مجلة الرسالة/العدد 110/مأساة قضائية شهيرة
مجلة الرسالة/العدد 110/مأساة قضائية شهيرة
ذكريات عن قضية دريفوس
للأستاذ محمد عبد الله عنان
منذ أسابيع قلائل توفي في صمت وسكون، رجل كان أسمه قبل ثلاثين عاما يدوي في أرجاء العالم بأسره، ويقترن أسمه بأعظم وأشهر مأساة قضائية في عصرنا؛ ذلك هو الكولونل الفريد دريفوس الضابط الفرنسوي اليهودي، الذي أثار اتهامه ومحاكمته ومحنته في خاتمة القرن الماضي في فرنسا أعظم ضجة، وشغلت قضيته الأمة الفرنسية بأسرها زهاء عشرة أعوام، وأثارت فيها من الجدل القضائي، والشهوات والأحقاد القومية والجنسية، والعواطف السياسية ما كاد يدفعها إلى معترك الحرب الأهلية والفوضى
وقد طويت صفحة قضية دريفوس منذ بعيد، وأسدل الستار على آخر فصل من فصولها منذ ثلاثين عاما. ولكن هذه المأساة القضائية الهائلة، التي طبعت تاريخ العصر بطابعها القوي، وأثرت في كثير من نواحيه السياسية والاجتماعية، مازالت منذ ثلاثين عاما تثير اهتمام البحث التاريخي والقضائي، وتصدر عنها المؤلفات الحافلة بأقلام أكابر الكتاب والساسة، ومنهم من عاصروها واتصلوا بحوادثها وشخصياتها. وكان آخر ما صدر عنها من المؤلفات الهامة كتاب بالألمانية حافل بالشهادات والوثائق الحاسمة، هي مذكرات الجنرال ماكس فون شفارتز كوبن، وهو الذي كان ملحقا عسكريا للسفارة الألمانية في باريس وقت انفجار العاصفة والقبض على دريفوس (سنة 1894) متهما بالخيانة العليا وبيع أسرار الجيش لدولة أجنبية؛ وكانت فرنسا بأسرها تتهم ألمانيا بأنها هي الدولة التي تحاول الوقوف على أسرار الدفاع الفرنسي، وتتهم الملحق الحربي الألماني بأنه هو الذي يعمل على ابتياع هذه الأسرار. ولم يكن في وسع الجانب الألماني أن يتكلم يومئذ وأن يفضي بما لديه لإظهار الحقيقة؛ وكانت المأساة القضائية تسير في طريقها، وينزل القضاء الحربي بالضابط البريء أقسى حكمه مستندا إلى طائفة من الوثائق والشهادات المزورة، وفرنسا تضطرب من أقصاها إلى أقصاها سخطا على الخائن وعلى اليهودية التي ينتمي إليها؛ وهناك في الظلام رجل واحد يعرف لب الحقيقة، ويستطيع أن ينقذ البريء، وأن يهتك هذه الحجب كلها بكلمة؛ ذلك الرجل هو فون شفارتز كوبن الملحق الحربي الألماني، بطل المأساة الخفي؛ ولكن هذه الكلمة لم يستطع أن يقولها ولم يسمح له بقولها له بقولها يومئذ، وقضت الرسوم والاعتبارات السياسية أن ينوء بالسر حتى مرض موته؛ وعندئذ أفضى به إلى زوجه وأوصاها بنشر مذكراته ووثائقه، وقام بنشرها الكاتب الألماني برنهارد شفر تفجير تحت العنوان الذي اختاره صاحبها لها وهو (الحقيقة عن دريفوس)
ولم يك ثمة شك فيما سيقوله الرجل الذي اشترك بنفسه في حوادث المأساة، وعرف سرها في المهد؛ فقد أكد لنا شفارتز كوبن وهو على شفا القبر، ما كشفت عنه من قبل تطورات القضية الشهيرة، وما اضطر القضاء الأعلى لأن يثبته وأن يعلنه بعد تلك الجهود والمحاولات الفادحة التي بذلها أنصار البريء لإعادة النظر وتحقيق العدالة؛ أكد لنا براءة دريفوس مرة أخرى، وأوضح لنا بما يعرض من الناحية الخفية للحوادث كيف كان القضاء بعيدا عن الحقيقة، وكيف كان المجرم الحقيقي ظاهرا غير بعيد عن يد العدالة، ولكن يتمتع بحماية العسكرية المتعصبة المغرضة؛ ويقدم إلينا شفارتز كوبن فوق أقواله الخاصة طائفة هامة من المذكرات والوثائق الرسمية التي تبودلت بخصوص الحادث، ومنها رسائله إلى قلم أركان الحرب الألماني
وقد أتيحت لنا الفرصة منذ أعوام فرصة لدراسة قضية دريفوس من الناحيتين القضائية والتاريخية، وكتبنا عنها بحثا مستفيضا في كتابنا (ديوان التحقيق والمحاكمات الكبرى) وشرحنا أدوارها السياسية والقضائية المدهشة، وبينا كيف أنها كانت أثرا بارزا من آثار (خصومة السامية) أو حركة العداء ضد اليهودية، فإلى هذا البحث نحيل القارئ؛ ولكنا نرى أن نقدم هنا خلاصة موجزة لأهم وقائع القضية، لابد منها لفهم ما سيجيء من البيانات والتعليقات
في 15 أكتوبر سنة 1894 قبضت السلطات العسكرية على ضابط بقسم المدفعية هو الفريد دريفوس بتهمة الخيانة العليا، وذلك على أثر ضبط قلم التحريات السرية لوثيقة تتضمن التعريف ببعض أسرار الدفاع الفرنسي، قيل إنها بخطه وإنه قدمها إلى سفارة أجنبية، وقد عرفت هذه الوثيقة فيما بعد باسم (البردرو) وقدم دريفوس إلى المجلس الحربي، وحوكم سرا، وحكم عليه بالنفي المؤبد والتجريد (23 ديسمبر سنة 94)، وكان دريفوس يؤكد بكل قواه أنه بريء من كل تهمة؛ ولكن لم يصغ إليه أحد، وجرت محاكمته بسرعة وتحيز ظاهر، ونفذ فيه الحكم بصرامة؛ وكان يؤمن ببراءته جماعة من أكابر المفكرين والساسة ويرونه ضحية الخصومة السامية؛ وكان من بين هؤلاء السياسي شويرر كستنر وكيل مجلس الشيوخ وطائفة من أعلام الكتاب مثل أميل زولا، وإيف جيو، وجوزف ريناخ، وجورج كليمنصو، وجوريس، وكاسنياك؛ فأثار هؤلاء دعوة شديدة ضد رجال العسكرية والقضاء الحربي، وطالبوا بإعادة النظر في القضية؛ وبذلت أسرة دريفوس جهودا كبيرة لإنقاذ وتبيان براءته؛ وكان الكولونيل بيكار من رجال العسكرية الذين يشكون في نزاهة القضاء الحربي، فانتهز فرصة انتدابه لرئاسة قلم التحريات السرية، ودرس القضية ومستنداتها المزعومة؛ فأيقن أن دريفوس كان بريئا وضحية واستطاع بعد البحث أن يعرف كاتب (البردرو) الحقيقي وهو ضابط يدعى (استر هازي). ولم تلبث هذه الحقيقة أن ذاعت رغم اضطهاد زعماء العسكرية لبيكار؛ واستغلها أنصار الإعادة؛ فاضطرت السلطات الحربية أن تقبض على استر هازي، وأن تحاكمه تهدئة لثورة الرأي العام، ولكن المجلس الحربي قضى ببراءته، فكانت هذه البراءة نذير فورة أشد من الأولى. وفي 13 يناير سنة 1898 نشر أميل زولا في صحيفة (الاورور) خطابه المشهور (إني أتهم!) موجها إلى رئيس الجمهورية، واتهم فيه القضاء الحربي في عبارات عنيفة ملتهبة بأنه انتهك قدس العدالة والقانون، وقضى عمدا على البريء، واستعمل الغش والتزوير في إجراءاته؛ فأحيل زولا على محكمة الجنايات بتهمة القذف، وحكم عليه بالحبس عاما وبالغرامة (3 فبراير سنة 98) ولكنه فر إلى إنكلترا تفاديا من تنفيذ الحكم؛ ولم تفتر جهود أنصار الإعادة مع ذلك؛ ولم تمض أشهر قلائل حتى اعترف الكولونل هنري وهو رئيس سابق لقلم التحريات، بأنه اشترك في صنع بعض الوثائق السرية التي قدمت كدليل على إدانة دريفوس فقبض عليه وسجن، ولكنه انتحر في سجنه، فزاد الشك في إجراءات القضاء الحربي واشتد سخط الرأي العام؛ واضطر عندئذ وزير الحربية أن يحيل الطلب الذي قدمه الضابط البريء بإعادة النظر إلى محكمة النقض؛ وقضت هذه بنقض الحكم (26 سبتمبر سنة 1899) وأحيل دريفوس إلى المجلس الحربي في رن، واستقدم من منفاه في جزيرة الشيطان في حالة يرثى لها؛ ولكن المجلس الحربي قضى ثانية بإدانته مع الظروف المخففة وحكم بسجنه عشرة أعوام؛ وأصدر مسيو لوبيه رئيس الجمهورية عفوا عن المحكوم عليه.
ولكن الضابط البريء وأسرته وأنصاره لم ترضهم هذه الخاتمة العرجاء، فضاعفوا جهودهم في سبيل الإعادة ومحو كل أثر للحكم؛ وانقسمت فرنسا عندئذ إلى شطرين، فريق وهو الأغلبية إلى جانب الإعادة وإنصاف البريء والحد من طغيان العسكرية؛ وفريق الوطنيين يؤازر الجيش ويقاوم الإعادة؛ وأشتد الجدل بين الفريقين، واتخذ مظهر سياسيا عنيفا يغشى كل الحياة العامة في فرنسا؛ وفي أثناء ذلك وقف أنصار الإعادة على وثائق وحقائق جديدة تؤيد البراءة، وقدم دريفوس طلبا ثانيا بإعادة النظر، ورأت الحكومة القائمة تهدئة للرأي العام أن تحيل طلبه ثانية إلى محكمة النقض؛ فقررت المحكمة أن تنظر فيه بنفسها، وأصدرت حكمها في 12 يوليه سنة 1906 بإلغاء محكمة رن وبراءة الضابط اليهودي؛ وفي الحال أعيد دريفوس إلى فرقته ومنح وسام الشرف، وأسدل الستار على تلك المأساة القضائية الهائلة، وهدأت العاصفة السياسية الكبرى التي أثارتها زهاء عشرة أعوام
يقول الكاتب الأشهر أميل زولا في كتابه الذي وضعه عن القضية بعنوان (الحقيقة تسير) (إن فون شفارتز كوبن وحده هو الذي يستطيع أن يذيع الحقيقة الناصعة)، وقد كان ذلك إبان اضطرام الصراع بين الحق والباطل وبين البريء وجلاديه؛ ولكن شفارتز كوبن كان يومئذ مرغما على الصمت كما أسلفنا. أما اليوم فبين يدينا أقواله وشهادته الحاسمة، وقد فاه شفارتز كوبن وهو على شفا الموت في أواخر ديسمبر سنة 1916 بهذه الألفاظ التي حرصت زوجه على تدوينها (أيها الفرنسيون؛ استمعوا إلي: إن الفريد دريفوس بريء، ولم يرتكب جرما قط؛ وكان الأمر كله دسائس وتزويرا، إن دريفوس بريء) وفي المذكرات والوثائق التي تركها شفارتز كوبن أدلة الحقيقة الناصعة التي طالب زولا بكشفها؛ فان (البردرو) الذي كان أساس الاتهام، والذي نسب زورا إلى دريفوس، كان من صنع استر هازي وبخطه، وكان المجرم الخائن هو استر هازي؛ وتلك حقيقة ثبتت إبان المأساة القضائية ذاتها؛ بيد أن شفارتز كوبن يفصل لنا علائقه بذلك الضابط المجرم، وكيف انه لبث في خدمته عامين يمده بأسرار الدفاع الفرنسي؛ ثم يقول لنا إن (البردرو) لم يصل إلى يده قط، ولم تلتقطه مدام بستيان خادمة السفارة الألمانية من سلة الأوراق المهملة، وتوصله إلى قلم التحريات الفرنسية، كما هو ذائع؛ ولكن المرجح أن استر هازي وضعه في صندوق الخطابات الخاص بالسفارة فاستلبه شخص ثالث لم يعرف قط؛ وهذه شهادة تهدم الرأي الحديث الذي يقول به بعض الكتاب الفرنسيين، وهو أن شفارتز كوبن نفسه كانت (البردرو) مقلدا فيه خط استر هازي وأنه ألقاه في سلة الأوراق المهملة عمدا لكي يصل إلى قلم التحريات السرية عن يد مدام بستيان وتتم بذلك الدسيسة؛ والواقع أن شفارتز كوبن لم يقف على أمر (البردرو) إلا بعد القبض على دريفوس والحكم عليه بعامين حيث رأى صورة الوثيقة منشورة في جريدة (الماتان) فعرف لفوره أنها من خط استر هازي، وأدرك في الحال روعة الخطأ القضائي الذي ارتكب
وفي الرسائل التي تبادلها شفارتز كوبن مع الكونت منستر سفير ألمانيا في باريس وقتئذ ما يدل على التأثر العميق الذي كانت تتبع به السلطات الألمانية يومئذ تطورات المأساة القضائية؛ وقد لبث الكونت منستر نفسه مدى حين بعيدا عن فهم الحقيقة معتقدا مسؤولية شفارتز كوبن حتى أنه حمل عليه في بعض رسائله بقسوة، واتهمه بأن تصرفاته المريبة كانت أكبر سبب في الحملات الصارمة التي شهرتها الصحافة الفرنسية على ألمانيا، والتي اضطرت حكومة القيصر أن تسعى لدى الحكومة الفرنسية لوقف هذه الحملات؛ وقد وقف الكونت منستر بعد ذلك على طرف من الحقيقة؛ وكان أركان الحرب الألماني يعرفها منذ الساعة الأولى، ويعرفها القيصر أيضا. وكان القيصر يعرف ويثق بأن السفارة الألمانية في باريس لم تتصل بدريفوس قط؛ ولما صرح له الكونت منستر حين مقابلته بأنه لا يشك لحظة في براءة دريفوس، أجابه القيصر بأنه لا يشك فيها كذلك؛ ونجد تفصيل المحادثات والتقارير الرسمية الألمانية المتعلقة بقضية دريفوس في المجلدين التاسع والثالث عشر من مجموعة الوثائق الرسمية التي أصدرتها ألمانيا عن تاريخ ما قبل الحرب. هذا وفي مذكرات الجنرال فون شفارتز كوبن كثير من الوثائق والتفاصيل التي تلقي أكبر ضوء على الحقائق المأساة القضائية الكبرى، وتعرضها في كثير من نواحيها عرضا جديدا مؤثرا
ولقد كانت فورة الخصومة السامية التي بعثت قضية دريفوس، ضربة شديدة لليهودية، استنفدت كثيرا من مواردها وقواها؛ ولكنها كانت لها نذير الخطر والكفاح؛ فقد لبثت اليهودية مدى حين آمنة مطمئنة في ظل الديموقراطية الظافرة؛ ولكنها أفاقت مذعورة من هذه الدعة الظاهرة، ونهضت تكافح طغيان القومية والعسكرية والكنسية معا؛ وكانت هذه اليقظة اليهودية وقود الحركة الصهيونية التي أذكى تيودور هرتسل الكاتب اليهودي جذوتها. وكان هرتسل يشهد مأساة دريفوس وتطوراتها منذ البداية كمراسل لجريدة (نوية فرايه بريسه) النمسوية، ويصور حوادث المأساة بقلمه الملتهب تصويرا قويا مؤثرا يثير روح الكفاح والمقاومة في الملايين من بني جنسه؛ واستطاعت اليهودية غير بعيدا أن تستجمع قواها؛ وغدا هرتسل روح الحركة الجديدة التي انتهت بتنظيم الصهيونية السياسة؛ ثم الفت اليهودية فرصتها أثناء الحرب الكبرى، واتجهت صوب فلسطين، وما زالت حتى ظفرت ببغيتها من الحلول بأرض الميعاد والاحتشاد فيها وتحقيق حلمها القديم بالعودة إلى أرض سليمان
محمد عبد الله عنان