقالة، وأعتزّل الناس حتى لا أسمع حديثاً فأكتب هذا الحديث، أو قصة فأدون هذه القصة، وأدل على مكان العبرة منها، وموطن العظة فيها؟ أفهل يريد سيدي أن أذهب إلى غار في الجبل فأحبس نفسي فيه كيلا أكتب فأزعج حضرته؟

أو هل توجب الوظيفة على صاحبها أن يكون عبداً لرؤسائه، مسخراً لأغراضهم ساعياً في مصالحهم، ولو كانت الطريق إلى إرضائهم طريقاً ملتوية معوجة لا يسلكها رجل يعرف ما هي الفضيلة، ويدري ما هو الشرف؟

وهل توجب الوظيفة على الموظف أن يكون مبتوراً من جسم الأمة، فلا يشعر بشعورها، ولا يألم لألمها، ولا يحس أنه منها، ولا يشاركها في شئ من عواطفها، في حين أن المفروض في الموظف أنه من أرقى أبناء الأمة فكراً، وأوسعهم اطلاعاً، وأشدهم شعوراً (بالواجب العام)؟

أو هل يأخذ الموظفون رواتبهم من صندوق الأمة، ثم ليناموا آمنين إذا هي خافت، ويضحكون فرحين إذا هي تألمت، وينعموا فارهين إذا هي شقيت، ويأكلوا مسرفين إذا هي جاعت؟

كلا! كلا يا سيدي، فالموظف من الأمة وإلى الأمة، وليس في البلد شعب وموظفون، ولكنّ فيه شعباً واحداً، يشعر بشعور واحد، ويصدر عن مبدأ واحد ويسعى إلى غاية واحدة، ولأن تعرف أنت هذه الحقيقة فتعمل بها، أولى من أن أنزل أنا على رأيك، وأخضع لإرادتك، فيما يؤذي الحقيقة وينافيها

كلا! لقد انقضى ذلك العهد كان الموظف فيه مسؤولا أمام رئيسه، وأصبحنا اليوم وكلنا مسئولون أمام الأمة والتاريخ؛ وليس هذا الراتب منحة منك حتى تمنّ به عليّ، ولكن راتبك أنت منحة من الأمة - التي أنا من أبنائها تمن هي بي - عليك!

وبعد؛ أفليس مما يجب على قادة الفكر، وأرباب الأقلام، أن يعرّفوا الناس حقيقة الوظيفة والموظفين، وحق الأمة عليهم، وأمل الأمة فيهم؟ أوليس يجب عليهم معالجة هذه النواحي من أخلاقنا، وبسط الكلام فيها، وتحذير السالمين منها، ومداواة المصابين بها؟. . .

علي الطنطاوي