انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 109/وقفة بالعقيق!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 109/وقفة بالعقيق!

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 08 - 1935



للأستاذ علي الطنطاوي

وقفة بالعقيق نطرح ثقلا ... من دموع بوقفة في العقيق

مائل بين أربع مائلات ... ينزع الشوق من فؤاد علوق

(البحتري)

. . . أصابتنا في المدينة عين من المطر، فحبستنا في الدار أياماً، وجاءت بعد محل من الأرض، وشح من السماء، فروت الأرض، وأسالت الأودية، فاستبشر الناس بنا إذ كان قدومنا خيراً، وزيارتنا غيثاً، ومقامنا ربيعاً؛ وليس أجمل في أرض العرب من الربيع، ولا أجدى من الغيث؛ ثم انقشعت الغيوم بعد أيام، إلا جهاماً من السحاب هفاً رقيقاً، وأفتق قرن الشمس فخلع على الدنيا حلةً نسجت من خيوط النور. . . . وحلى اليوم وطاب، فخرجنا من دورنا نستمتع بجماله وطيبه، ونملأ صدورنا بهذا النسيم الناعش، وعيوننا بهذه المناظر الخلابة، وآنافنا بهذا الأرج يتضوع من هذه التربة المعطرة (بعطر السماء). . . وسرنا في (شارع العنبرية) نريد الحرم،، فلم نكد نتعدى (المناخة) حتى قيل: قد سال العقيق. . فإذا الوجوه تطفح بالبشر، وتفيض بالسرور، وإذا على كل لسان: قد سال العقيق. . . وإذا الناس يستعدون للخروج!

وهل يملك الناس نفوسهم، فيقعدون لا يخرجون إلى العقيق، وقد سال العقيق؟ وهل يذكر عربي العقيق ثم لا يذكر الحب والشعر، والفن والجمال، والحياة الناعمة والعيش الرغيد؟ أولم يكن وادي العقيق رمز الهوى والشباب، ومغنى الغنى والغناء، ومثابة الفن والأدب، ومجمع العشاق، وندى الشعراء؟ ألم يكن العقيق قلب المدينة حين كانت المدينة قلب العالم؟ ألم يولد على جنبات العقيق ديوان كامل من أبرع دواوين الأدب العربي وأحلاها؟ ألم تعش على أطراف العقيق العشرات من القصور الفخمة، والرياض النضرة، والمغاني التي فاض منها الشعر والسحر والعطر على الدنيا كلها؟ أليس لاسم العقيق حلاوة؟ أما عليه طلاوة؟ ألا يحلو في الأذن تكراره، ويلذ اللسان ترداده؟. . .

ألم يقرأ أحاديث العقيق، ويرو أشعار العقيق، من لم ير قط العقيق، فيهوى العقيق، ويحن إلى العقيق؟ فكيف يسيل العقيق ثم لا يخرج أهل المدينة إلى العقيق؟. . .

أولم يسمع عبد العزيز بن الماجشون أن قد سال العقيق، وهو خارج من صلاة الصبح، فلا يتريث ولا يمر بداره، ويمضي إليه من ساعته، فيلهو فيه بعض اللهو، ويسمع فيه الغناء، وهو هو في مكانته ووقاره؟ فكيف بعامة الناس وشبابهم؟

خرجنا مع من خرج، فلم نجاوز السور ونترك عن أيماننا المحطة العظيمة، الخالية الخاوية، الكابية الباكية، التي أضاعها أهلوها، وأهملوها حتى نسوها. . . حتى بدت لنا الحرة السوداء الواسعة فسلكنا طريقاً فيها جديدة، على يسار الطريق القديمة التي تهبط الحرة على سلم منقورة في الصخر، وهذه النقرة هي ثنية الوداع، التي طلع منها رسول الله ، فاستقبله الولائد بالدفوف ينشدن:

طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع

والتي منها أشرق (البدر) على القلوب والعقول، فأنارها فهي منه في نور إلى يوم القيامة!

وسرنا في هذه الطريق نحواً من كيلين اثنين فانتهينا إلى بئر عروة، التي حفرها الإمام الزاهد العلم عروة بن الزبير، فكانت في قصره العظيم الذي اندثر، ولم يبق له من أثر، وهي أعذب بئر في المدينة وأطيبها، وكان ماؤها يحمل إلى الرشيد في قوارير وهو مقيم في الرقة؛ وإلى جانب البئر قهوة جديدة، قامت على جذوع النخل، فجلسنا فيها على كراسي مستطيلة، تتخذ في مقاهي الحجاز مجلساً وسريراً، تطل على الوادي العظيم

والوادي رغيب، بين عدوتيه أكثر من مائة متر، وعلى العدوة الأخرى جبال حمراء جميلة المنظر، وقد غنى الوادي وامتلأ، والسيل دفاع يلتطم آذيه، وتصطخب أمواجه، يرمي بالزبد، ويطوح بالفقاقيع، ويجري متكسراً وله خرخرة، وله دردرة، وعلى جانب الماء حصباء واسعة، قد جلس فيها المدنيون حلقاً، يحفون بـ (سماورات) الشاي البراقة العالية، ويغنون ويطربون، ما سمحت لهم (الحكومة) أن يغنوا ويطربوا. . .

جلس إخواننا يتجاذبون أطراف الحديث، فيذكرون بلادهم وأوطانهم، ويحنون إلى الغوطة الغناء، والعين الخضراء، والزبداني وبلودان، وتلك الجنان، وجلست أحدق في ماء العقيق، وأحن إلى أيامه الغر، وماضيه الفخم، وأفكر في حاضره الممض، وودايه القاحل، فأطيل التحديق، وأمضي في التفكير حتى أذهل عن نفسي، وأنسى مكاني، فأرى صفحة الماء تضطرب وتهتز، وتختلط فيها الأنوار، وتمتزج فيها الأضواء، كأنما هي سبيكة ذهب، أو قطعة ياقوت، ألقي عليها نور وهاج، ثم أراها قد استقرت وسكنت، فإذا العقيق غير العقيق، وإذا هو غارق في العطر والنور، وإذا من حوله العشرات من القصور، تضيء كأنها الثريا في السماء، فتنعكس أنوارها في الماء، فتتوارى النجوم استحياء، وتغص العين خجلاً، ثم تستتر ببرقع الغمام وتبكي، فيضحك العقيق لبكاء السماء، وتضحك الأرض لضحك العقيق!

وأرى قصر عروة العظيم، قد سطعت في شرفاته الأنوار، وحف به الشعراء والمغنون ينتظرون نزيله الجليل، الشاعر الغزل الفقيه المحدث عروة بن أذينة، ليأخذوا من شعره، ويحفظوا من حديثه، فإذا طال بهم الانتظار، وتصرم الليل، ولم يفوزا بطائل، ذهبوا إلى دورهم وقد أيسوا من لقائه تلك الليلة، وأزمعوا أن يباكروه من الغد. وسكن العقيق وخلا إلا من عاشق أرق (يناجي طيف من يهوى، ويبغي عنده السلوى) وخشع الليل، وأنصت الكون، فقام عروة على شرفة القصر، فراقه سكون الليل، وفتنه منظر العقيق، فهاج في نفسه الشوق، فاندفع ينشد:

إن التي زعمت فؤادك ملّها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها

فبك التي زعمت بها وكلاكما ... يبدي لصاحبه الصبابة كلها

ويبيت بين جوانحي حب لها ... لو كان تحت فراشها لأقلها

ولعمرها لو كان حبك فوقها ... يوماً وقد ضحيت إذن لأظلها

بيضاء باكرها النعيم فصاغها ... بلباقة فأدقها وأجلها

لما عرضت مسلماً لي حاجة ... أرجو معونتها وأخشى ذلها

منعت تحيتها فقلت لصاحبي ... ما كان أكثرها لنا وأقلها

فدنا فقال: لعلها معذورة ... من أجل رقبتها، فقلت: لعلها

فلما كان الصباح، غدا أبو السائب المخزومي علي عبد الله، فقال له: أسمعت أبيات عروة أمس؟ قال: وأية أبيات؟ قال: وهل يخفى القمر؟ قوله:

إن التي زعمت فؤادك ملّها. . . .

فأنشده إياها، فلما بلغ إلى قوله: لعلها، قال أبو السائب: أحسن والله، هذا والله الدائم العهد، الصادق الصبابة، لا الذي يقول: إن كان أهلك يمنعونك رغبة ... عنيّ فأهلي بي أضنّ وأرغب

وإني لأرجو أن يغفر الله لصاحبك (يعني عروة) حسن ظنه بها، وطلبه العذر لها؛ ثم يعرض عليه عبد الله طعاماً فيقول: لا والله ما كنت لآكل بهذه الأبيات طعاماً إلى الليل!

وينتظر عبد الله حتى إذا حان المساء، وأثر الجوع في أبي السائب ذهب إليه فقال له: (جئت أنشدك وأحدثك) فيقول: (هات ما عندك)، فيحدثه وينشده، حتى ينشده بيتي العرجي:

باتا بأنعم ليلة حتى بدا ... صبح تلوّح كالأغرّ الأشقر

فتلازما عند الفراق صبابة ... أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر

فيقول أبو السائب: أعده عليّ، فيعيده أبو مصعب، فيستفز المخزومي الطرب فيحلف بالطلاق لا ينطق بحرف غيره حتى يرجع إلى بيته!

ويمرّ بهما عبد الله بن حسن بن حسن وهو منصرف من مال له يريد المدينة فيسلم عليه ويقول: كيف أمسيت أبا السائب؟

فيقول:

فتلازما عند الفراق صبابة ... أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر

فيقول أبن حسن: مالك يا أبا السائب، إني لا أكاد أفهم عنك

فيقول:

فتلازما عند الفراق صبابة ... أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر

فيقبل عبد الله بن حسن علي عبد الله، فيقول: متى أنكرت صاحبك؟ فيقول: منذ الليلة، فيقول: إنا لله! أي كهل أصيبت به قريش! ثم يمضي

ويمر بهما عمران بن محمد التميمي قاضي المدينة يريد مالاً له على بغلة له ومعه غلام على عنقه مخلاة فيها قيد البغلة، فيسلم ويقول: كيف أنت يا أبا السائب؟

فيقول:

فتلازما عند الفراق صبابة ... أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر

فيقول القاضي لعبد الله: متى أنكرت صاحبك؟ فيقول: آنفاً، فيسترجع القاضي ويهم بالمضي، فيمكر عبد الله بصاحبه ويقول: أفتدعه هكذا أيها القاضي وتمضي؟ والله ما آمن أن يتدهور في بعض آبار العقيق، قال القاضي: صدقت، يا غلام! قيد البغلة، فيضع القيد في رجله وهو يشير بيده ويصيح:

فتلازما عند الفراق صبابة ... أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر!

ثم يضطرب الماء ويموج، فتنطمس الصورة فلا أرى في الماء إلا أشباحاً مبهمة، مهتزة متداخلة، ثم تبين وتضح، فإذا أنا أرى قصر عروة، وقد هيئ وفرش، ودارت به الخدم والعبيد، واجتمع من حوله السراة والأعيان، وهم يتحدثون تبدو عليهم أمارات الملل والقلق، فعل الذي ينتظر شيئاً ويبطئ عليه، وأدنو منهم فأفهم من حديثهم أن القادم صاحب القصر عروة بن الزبير، أحد الفقهاء السبعة، وقد كان في دمشق فأصابته الأكلة في رجله، فأراده الأطباء على قطعها وإلا سرى الداء فأفسد عليه جسده، وقيل له نسقيك الخمر حتى لا تجد ألماً! فقال: لا أستعين بحرام الله على ما أرجو من عافية. قالوا: نسقيك المرقد. قال: ما أحب أن أسلب عضواً من أعضائي وأنا لا أجد ألم ذلك فاحتسبه

قالوا: فما تصنع إذن؟ فأخذ في التهليل والتكبير، وقال: شأنكم بها!

ودخل عليه قوم أنكرهم، فقال: ما هؤلاء؟ قالوا: يمسكونك. فإن الألم ربما عزب معه الصبر، وأنت شيخ كبير!

قال: أرجو أن أكفيكم ذلك من نفسي. فقطعت كعبه بالسكين، حتى إذا بلغ العظيم وضع عليه المنشار. . . فقطعت، وهو يهلل ويكبر. . . ثم أغلى له الزيت في مغارف الحديد، فحسم به. فغشى عليه ثم أفاق وهو يمسح العرق عن وجهه، فلما رأي القدم بأيديهم، دعا بها فقلبها في يده، ثم قال:

أما والذي حملني عليك، إنه ليعلم إني ما مشيت بك إلى حرام. . . .

وأسمعهم يتحدثون كيف دخل ابنه محمد - وهو فتى المدينة جمالاً وكمالاً، وأدباً ونسباً - كيف دخل اصطبل الوليد فرمحته دابة فقتلته، وما يعلم عروة بشيء من ذلك، وكان عروة رجلاً صالحاً قد عاف الدنيا، وانصرف عنه، ولم يرد منها إلا زاداً يقطع عليه الطريق إلى الجنة:

ذكر العتبي أن المسجد الحرام جمع مرة بين عبد الملك أبن مروان وعروة وأخويه عبد الله ومصعب، على عهد معاوية أبن أبي سفيان فقال بعضهم لبعض: هلم فلنمن

فقال عبد الله: منيتي أن أملك الحرمين، وأنال الخلافة وقال مصعب: منيتي أن أملك العراقين، وأجمع بين عقيلتي قريش: سكينة بنت الحسين، وعائشة بنت طلحة

وقال عبد الملك: منيتي أن أخلف الأرض كلها - وأخلف معاوية

فقال عروة: لست في شيء مما أنتم فيه، منيتي الزهد في الدنيا، والفوز بالجنة بالآخرة، وأن أكون ممن يروى عنه هذا العلم

فصرف الدهر من صرفه - إلى أن بلغ كل واحد منهم إلى أمله - فكان عبد الملك يقول: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى عروة؟

(البقية في العدد القادم)

علي الطنطاوي