انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 109/للأدب والتاريخ

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 109/للأدب والتاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 08 - 1935


2 - الرافعي

بقلم تلميذه وصديقه

الأستاذ محمد سعيد العريان

الرافعي الأديب

مضى الرافعي في قرض الشعر، معنياً به، متصرفاً في فنونه، ذاهباً فيه مذاهبه، إلى جانب عنايته بالتأليف والكتابة، وانكبابه على العلم والتحصيل، فوضع في سنة 1911 كتابه (تاريخ آداب العرب)، وحسبك به من كتاب أن يقضي الأستاذ الكبير أحمد لطفي السيد بك أسبوعاً يخطب عنه في مجالس العاصمة وقد كتب عنه الأمير شكيب أرسلان - وهو أشهر كتاب العربية في ذلك الوقت - مقالة في صدر (المؤيد) جاء فيها: (لو كان هذا الكتاب في بيت حرام إخراجه للناس منه، لكان جديراً بأن يحج إليه؛ ولو عكف على غير كتاب الله في نواشئ الأسحار، لكان جديراً بأن يعكف عليه. . .)

وقال عنه المقتطف: (إنه كتاب السنة. . .) وما كتب المقتطف مثل هذه الكلمة من قبل ومن بعد لغير هذا الكتاب

ومن يقرأ كتاب الرافعي (تاريخ آداب العرب) يعرفه عالماً عميق البحث، مرتب الفكر، واسع المعرفة؛ إلى جانب معرفته به شاعراً عربي الديباجة، مشرق المعنى، مشبوب العاطفة؛ على أنه كان يومئذ لم يجاوز الثلاثين. . .

ثم ألف الرافعي (كتاب المساكين) الذي يقول عنه فقيد العربية العلامة أحمد زكي باشا: (لقد جعلت لنا شكسبير كما للإنجليز شكسبير، وجوته كما للألمان جوته، وهوجو كما للفرنسيين هوجو.)

وتألق نجم الرافعي الشاعر العالم الأديب، وبرز اسمه بين عشرات الأسماء من أدباء عصره براقاً تلتمع أضواؤه وترمي أشعتها إلى بعيد؛ على أن هذه المنزلة الكريمة التي نالها الرافعي بين الكتاب إلى جانب منزلته في الشعر - لم تكن غريبة؛ فقد حدثني أديب فاضل كانت له صلة بالعلامة الشيخ إبراهيم اليازجي: أن الرافعي لما طبع الجزء من ديوانه سنة 1903 وأهدى منه نسخة إلى الأستاذ اليازجي - أبطأ في الكتابة عن الديوان؛ فسأله هذا الأديب الفاضل في ذلك الوقت فقال: لقد قرأت مقدمة الديوان فأكبرت أن يكون كاتبها من عصرنا؛ فأنا منذ أسبوعين أبحث عنها في مظانها من كتب العربية، مما أخادع نفسي في قدرة هذا الشيخ على كتابة مثلها. فقال له: إنه ليس بشيخ، بل هو فتى لم يبلغ الثالثة والعشرين. .

وليس عجيباً أن يكون هذا كلام اليازجي، فقد برهن الرافعي من بعد ألف برهان على ذاك. وإنما كتب هذه المقدمة وعني بها حتى جاءت ما جاءت، ليعارض بها مقدمة حافظ لديوانه الذي نشره قبل ذلك بقليل؛ وكان لمقدمة حافظ هذه حديث طويل، حتى نسبها بعضهم يومئذ إلى المويلحي؛ ولكن مقدمة ديوان الرافعي جاءت بعدها تقطع قول كل خطيب؛ واحتفل بها (المؤيد) أيما احتفال فنشرها في صدره، والمؤيد يومئذ جريدة العالم العربي

بين الجديد والقديم:

ثم بدأ الرافعي يميل عن الشعر رويداً رويداً حتى هجره منذ عامين، لم ينظم فيهما غير قصديتين اثنتين نشرتا له في مجلة المقتطف. وإنها لخسارة كبيرة أن ينصرف الرافعي عن الشعر ويترك ميدانه خالياً. . على أنه لم يهجر غير الشعر المنظوم، وهذه كتاباته المنثورة ضرب من الشعر أفسح مدى وأبعد غاية، وإنه لينشئ بها أدباً جديداً في العربية على رغم ما يتهم بالتقليد والمحافظة على القديم؛ بل معانيه كما قال الأستاذ الدكتور منصور فهمي في تقريظه رسائل الأحزان: (إنها من آخر طراز بأني من أوروبا. . .) على أن الرافعي إلى ذلك ليس له حظ من لغةٍ أجنبية، ومعرفته الفرنسية لا تجدي عليه اليوم أكثر مما كانت تجدي عليه يوم كان يتعلمها بالمدرسة وهو غلام!

وللجديد والقديم حديث طويل في تاريخ الرافعي؛ فهو قد وقف نفسه على الدفاع عن الدين والحفاظ على لغة القرآن. ذلك مذهب درج عليه وأعانته عليه نشأته وتربيته؛ وهل يأخذ أحد عليه هذا المذهب أو ينكره؟. . فهو إنما (يحرص على اللغة من جهة الحرص على الدين، إذ لا يزال منهما شيء قائم كالأساس والبناء، لا منفعة فيهما معاً إلا بقيامهما معاً. . .) وإنه بسبيل ذلك ليسأل: ما الجديد وما القديم؟

لو أنهم يعنون بالجديد الابتداع والطرافة بمقدار ما يتطور الفكر، أو الإنشاء والابتكار على مقدار ما ينفعل الزمن في احساسات أهله، أو التنويع والخلق على قياس ما يزيد في المعاني ويستجد من انفعالات النفس - لو أنهم يعنون بالجديد شيئا من ذلك، أو كل شيء من ذلك، لوجدوا الرافعي مجدداً مع المجدين؛ يل لما كان لشيء من هذا أن يسمى جديداً، لأنه حكم الزمن وسنة التطور من قديم. . أما أن يكون التجديد هو ابتداع لغة ليست من اللغة، وإنشاء دين من شهوات النفس لا من وحي السماء، والتزوير على التاريخ القديم باختراع تاريخ من الأحلام - أما أن يكون ذلك كذلك فما هو التجديد، ولكنه التبديد الذي يوشك أن يتبعه الفناء. . .!

في النقد:

هذا هو الرافعي في موقفه من الجديد والقديم؛ وما نحب أن ننتهي منه حتى نعرض لأسلوب الرافعي في النقد؛ فما نعرفه ناقداً عنيفاً إلا حين يتناول الجديد والقديم؛ وإذا نحن تدبرنا ما أسلفت من تلخيص رأيه في الجديد والقديم، ومن مقدار حماسته في الذود عن الدين والعربية - عرفنا لماذا يؤثر الرافعي ذلك الأسلوب العنيف في مهاجمة خصومة والطعن عليهم، إذ هو لا يعتبر حينئذ إلا شيئاً واحداً، هو الدفاع عن الدين وتراث السلف، مؤمناً بأنك (لن تجد ذا دخلة خبيثة لهذا الدين إلا وجدت له مثلها في اللغة. . .) وأنت لا ترى الرافعي مرة يأخذ في أسباب النقد ليدفع كيداً يراد باللغة والدين، إلا كما ترى البدوي الثائر لعرضه، يطرح كل اعتبار من دون هذا الشرف المثلوم؛ فمن ثم يكون في كلامه معنى الدم. . .

على أن الرافعي إلى شدته وعنفوانه، ناقد بصير بأساليب النقد، مم عالج من مختلف فنون الأدب، ووقف على أسرار العربية؛ من ذلك لما كتب المرحوم السيد مصطفى لطفي المنفلوطي مقالته عن الشعراء ونشرها في مجلة (سركيس) سنة 1903، كتب المرحوم حافظ إبراهيم إلى الرافعي يقول: (. . . . قد وكلت أمر تأديبه إليك. . .!)

وقد تعجب أشد العجب أن ترى الرافعي ينسى حين يجرد قلمه للنقد كل اعتبار مما تقوم به الصلات بين الناس؛ ولكنه هو يعتذر من ذلك بقوله: (. . . إنما نعمل على إسقاط فكرة خطرة، إذا هي قامت اليوم بفلان الذي نعرفه، فقد تكون غدا فيمن لا نعرفه؛ ونحن نرد على هذا وعلى هذا برد سواء، لا جهلنا من نجهله يلطف منه، ولا معرفتنا من نعرفه تبالغ فيه. . . فان كان في أسلوبنا من الشدة، أو العنف، أو القول المؤلم، أو التهكم، فما ذلك أردنا، ولكنا كالذي يصف الرجل الضال ليمنع المهتدي أن يضل، فما به زجر الأول، بل عظة الثاني. . .)

وقد خسر الرافعي كثيراً بالأمساك على مذهبه ذاك، ووضع نفسه بحيث تنوشه من كل جانب سهام مسددة، وألب عليه كثيراً من الخصوم؛ ولكنك لن تسمع منه أبدا كلمة الندم، وتراه على تربص دائم لكل (ذي دخلة للدين والعربية. . .) وهو ضرب من التضحية والشجاعة يدعو إلى الإعجاب

وكما ترى هذا الموقف للرافعي من دعاة الجديد في الأدب، ترى له موقفاً قريباً منه من دعاة الجديد في الأخلاق والاجتماع؛ فله آراء في الاختلاط، والحجاب، والتعليم، والحرية، والحب والزواج؛ تراها منبثة في عديد الكتب والمقالات؛ ولكن قليلاً من القراء من يستطيع أن يفهمها بروح مجردة من هوى، ليعرف أي مذهب في الاجتماع يدعو إليه الرافعي؛ وله في هذه المقالات روح رفافة، وشعر ساحر، وحجة قوية؛ وهو فيها من أنصار المرأة عند من يعرف أين يكون انتصار المرأة؛ ولست واجدا أحداً يرد عليه رأيه في ذاك على قلة من تجد من أنصاره؛ وقد جلست مرة إلى أديب كبير ومرب فاضل، نداول الرأي في أدب الرافعي ومذهبه الاجتماعي، فقال لي: (إنك لن تجد أحداً من أنصار الجديد يرضي هذا المذهب، ولكنك لن تجد أحداً - أيضاً - يستطيع أن يصاول الرافعي في ميدانه بمثل حجته وقوة إقناعه. . .)

الرافعي والمرأة:

وإذ تكلمت عن مذهب الرافعي في الاجتماع، فإني أقف قليلاً لأتحدث عن الرافعي والمرأة

وعجيب أن يكون الرافعي صاحب (إعجاز القرآن، وأسرار الإعجاز، والبلاغة النبوية، والإنسانية العليا، وسمو الفقر؛ والمحدث، المفسر، المتصوف، الذي يصف عن عصر النبوة، ومجالس الأئمة، وكأنه يعيش في جوهم وينقل عن حديثهم؛ والذي تتصل روحه فيما يكتب من وراء القرون بروح الغزالي، والحسن البصري، وسعيد بن المسيب، وغيرهم وغيرهم من أئمة السلف - عجيب أن يكون هذا الرافعي هو صاحب (رسائل الأحزان، والسحاب الأحمر، وأوراق الورد، وسمو الحب، واليمامتان، وسحر المرأة، والطائشة، وغيرها وغيرها؛ فيصف عن المرأة والحب، ويتحدث في ذلك حديث الرجل الذي عرف وذاق وجرب، ولبس المرأة ولبسته، واستبدل قلباً بقلب، وتقلب بين مجالس ومجالس، وسمع (لا) بمعنى (نعم)، و (إليك عني) في موضع (اتبعني يا حبيبي)؛ والذي يترجم معنى النظرة والابتسامة وما بعدهما. . .!

وإنك لتراه أحياناً يمزج بين حديث الحب وحديث الدين، ويصل بين وحي السماء ووحي العيون الدعج. . . . فتسأل: أي رجل هو؟

ولقد خالطته زماناً، فإني لأعرفه عرفاني لنفسي، فما وجدته في حاليه إلا الرجل العف الكريم، ولكن له عالماً من وراء هذا العالم، يصل إليه في سبحات فكرية لطيفة، ليستوحيه من معاني المرأة ما لا سبيل إلى معرفته في دنيا الناس. ولو أنك أردت أن تسأله مرة: أي رجل أنت؟ لما جاءك الجواب إلا أنه رجل وحسب. . .!

وتسأل نفسك: هل عرف الرافعي الحب فخف بجناحيه إلى تلك العوالم غير المنظورة ينقل عنها فلسفة الجمال والمرأة والحب. . .؟ فاستمع إليه يقرر: (إن النابغة في الأدب لا يتم تمامه إلا إذا أحب وعشق. . .!) ثم ارجع إلى كتبه الثلاثة: رسائل الأحزان، والسحاب الأحمر، وأوراق الورد؛ لتعرف (إنها كانت عواطف ثارت وقتاً ما، ليحدث منها تاريخ؛ وسكنت بعد ذلك ليحدث منها شعر وكتابة. . .)

ولكن، من تكون تلك الفتانة التي تيمها وتيمته زماناً، (هي بروعتها ودلالها وسحرها، وهو بأحزانه وقوته وفلسفته. . .؟)

ذلك سره هو، أو سرها هي. . .!

وطنيته:

وللرافعي رأي في معنى (الوطن الإسلامي)، والوطنية الإسلامية، تلمحه في كثير مما يكتب، قوامه (أن يظهر المسلم الأول بأخلاقه وفضائله في كل بقعة من الدنيا مكان إنسان هذه البقعة، لا كما نرى اليوم؛ فان كل أرض إسلامية يكاد لا يظهر فيها إلا إنسانها التاريخي بجهله وخرافاته وما ورث من القدم، فهنا المسلم الفرعوني، وفي ناحية المسلم الوثني، وفي بلد المسلم المجوسي، وفي جهة المسلم المعطل. . . وما يريد الإسلام إلا نفس المسلم الإنساني. . .) فلا يمنع أن يكون إلى جانب إحساسه بمعنى (المصرية) إحساس آخر بمعنى (الإسلامية) على أنها الوطن الأكبر، كما لا يمنع الطنطاوي أن يكون إلى جانب حبه (طنطا) حب أعمق يشمل (مصر) كلها؛ فإذا تحدث الرافعي عن الشام، أو العراق، أو بقعة أخرى من الوطن الإسلامي، فما يعني ذلك أنه قد خلع مصريته

والوطن عند الهمجي دار تؤويه، وحقل يغل عليه، وكلما زاد الإنسان في معنى الإنسانية انبسطت له رقعة الوطن، فمن ثم كان الوطن فيما يرى الإنسان المسلم هو كل أرض يخفق فيها لواء الإسلام، وما مصر، والعراق، والشام، والمغرب، وغيرها إلا أجزاء صغيرة من هذا الوطن الإسلامي الأكبر، كالأقاليم من الدولة، والمناطق من الأقاليم، والشوارع من المنطقة، والدور من الشارعن، والغرفتين من الدار، حين يتدابر الأخوان وتدب بينهما الشحناء التي توشك أن تنسيهما أنهما أخوان لأب وأم. . .!

(البقية في العدد القادم)

محمد سعيد العريان