انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 110/مصر والشرق الإسلامي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 110/مصر والشرق الإسلامي

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 08 - 1935


إذا قلت إننا أمة من غير منهج ودولة من غير سياسة لا تبعد عن الصدق! فإن التبعية المثلثة التي ضربتها علينا الأقدار الخصيمة في السياسة والاقتصاد والأدب قتلت في عقولنا الرأي الأصيل، وفي نفوسنا العزم المستقل، وفي مواهبنا العمل المرتجل. فنحن في مجموع الناس أتباع وأوزاع ننظر إلى الأمم تعمل، وإلى العالم يسير، بعين بلهاء لا يجاوز بصرها مدى العجب! وعلتنا أن ساستنا وقادتنا كلهم من رجال القول لا من رجال الفعل، ومن أرباب القلم لا من أرباب السيف، ومن جنود القانون لا من جنود (الأوامر)؛ ربوا على مقاعد المدارس، وثقفوا على مباحث الكتب، ودربوا على مكاتب الدواوين، وحرموا التربية العسكرية وهي وحدها القائمة على الخطة والنظام والأمر والتنفيذ والشرف؛ فكانت سياستهم سياسة الترقب والتردد والخوف، لا يصدرون ولا يوردون إلا عن فتوى فقيه، أو تقرير خبير، أو إشارة (مندوب)، أو رغبة سلطان، أو إرادة حزب؛ وذلك هو الفرق بين ساسة مصر وفلسطين وسورية، وبين ساسة العراق وإيران وتركية؛ فبينما تجد الأولين - وهم رجال قانون - مشغولين بالمفاوضات والمعاهدات والاحتجاجات والشكوى، تجد الآخرين - وهم رجال حرب - لا يتبعون غير قانون الطبيعة، ولا يفهمون غير سطور الجيش، ولا يعبأون إلا بالواقع، ولا يمضون إلا على العزم ولا يأوون إلا إلى الأمة

ففي مجلس من مجالس الحكم، أو في ناد من أندية السمر، تجول في خواطرهم الفكرة، أو تجري في نفوسهم الأمنية، فما هي إلا صيحة القائد حتى تصبح قانوناً مرسوماً كالخطة، ماضيا كالنظام، شاملا كالتعبئة؛ والعسكري لا يتردد ولا يتلكأ، وإنما ينطلق ماضي الصريمة قدما إلى وجهه: مبدؤه الأمر، وطريقه المعركة، وغايته النصر!

تدبر ذلك ووازن بين هذه السياسة الدبلوماسية التي تضطرب ولا تستقر، وتدور ولا تتقدم، وتناقش ولا تنتج؛ وبين تلك السياسة العسكرية التي تهجم ولا تضطرب، وتقدم ولا تتقهر، وتعمل ولا تناقش، فلعلك واجد في الموازنة تعليل هذا الشذوذ الذي نحن فيه: أمة لا تقل عن أكثر الأمم رجالا ولا مالا ولا قوة، يدفعها ماض مجيد، ويحفزها حاضر ملح، ويغريها مستقبل واعد؛ ثم موقعها من أعظم المواقع، ومغرسها من أكرم المغارس، وعدتها الممكنة من خير العدد، وتراها مع ذلك لا تزال صاغرة تعطي بالقهر، وقاصرة لا تملك التصرف!

هل تجد بربك علة خمودها ووناها في غير قيادتها الرخوة وسياستها المستكينة وإرادته المعطلة؟ ما دستور سياستنا في الغرب؟ متابعة إنجلترا على هوى الاحتلال، ومصانعة الدول على حكم الامتيازات، وإطفاء هذه البقعة المشرقة في وجهه أفريقية بهذا المظهر الكاسف. وما دستور سياستنا في الشرق؟ إن كنت تسمي الإغفال سياسة والقطيعة خطة، فدستورهما ما ترى بيننا وبين الحجاز من تناكر لا يسوغه عرف ولا تقتضيه طبيعة ولا تجره منفعة، وما تشهد بيننا وبين جاراتنا الأخوات من تدابر لا يسلم عليه تضامن ولا يجري معه تعاون ولا تنتظم به وحدة، ثم ما تسمع بيننا وبين الشرق الإسلامي من تغاضب على التمثيل السياسي، وهو أقل ما توجبه الروابط الدينية والتاريخية والجنسية من التواصل والتعاطف والمجاملة

سخونا إلى حد السرف على تمثيلنا الخارجي في أوربا، حتى في العواصم التي لا تصلنا بها سياسة ولا تجارة ولا جالية؛ فلما نبهنا إخواننا في آسية إلى أنهم أمم كأولئك الأمم، لهم ما ليس لنا من استقلال صحيح وسيادة كاملة، فضلا عما بينهم وبيننا من أواصر التاريخ ووشائج القربى، مثلنا أنفسنا هناك في الغالب بمن تنفيهم الأهواء لا بمن تدعوهم الحالة، وجعلنا للعراق وإيران وأفغانستان سفيرا واحدا يقيم في طهران!

فمس ذلك من كبرياء الأمتين والأختين فتثاقلت العراق عن تعيين سفيرها في القاهرة، ونقلت الأفغان وزيرها المعين إلى مكة! ذلك الغرب كله يتحلب فوه إلى ازدراد الشرق، فهو يستعين عليه (بالعصبة)، ويحتال له بالتجارة، ويتدسس إليه بالعلم، ويدور من ورائه بالمعاهدات، ثم يرى أن العرب صلبه والإسلام روحه، فيهجم عليهما بالمودة، ويتسابق إليهما بالخديعة؛ ولكن الإسلام والعرب يريدان أن يظل الشرق مطلع النور ومصدر الحرية ومنبت العزة؛ وتحقيق هذه الإرادة موكول إلى اجتماع الكلمة واتحاد الوجهة وتساير الهوى في الأمم الإسلامية التي ألفت بين قلوبها العقيدة، وفرقت بين جسومها المطامع

ومن أحق من مصر إذا استقلت إرادتها وتقررت سياستها وتحررت كفايتها بجمع هذه القلوب المخلصة على جهاد الاستعمار، وقيادة هذه النفوس المؤمنة إلى نصرة الحق؟

إن وطننا يا قوم مترامي الحدود، فلماذا تحدونه على الضيق، وقومنا ضخام العديد، فلماذا تحصرونهم على القلة، وإخواننا كرام يصفون المودة ويولون المعونة، فلماذا تجعلون بيننا وبينهم سدا من الإهمال والغفلة؟ إن الأمم القوية الناضجة لترخص الأموال والأنفس في التمكين لأدبها ونفوّها وتجارتها في الشرق، فكيف نعرض نحن عن ذلك وهو يأتينا عفوا عن طريق القرابة في البلد والنسب، والوحدة في اللغة والأدب، والمشابهة في الحظ والحالة؟!

أحمد حسن الزيات