مجلة الرسالة/العدد 11/إلى الأستاذ توفيق الحكيم من الدكتور طه حسين
مجلة الرسالة/العدد 11/إلى الأستاذ توفيق الحكيم من الدكتور طه حسين
سيدي الأستاذ
لست أدري أيعنيني حقا ويعني أصحابي، أن نعرف رأي الجيل الجديد
في جهدنا الأدبي وما أحدثنا من أثر في حياتنا الأدبية الجديدة. لأن
العلم الصحيح برأي المعاصرين لا سبيل له، أو لا تكاد توجد السبيل
التي توصل إليه. أو قل أن هذا الجيل الجديد نفسه قد يشق عليه جدا
أن يصور لنفسه فينا رأياً صحيحاً مستقيماً بريئاً من هذه العواطف
الحادة الجامحة التي تسيطر على نفوس الشباب، وتؤثر أشد التأثير
فيما يكونون لأنفسهم من آراء في الكتاب والشعراء المعاصرين. فهم
بين معجب يدفعه الإعجاب إلى الإغراق في الثناء، وبين ساخط يدفعه
السخطإلى الإغراق في الذم. وأكاد أعتقد أن ليس من اليسير لكاتب أو
شاعر أن يعرف رأي الناس فيه حقا، لأن هذا الرأي لا يظهرواضحا
جليا بريئا من تأثير العواطف والأهواء والظروف، إلاحين يصبح
الكاتب أو الشاعر وديعة في ذمة التاريخ. ومع ذلك فأنا أشكر لك أجمل
الشكر رأيك في أصحابي وفيّ، وثناءك على أصحابي وعليّ ويسرهم
كما يسرني أن يكون رأيك فينا صحيحاً، وأن يكون ثناؤك علينا خالصاً
من الإسراف في الحب الذي يدعو إلى الإسراف في التقدير.
لقد قرأت كتابك الممتع فترك في نفسي آثارا مختلفة، ولكن أظهرها
الإعجاب بهذا التفكير المستقيم العميق، وهذا الاطلاع الواسع الغني،
وهذا الاتجاه الخصب إلى تعرف الروح الأدبي لمصر في حياتها
الماضية والحاضرة والمستقبلة. وقد دفعني إعجابي بكتابك القيّم إلى ألاّ أختص به نفسي فآثرت به قرّاء الرسالة وأذعته فيهم. وأنا واثق بأنهم
قد رأوا فيه مثل ما رأيت وحمدوا منه مثل ما حمدت، وأثنوا عليك
بمثل ما أثنيت، وهموا أن يناقشوا بعض ما جاء فيه من الآراء كما
أريد أنا الآن أن أناقشها. ولست أدري أيقف أمر كتابك هذا عند إذاعته
في الرسالة وردي عليه، أو يتجاوزهما إلى مناقشة طويلة عريضة،
يشترك فيها كتاب مختلفون ونقاد كثيرون. فكتابك خليق بهذه المناقشة
لأن أسلوب التفكير فيه جديد قيّم، ومهما أفعل فلن أستطيع أن أتناول
كل ما أشعر بالحاجة إلى تناوله بالنقد والتمحيص من آرائك الكثيرة
المتباينة التي أفعمت بها كتابك إفعاماً. ولكني أقف عند طائفة قليلة من
هذه الآراء، لا أستطيع أن أدعها تمضي من غير نقد ولا تعليق.
وأول ما أقف عنده من هذه الآراء رأيك فيما تسميه شؤون الفكر في مصر، قبل الجيل الذي نشأنا فيه، فقد ترى أن هذه الشؤون كانت كلها محاكاة وتقليداً وتأثراً للعرب، واحتذاءً خالصا لمثلهم الأدبية، حتى جاء الأستاذ لطفي السيد ففتح لنا طريق الاستقلال الأدبي. وفي رأيك هذا شيء من الحق، لكن فيه شيئا من الإسراف غير قليل، فلست أعتقد أن الشخصية المصرية محيت من الأدب المصري محواً تاماً في يوم من الأيام، ولست أعتقد أن كلمة أنا لم يكن لها مدلول في لغة المصريين، ولست أعتقد أن المصريين كانوا في شبه إغماء حتى أقبل هذا الجيل الذي تتحدث عنه، فرد عليهم الحياة والنشاط. كل ما يمكن أن يصح لك هو أن الشخصية المصرية في الأدب كانت ذاوية ذابلة إلى حد بعيد في وقت من الأوقات لعلّه يبتدئ بآخر عصر المماليك. ولكن هذه الشخصية على ذبولها وفتورها لم تمت ولم تمح، بل ظلت حية تتردد أشعتها الضئيلة في آثار الكتاب والشعراء والعلماء، إلى أن كان العصر الحديث. ويكفي أن تقرأ الأدب المصري في أيام المماليك وقبل أيام المماليك، لتعلم أنّ شخصيتنا الأدبية كانت قوية منتجة، وكانت جذابة خلاّبة في كل فرع من فروع حياتنا المعنوية. كانت في الشعر بنوع خاص أقوى منها في هذه الأيام، وأقرأ ديوان البهاء زهير فستجد صورتك فيه واضحة، وستجد نفسك فيه ظاهرة، وستجد عواطفك فيه ممثلة، وستجد هذا كله أشد جلاء وقوة عند هذا الشاعر القديم منه عند شعرائنا المعاصرين. والأمر ليس مقصورا على هذا الشاعر، بل هو شائع في شعرائنا جميعا قبل فتح الترك لمصر. وهو كذلك شائع في كتّابنا وعلمائنا، ولو قد كانت شخصيتنا ضعيفة فانية وفاترة واهية، لما أتيح لنا أن نؤدي الحضارة الإسلامية ونحفظها من الضياع حين أخذ التتار والأوروبيون عليها أقطار الشرق والغرب. ولم تكن هذه الشخصية في عصور الضعف والوهن خفية ولا غامضة، فأنت تجدها واضحة في شعر هؤلاء الشعراء المتأخرين الذين عاشوا في أول القرن الماضي وفي أثنائه، والذين لا نحب شعرهم ولا نطيل النظر فيه، والذين يخيل إلينا انهم كانوا يقلّدون فيسرفون في التقليد، ولكنهم برغم هذا التقليد الشديد لم يستطيعوا أن يمحوا مصريتهم ولا أن يخفوها. ولست أستطيع أن أضرب لك الأمثال هنا فذلك شيء لا ينتهي، ولكني أؤكد لك أن حكمك على هذه الشخصية المصرية في الأدب محتاج إلى التصحيح، وأنت قادر على هذا التصحيح، إن قرأت أدبنا المصري كما تقرأ الأدب الغربي وكما تقرأ الأدب العربي القديم، ستجد فيه تقليداً، وستجد فيه بديعاً كثيراً، ولكنك ستجد فيه نزعة مصرية واضحة تحسّها حيثما ذهبت، وأينما وجهت من أرض مصر، وتجدها عند المصريين المعاصرين الذين لم تخرّجهم الثقافة الأوروبية عن أطوارهم المألوفة، في الشعور والتفكير وفي النظر إلى الحياة والتأثر بها والحكم عليها. هذه النزعة صوفية بعض الشيء، فيها مزاج معتدل من الإذعان للقضاء والابتسام للحوادث، وفيها مزاج معتدل من حزن ليس شديد الظلمة، ولا مسرفاً في العمق، ومن سخرية ليست عنيفة ولا شديدة اللذع ولكنها على ذلك بالغة مقنعة، تمضي في كثير من الأحيان، ولعلك تجد هذه النزعة نفسها قريبا جداً منك. لعلك تجدها في أهل الكهف. فجيلنا إذن لم يحدث شخصية مصرية لم تكن، وإنما جلا هذه الشخصية وأزال عنها الحجب والأستار، وجيلنا لم يمنحها الحياة، وإنما منحها النشاط، وزاد حظها من الاستقلال وغيّر وجهتها، فلفتها إلى الأمام بعد أن كانت تصر على الالتفات إلى وراء، وليس هذا بالشيء القليل. وأنا معجب بآرائك في الفن المصري، وفي الفن الإغريقي، ولكني لا أحب لك هذا الإسراع إلى استخلاص الأحكام العامة، وإقامة القواعد التي لا تثبت للنقد والتمحيص. وآية ذلك أنك أنت نفسك قد أحسست بعض هذا الإسراع فأصلحته حين قضيت على اليونان في أول الكتاب ثم قضيت لهم في آخره. وستر أنك أسرعت في الأولى وأسرعت في الثانية، وكنت خليقا أن تصطنع الأناة فيهما جميعا. فليس من الحق أن اليونان كانوا أصحاب مادة ليس غير، وليس من الحق أن روحية اليونان هذه التي أنكرتها في أول الكتاب، وعرفتها في آخره قد جاءتهم من إلههم ديونيزوس وحده. فحظ اليونان من الروحية قديم تجده بيّنا في شعرهم القصصي في الإلياذة والأوديسا قبل أن تظهر فيهم الآثار العنيفة لدين ديونيزوس، وأنت تعلم أن ظهور هذا الإله عند اليونان متأخر العصر، وأنه في أكبر الظن اله أجنبي جاءهم من تراقيا، وأنه لم يعطهم هذه الحياة الروحية العليا، التي نجدها عند سقراط وعند تلاميذه، وعند أفلاطون بنوع خاص، وإنما أعطاهم حياة روحية أخرى كلّها تصوف وكلّها طموح إلى عالم مجهول مختلط تحيط به الأسرار والألغاز، وتعبّر عنه الرموز والكنايات. وكان هذا النوع من الروحية ذا مظهرين مختلفين، أحدهما شائع مشترك، يساهم فيه الشعب كله، وأهل الريف منهم خاصة، والآخر مقصور على طائفة معينة، هي هذه التي تتعلم الأسرار وتشترك في إقامتها وإحيائها. فكان دين ديونيزوس أشبه شيء بطرق الصوفية عندنا، علمها الصحيح مقصور على خاصة المتصوفة، ونشاطها العملي الغليظ شائع في أفراد الشعب جميعاً. وقد كان أثر ديونيزوس في الأدب اليوناني قوياً عميقاً. وحسبك إنه إله التمثيل، ولكن روحية اليونان الخصبة حقاً، الممتازة حقاً، التي أزعم معتذراً إليك إنك لا تستطيع أن تجد لها شبيهاً ولا مقارباً في مصر الروحية. هذه الروحية اليونانية تجدها واضحة جلية، عذبة ساحرة عند فلاسفة اليونان من تلاميذ سقراط، وعند أفلاطون بنوع خاص. ستقول كما قال كثيرون من قبل: إن أفلاطون قد زار مصر، وأخذ منها. ولست أنكر روحية مصر، ولكني لا أعرف عنها شيئاً كثيراً، ولعلي مدين لليونان بما أعرفه من الروحية المصرية. ومهما يكن من شئ فأنت توافقني على أن اليونان لم يكونوا أصحاب مادة فحسب، ولم تأتهم روحيتهم من ديونيزوس وحده، وإنما اليونان مزاج معتدل من المادة والروح. هم الذين يحققون مثلك الأعلى من المزاوجة بين المادة والروح، والملائمة بين الحركة والسكون، وبين القلق والاضطراب، ولذلك كان اليونان هم الذين أخرجوا للإنسانية في العصر القديم أرقى تراث في الأدب والفن والفلسفة.
قلت إني لا أنكر روحية المصريين. وأقول أيضا إني مؤمن بروحية الهنود، ومعترف بتأثير الروحية المصرية والهندية في حياة اليونان. ولكني لا أعرف من روحية المصريين شيئاً كثيراً لأننا لا نعرف للمصريين فناً ناطقاً، لا نعرف لهم أدباً بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة. وأنت ترى معي أن الأدب هو أوضح مصور لحياة العقول والقلوب، لأنه يحقق مقداراً مشتركاً يمكن الاتفاق عليه، ويصعب الاختلاف فيه. فنحن إذا قرأنا الشعر أو النثر معاً، فهمنا فهماً واحداً أو فهمين متقاربين، ولكن الفن الصامت فن البحث والتصوير وما إليهما يثير في نفوس الناس معانٍ مهما تكن متقاربة متشابهة، فهي تختلف باختلاف الأشخاص والبيئات والعصور، ها أنت ذا تفهم من الفن المصري ما تفهم، ويشاركك فيه كثير من المثقفين ثقافة أوربية، ولكن أواثق أنت حقاً بأن قدماء المصريين كانوا يرون تماثيلهم وعماراتهم كما تراها، ويفهمونها كما تفهمها، ويستلهمونها كما تستلهمها؟ أرأيتك لو سألت مصرياً معاصراً لرمسيس عن رأيه في تمثال من التماثيل، أو عمارة من العمارات، أيقول فيهما مثل ما تقول؟ ومثل هذا يقال في الفن اليوناني، وفي كل الفنون الصامتة، فليس من الخير أن نعتمد عليها وحدها في تشخيص عقلية الأمم وروحيتها، إنما المشخص الصحيح للعقول والقلوب والأرواح هو الكلام، والكلام الجميل الذي نسميه الأدب ونقسمه شعراً ونثراً. فإلى أن يكشف لنا علماء الآثار المصرية عن أدب مصري قديم خليق بهذا الاسم أرجو أن تأذن لي في أن أشك في كثير جداً من هذه الأحكام التي يرسلها الأدباء والشعراء وأصحاب الفن على عقلية المصريين القدماء وروحيتهم، وبعدهم عن المادة، وقربهم من الروح.
كل هذه عندي أحكام يتعجل بها أصحابها، ويرسلونها على غير تحقيق، وإذن فقد يكون من الإسراف أن تتخذ هذه الروحية المصرية الغامضة التي يسرع إليها الشك، والتي تعجز عن أن تثبت للبحث، والتي توشك إن تكون خيالاً تخيلته أنت وتخيله أصحابك من الأدباء ورجال الفن أساساً لأدبنا المصري الحديث. فمن يدري لعل البحث عن آثار مصر أن يكشف لنا بعد زمن طويل أو قصير عن حياة مصرية قديمة تغاير كل المغايرةهذا الخيال الذي تحبونه تطمئنون إليه، ويخيل إليكم أن الفن المصري القديم يوحيه ويمليه وينطق به.
نحن إذاً أمام أمرين أحدهما عرضة للشك الشديد، لا نكاد نعرف منه شيئاً، والآخر لا سبيل إلى الشك فيه؛ أحدهما حياة مصر القديمة وحضارتها العقلية - إن صح هذا التعبير - والآخر حياة العرب وحضارتهم. فإلى أي الأمرين نفزع لنقيم عليه بناء أدبنا الجديد؟ أإلى الشك أم إلى اليقين؟ وهنا يظهر الخلاف بينك وبيني شديداً حقاً، فقد أصلحت أنت رأيك في اليونان، ولا أستطيع مناقشتك في أحكامك على المصريين لأنها أثر الإلهام الفني، ولكن رأيك في العرب وآثارهم في حاجة شديدة جداً إلى التقويم. فقد كنّا نرى أن ابن خلدون جار على العرب فإذا أنت أشد منه جوراً وأقل منه عذراً. فقد يسّر الله لك من أسباب العلم بالتاريخ القديم، وتاريخ القرون الوسطى وتاريخ الحياة الأدبية والفنية والعقلية لمختلف الأمم والشعوب ما لم ييسّره لابن خلدون. فإذا قبل من هذا المؤرخ الفيلسوف أن يتورّط في الخطأ لأن عقله الواسع لم يحط من أمور اليونان والرومان والهند والفرس والمصريين القدماء بما نستطيع نحن الآن أن نحيط به أو نمعن فيه. فليس يقبل منك أنت هذا الخطأ وليس يقبل من المعاصرين بوجه عام. وقد ذهب إلى مثل ما ذهبت إليه جماعة من المستشرقين منهم دوزي ورينان، وأحسبكم جميعاً تظلمون العرب ظلماً شديداً وتقضون في أمرهم بغير الحق. فلو أنكم ذهبتم تقارنون بين العرب وبين الهنود والفرس، والمصريين القدماء لما كان من حقكم أن تقدموا هذه الأمم في الأدب على الأمة العربية بحال من الأحوال، لأننا لا نكاد نعرف من آداب هذه الأمم في تاريخها القديم شيئاً يقاس إلى ما بين أيدينا من الأدب العربي. فإلى أن يستكشف أدب هذه الأمم إن كان لها أدب أكثر من هذا الذي نعرفه، يجب أن نؤمن للعرب بالتفوق عليها في الشعر والنثر جميعاً. للمصريين فنهم، وللهنود قصصهم وفلسفتهم، ولكن للعرب شعرهم ونثرهم ودينهم، ولهم قصصهم أيضاً. فإذا أردت أن تقارن بين العرب والرومان فأظنك توافقني على أن الأدب العربي الخالص أرقى جداً من الأدب الروماني الخالص، أيأن الأدب الروماني إنما ارتقى حقاً حين أثّر فيه الأدب اليوناني، فالرومان تلاميذ اليونان في الأدب والفن والفلسفة، والعرب يشبهونهم في ذلك. ولكن العرب كان لهم أدب ممتاز قبل أن يتأثّروا بالحضارة اليونانية، ولم يكن للرومان من هذا الأدب الروماني الممتاز الخالص حظ يذكر. وقد تفوق الرومان في الفقه، ولكنهم لم يسبقوا العرب في هذه الناحية من نواحي الإنتاج، ولعل الأمة الوحيدة التي يمكن أن تشبه بالرومان في الفقه إنما هي الأمة العربية.
لم يبق إذن إلاّ أدب اليونان، هو الذي يمكن أن يقال فيه انه متفوق على الأدب العربي حقا، ولكن من الذي يقيس رقي الأدب في أمة من الأمم برقي الأدب في أمة أخرى؟ فإذا كانت ظروف الحياة العربية مخالفة أشد المخالفة لظروف الحياة اليونانية، فطبيعي أن تختلف الآداب عند الأمتين. وليس من شك في أن الأدب العربي قد صوّر حياة العرب تصويرا صادقا فأدى واجبه أحسن الأداء، وكل ما يؤخذ به الأدب العربي القديم هو أنّه لا يصوّر حياتنا نحن الآن، ولكن أواثق أنت بأن الأدب اليوناني القديم قادر على أن يصور الحياة الحديثة تصويراً يرضي أهلها؟! أمّا أنا فلا أتردد في الجواب على مثل هذا السؤال، فالأدب اليوناني القديم خصب غني ممتع من غير شك، ولكنه كالأدب العربي قد صوّر حياة القدماء، وهو قادر على أن يلهم المحدثين لا أكثر ولا أقل.
وأراك تذكر الفن العربي فتعيبه وتغض منه، وقد تكون موفقا في ذلك، ولكن أليس من الظلم أن تحمل هذا الفن على العرب وإنّما هو فن إسلامي ساهمت فيه الأمم الإسلامية المختلفة واستمدت أكثره من البيزنطيين. فإذا كان لك أن تعيب هذا الفن أو تحمده، فأحب أن تقتصد في إضافته إلى العرب، والخير أن تضيفه إلى الأمم الإسلامية. وأمر العرب بالقياس إلى الفن والأدب والعلم والفلسفة بعد العصر العباسي الأول، كأمر اليونان بالقياس إلى هذه الأشياء كلها بعد غارة الاسكندر على الشرق. كانوا ملهمين باعثين للنشاط دافعين إلى الإنتاج، مقدمين لغتهم وعاء لما تنتجه العقول والملكات على اختلافها، وقد يكون من الحق أن كل مقامة من مقامات الحريري أشبه بباب من أبواب جامع المؤيد، ولكن من الحق أيضا أن الآثار الأدبية التي تشبه مقامات الحريري والآثار الفنية التي تشبه أبواب جامع المؤيد كثيرة جدا عند اليونان في العصر المتأخر، وعند البيزنطيين، ولعل هذه الآثار اليونانية البيزنطية هي التي أحدثت عند المسلمين مقامات الحريري وأبواب جامع المؤيد. وأنت تميز اليونان بالحركة، وتميز العرب بالسرعة، وتستنبط من هذه السرعة ظلماً كثيراً للعرب، كما فعل أبن خلدون من قبل، وليس من شك في أن العرب يشاركون اليونان في الحركة، ولكن ليس من شك أيضاً في انك تغلو غلواً شديداً في وصفهم بالسرعة. إنما أسرع العرب في الخروج من باديتهم، ولكنهم حين بلغوا الأمصار استقرّوا فيها، وطال بهم المقام، فأثروا في أهلها وتأثروا بهم، وكانوا في القرون الوسطى أشبهالأمم باليونان في العصر القديم. ورأيك في الموسيقى العربية واليونانية في حاجة إلى التصحيح أيضا، فنحن نعلم من الموسيقى اليونانية شيئاً يسيراً غير مضبوط، ولا نعلم من الموسيقى العربية شيئاً، ولست أدري إلى أي أمة أو إلى أي جيل نستطيع أن نرد هذه الموسيقى، وهذا الغناء اللذين نتحدث عنهما. ولكن الشيء الذي لا أشك فيه هو أن من العسير جداً أن نردهما إلى العرب القدماء. وكل شئ يدل على أن الموسيقى والغناء العربي كما كان يعرفهما العرب أيام الأمويين والعباسيين وفي الأندلس كانا متأثرين أشد التأثر بالموسيقى البيزنطية والغناء البيزنطي. فإذا أردت أن تعيبهما فلا تنس أن تعيب أصلهما اليوناني القديم.
وأريد الآن أن أدع هذه المناقشات التي تمس أموراً جزئية وأن أخلص إلى جوهر الموضوع الذي تريد أن تعرف رأيي فيه، وهو: الروح المصري الذي ينبغي أن يقوم عليه الأدب الحديث ما هو؟ وما العناصر التي تؤلفه؟ وأنا استأذنك في أن أكون يسيراً سهلاً، لا متعمقاً ولا متكلّفاً، ولا باحثاً عن الظهر في الساعة الرابعة عشرة (كما يقول الفرنسيون) فالأمر أيسر جداً من هذا كله. عناصر ثلاثة تكون منها الروح الأدبي المصري، منذ استعربت مصر، أولها العنصر المصري الخالص الذي ورثناه عن المصريين القدماء على اتصال الأزمان بهم، وعلى تأثرهم بالمؤثرات المختلفة التي خضعت لها حياتهم، والذي نستمده دائماً من أرض مصر وسمائها، ومن نيل مصر وصحرائها. وهذا العنصر موجود دائما في الأدب المصري الخالص، قد حاولت تشخيصه بعض الشيء في أول هذا الفصل، فيه شيء من التصوف، وفيه شيء من الحزن، وفيه شيء من السماحة، وفيه شيء من السخرية. والعنصر الآخر هو العنصر العربي الذي يأتينا من اللغة ومن الدين ومن الحضارة، والذي مهما نفعل فلن نستطيع أن نخلص منه، ولا أن نضعفه ولا أن نخفف تأثيره في حياتنا، لأنه قد امتزج بهذه الحياة امتزاجاً مكوناً لها مقوماً لشخصيتها، فكل إفساد له إفساد لهذه الحياة ومحو لهذه الشخصية، ولا تقل انه عنصر أجنبي، فليس أجنبياً هذا العنصر الذي تمصر منذ قرون وقرون، وتأثر بكل المؤثرات التي تتأثر بها الأشياء في مصر من خصائص الإقليم المصري، فليست اللغة العربية فينا لغة أجنبية، وإنما هي لغتنا وهي أقرب إلينا ألف مرّة ومرّة من لغة المصريين القدماء. وقل مثل ذلك في الدين، وقل مثله في الأدب.
أما العنصر الثالث، فهو هذا العنصر الأجنبي الذي اثّر في الحياة المصرية دائماً، والذي سيؤثّر فيها دائماً، والذي لا سبيل لمصر إلى أن تخلص منه، ولا خير لها في أن تخلص منه، لأن طبيعتها الجغرافية تقتضيه، وهو هذا الذي يأتيها من اتصالها بالأمم المتحضّرة في الشرق والغرب. جاءها من اليونان والرومان واليهود والفينيقيين في العصر القديم، وجاءها من العرب والترك والفرنجة في القرون الوسطى، ويجيئها من أوربا وأميركا في العصر الحديث. فخذ الآن أي أثر أدبي مصري فحلله إلى عناصره التي يتكون منها، فستجد فيه هذه العناصر الثلاثة دائما. ولكنك ستجد بعضها أقوى من بعض بمقدار حظ المؤلف أو المنشئ من هذه الثقافات الثلاث المختلفة. بعض هذه الآثار يغلب فيه العنصر العربي، وبعضها يغلب فيه العنصر الأوربي، وقليل جدا منها يظهر فيه العنصر المصري القديم. فإذا لم يكن بد من أن أصور المثل الأعلى لروحنا المصري في أدبنا الحديث، فأني أحب أن يقوم التعليم المصري على شيء واضح من الملاءمة بين هذه العناصر الثلاثة فتشتد عنايته جدا بالتاريخ المصري، والفن المصري، والأدب المصري على اختلاف العصور. وتشتد عنايته جداً بالأدب العربي، والتاريخ العربي، والدين الإسلامي. ثم تشتد عنايته بالثقافة الحديثة. وأخوف ما أخافه على هذا الروح المصري شيئان: أحدهما أن تلهينا الثقافة الأوربية عن الثقافة المصرية والعربية، وكل شيء يغرينا بها ويغريها بنا فهي ضرورة من ضرورات الحياة، فمن الحق علينا أن لا نضيع حظنا منها، ولكن من الحق علينا ألاّ نفني أنفسنا فيها. الثاني أن نؤثر ثقافة أوربية على ثقافة أوربية فنؤثر الثقافة الإنكليزية (كما يريد قوم وكما تريد سياسة الدولة) أو نؤثر الثقافة اللاتينية (كما يريد قوم آخرون، وكما كانت تريد سياسة الدولة من قبل) هذا خطر لأنه يجعل الروح المصري الناشئ وجها لوجه أمام روح أوربية أقوى منه وأشد بأسا. فيوشك أن يخضع له ويفنى فيه، فلو قد فتحنا أبوابنا للثقافات الأجنبية على اختلافها، لانتفعنا بها كلها ولأضعف بعضها بعضا، وحال بعضها دون بعض أن يفنينا أو يسيطر علينا. لذلك تمنيت وما زلت أتمنى لو لم تفرض على مصر لغة بعينها من لغات الأوربيين، بل جعلت اللغات الحية الراقية كلها مباحة للطلاب يأخذون منها ما يشاءون.
هذا الروح المصري الذي يتكون من هذه العناصر الثلاثة، هو الذي نشهده الآن عندك وعند كثير من أمثالك المثقفين، وهو الذي نجد في نشره وإذاعته بين المصريين جميعا، وهو الذي سيطبع أدبنا المصري الحديث بطابعه القوي سواء أردنا أم لم نرد. فشخصيتنا المصرية العربية أقوى بحمد الله من أن تمحى أو تزول، والحضارة الأوربية أقوى وألزم من أن نعرض عنها، أو نقصر في الأخذ بحظنا منها. ستسألني: ولكن الأديب؛ من أين يستمد خواطره، ويستلهم وحيه؟ فأجيبك: من هذه العناصر كلها، أو من أي من هذه العناصر شاء، سيكون منّا الأديب الذي يستلهم العنصر المصري القديم؛ أليس بين الفرنسيين من يستلهم اليونان؟ وسيكون منّا الأديب الذي يستلهم العنصر العربي؛ أليس من الفرنسيين من يستلهم الرومان؟ وسيكون منّا أن يستلهم العنصر الأوربي، أليس من الفرنسيين من يستلهم السكسونيين؟ بل من يستلهم الشرق الأقصى، أو الشرق الأوسط، أو الشرق القريب، بلى. والأمر كذلك عند الإنجليز وعند الألمان، وعند غيرهم من الأمم الحية. فأنت ترى أن أمر هذا الروح المصري أيسر من أن يدعو إلى الخوف أو يضطر إلى الحيرة وأكبر الظن أنّ مصدر هذه الحيرة وذلك الخوف إنّما هو اضطراب سياسة التعليم في مصر وقيامها على غير أساس، وسيرها في غير طريق، ولو قد وضحت هذه السياسة واستقامت منذ زمن بعيد لما تساءلنا الآن عن الروح المصري، ولا عن الأدب المصري من أين يستمد الحياة.
أمّا بعد؛ فقد كنت أريد أن أقتصد وأؤثر الإيجاز، ولكن الحديث معك أغراني بالإطالة وحببها إليّ، وأرجو أن لا أكون عليك ولا على غيرك من القرّاء، وأرجو أن تقبل تحيتي الخالصة.