مجلة الرسالة/العدد 109/كلمات عن حافظ
مجلة الرسالة/العدد 109/كلمات عن حافظ
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
ذهبت بقلبي إلى كل مكان فوجدت أمكنة الأشياء ولم أجد مكان قلبي؛ أيها القلب المسكين أين أذهب بك؟
هذا ما أجبت به (حافظ) حين سألني مرةً: ما لك لا ترضى ولا تهدأ ولا تستقر؟ وكان يخيل إلي أنه هو راضٍ مستقر هادئ، كأنما قضى من الحياة نهمته ولم يبق في نفسه ما تقول نفسه ليت ذلك لي. وكنت أعجب لهذا الخلق فيه ولا أدري ما تعليله إلا أن يكون قد خلق مطبوعاً بطابع اليتم فلم يعرف منذ أدرك ألا أنه أبن القدر؛ تأتيه الأفراح والأحزان من يد واحدة مقبلة كما تنال الصبي ألطاف أبيه ولطمات أبيه. . . .
وقد قلت له مرة: كأنك يا حافظ تنام بلا أحلام؛ فضحك وقال. أو كأنني أحلم بغير نوم. . . .
ولقد عرفته منذ سنة 1900 إلى أن لحق بربه في سنة 1932 فما كنت أراه على كل أحواله إلا كاليتيم محكوماً بروح القبر، وفي القبر أوله. ولما أزمع السفر إلى اليونان قلت له: ألا تخشى أن تموت هناك فتموت يونانياً. . . . فقال: أو تراني لم أمت بعد في مصر. . .؟ إن الذي بقي هين
ومن عجائب هذا اليتيم الحزين أنه كان قوي الملكة في فن الضحك، كأن القدر عوضه به ليوجده في الناس عطف الآباء ومحبة الأخوة. ولم يخل مع فقره من ذريعة قوية إلى الجاه، ووسيلة مؤكدة إلى ما هو خير من الغنى؛ فكانت أسبابه إلى الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، ثم حشمت باشا، ثم سعد باشا زغلول؛ وهذا نظام عجيب في زمن (حافظ) يقابل الاختلال العجيب في نفس حافظ؛ فالرجل كالسفينة المتكفئة تميل بها موجة وتعدلها موجة، وهي بهذه وبهذه تمر وتسير
وأولئك الرؤساء العظماء الذين جعلهم القدر نظاماً في زمن حافظ كانوا من أفقر الناس إلى الفكاهة والنادرة، فكان لهم كالثروة في هذا الباب، ووقع إصلاحاً في عيشهم وكانوا إصلاحاً في عيشه؛ ولو إن الأقدار تشبه بالمدارس المختلفة لقلنا إن (حافظ) تخرج منها في مدرسة التجارة العليا. . . . فهو كان أبرع من يتاجر بالنادرة وهذه النوادر كأنها هي أيضاً صنعت (حافظ) في شكل نادرة. فكان فقيراً، ومع هذا كان للمال عنده متمم هو إنفاقه وإخراجه من يده؛ وكان يتيماً، ولكنه دائماً متودد؛ وكان حزيناً، ولكنه أنيس الطلعة؛ وكان بائساً، ولكنه سليم الصدر، وكان في ضيق، ولكنه واسع الخلق؛ وتمام النادرة فيه أنه كان طوال عمره متبسطاً مهتزاً كأن له زمناً وحده غير زمن الناس، فتتراكم عليه الهموم وهو مستنيم إلى الراحة، ويعتريه من الجوع مثل مكسلة الشبع، ويسترسل إلى البطالة وكأنه مشمر للجد، ويستمكن الحزن منه في ساعة فيتهدد حزنه بالساعة التالي. . . .
رأيته في أحد أيام بؤسه الأولى قبل أن يتصل عيشه وكان يعد قروشاً في يده فقلت: ما أمر هذه القروش؟
قال: كنت أقامر الساعة فأضعت ثلاثين قرشاً ولم يبق لي غير هذه القروش الملعونة، فهلم نتعش. ودخل إلى مطعم كان وراء حديقة الأزبكية فزعمت له أني تعشيت. . . فأكل هو ودفع ثمن طعامه ثلاثة قروش. وكنت أطالع في وجهه وهو يأكل، فما أتذكره الآن إلا كما طالعته بعد عشرين سنةً من ذلك التاريخ حين دعاني (حافظ) إلى مطعم بار اللواء وقد فاضت أنامله ذهباً وفضة. وكان رحمه الله قد أصدر الجزء الثاني من (البؤساء) ورآني في القاهرة فأمسك بي حتى قرأت معه الكتاب كله فيما بين الظهر والمغرب؛ وركبنا في الأصيل عربة وخرجنا نتنزه أي خرجنا نقرأ. . .
وكان على وجه (حافظ) لون من الرضى لا يتغير في بؤس ولا نعيم كبياض الأبيض وسواد الأسود. وهذا من عجائب الرجل الذي كان في ذات نفسه فناً من الفوضى الإنسانية حتى لكأنه حلم شعري بدأ من أبويه ثم انقطع وترك لتتممه الطبيعة!
ومن نظر إلى (حافظ) على اعتبار أنه فن من الفوضى الإنسانية رآه جميلاً جمال الأشياء الطبيعية لا جمال الناس؛ ففيه من الصحراء والجبال والصخور والغياض والرياض والبرق والرعد وأشباهها. وكنت أنا أراه بهذه العين فأستجمله، ويبدو لي جزلاً مطهماً، وأرى في شكله هندسةً كهندسة الكون تتم محاسنها بمقابحها. وكم قلت له: إنك يا حافظ أجمل من القفر. . . . . .
أما هو فكان يرى نفسه دميماً شنيع المرآة متفاوت الخلق كأنه إنسان مغلوط في تركيبه. . .
وقد سألته مرة: هل أحب؟
فقال: النساء اثنتان: فأما جميلة تنفر من قبحي، وإما دميمة أنفر من قبحها؛ ولهذا لم يفلح في الغزل والنسيب، ولم يحسن من هذا الباب شيئاً يسمى شيئاً؛ وبقي شاعراً غير تام، فإن المرأة للشاعر كحواء لآدم، هي وحدها التي تعطيه بحبها عالماً جديداً لم يكن فيه. وكل شرها أنها تتخطى به السماوات نازلاً. . .
وتهدم حافظ في أواخر أيامه من أثر المرض والشيخوخة، وكان آخر العهد به أن جاء إلى إدارة (المقتطف) وأنا هناك فلم يرني حتى بادرني بقوله: ماذا ترى في هذا البيت في وصف الأمريكان:
وتخِذتُم مَوْج الأثير بَريداً ... حين خِلتُم أن البرُوق كُسالى
فنظرت إلى وجهه المعروق المتغضن وقلت له: لو كان فيك موضع قبلة لقبلتك لهذا البيت؛ فضحك وأدار لي خده؛ ولكن بقى خده بلا تقبيل. . .
وشهرة هذا الأديب العظيم بنوادره، ومحفوظاته من هذا الفن أمر مجمع عليه؛ وكان يتقصص النوادر والفكاهات ومطارحات السمر من مظانها في الكتب ورجال الأدب وأهل المجون، فإذا قصها على من يجالسه زاد في أسلوبها أسلوبه هو، وجعل يقلبها ويتصرف فيها ويبين عنها أحسن الإبانة بمنطقه ووجهه ونبرات في لسان ونبرات في يده
وهو أصمعي هذا الباب خاصة، يروي منه رواية عريضة، فإذا استهل سح بالنوادر سحاً كأنها قوافي قصيدة تدعو الواحدة منها أختها التي بعدها
وقد أذكرتني (القوافي) مجلساً حضرته قديماً في سنة 1901 أو 1900 وكان (مصباح الشرق) قد نشر قصيدة رائية لأبن الرومي، فتعجب المرحوم الشيخ محمد المهدي من بسطة أبن الرومي في قوافيه، فقال له (حافظ) هلم نتساجل في هذا الوزن حتى ينقطع أحدنا. وكانت القافية من وزن: قدرها، أحمرها، أخضرها الخ، وجعلت أنا أحصي عليهما؛ فلما ضاق الكلام كان الشيخ المهدي يفكر طويلاً ثم ينطق باللفظ ولا يكاد يفعل حتى يرميه حافظ على البديهة، فيعود الرجل إلى الإطراق والتفكير؛ ثم انقطع أخيراً وبقي حافظ يسرد له من حفظه الغريب
أما في لنوادر فالعجيبة التي اتفقت له في هذا الباب أنه جاء إلى طنطا في سنة 1912 ومديرها يومئذ المرحوم (محمد محب باشا) وكان داهية ذكياً وظريفاً لبقاً، وكنت أخالطه وأتصل به، فدعا (حافظ) إلى العشاء في داره؛ فلما مدت الأيدي قال الباشا: لي عليك شرط يا حافظ. قال وما هو؟ قال: كل لقمة بنادرة
فتهلل حافظ وقال: نعم لك علي ذلك. ثم أخذ يقص ويأكل، والعشاء حافل، وحافظ كان نهماً فما انقطع ولا أخل حتى وفى بالشرط. وهذا لا يمنع أن الباشا كان يتغافل ويتغاضى ويتشاغل بالضحك فيسرع حافظ ويغالط بفمه. . . .
ولكن هذه المضحكات أضحكت من (حافظ) مرة كما أضحكت به. فلما كان يترجم (مكبث) لشكسبير - وهي كأعماله الناقصة دائما - دعوه لإلقاء (محاضرة) في نادي المدارس العليا، والنادي يومئذ يجمع خير الشباب حميةً وعلماً، وكان صاحب السر فيه (السكرتير) زينة شباب الوطنية المرحوم أمين بك الرافعي. فقام حافظ فأنشدهم بعض ما ترجمه نظما عن شكسبير ومثله تمثيلاً أفرغ فيه جهده فأطرب وأعجب. ثم سألوه (المحاضرة) فأخذ يلقي عليهم من نوادره. وبدأ كلامه بهذه النادرة: عرضت على المعتصم جارية يشتريها، فسألها: أنت بكر أم ثيب؟ فقالت: كثرت الفتوح على عهد المعتصم. . .
ونظر حافظ إلى وجوه القوم فأنكرها. . . وبقيت هذه الوجوه إلى آخر المحاضرة كأنها تقول له: إنك لم تفلح
ولقد كان هذا من أقوى الأسباب في تنبه (حافظ) إلى ما يجب للشباب عليه إن أراد أن يكون شاعره، فأقبل على القصائد السياسية التي كسبهم بها من بعد. ونادرة المعتصم كالعورة المكشوفة؛ ولست أدري أكان حافظ يعرف النادرة البديعة الأخرى أم لا. فقد عرضت جارية أديبة ظريفة على الرشيد فسألها: أنت بكر أم إيش؟
فقالت: أنا (أم إيش) يا أمير المؤمنين. . .
وفن (الشعر الاجتماعي الذي عرف به حافظ؛ لم يكن فنه من قبل ولا كان هو قد تنبه له أو تحراه في طريقته. فلما جاءت إلى مصر الإمبراطورة (أوجيني) نظم قصيدته النونية التي يقول فيها:
فاعذرينا على القصور كلانا ... غيرته طوارئ الحدثان
ولقيته بعدها فسألني رأيي في هذه القصيدة، وكان بها مدلاً معجباً شأنه في كل شعره؛ فانتقدت منها أشياء في ألفاظها ومعانيها وأشرت إلى الطريقة التي كان يحسن أن تخاطب بها الإمبراطورة. فكأنني أغضبته؛ فقال: إن الشيخ محمد عبده، وسعد زغلول، وقاسم أمين، أجمعوا على أن هذا النمط هو خير الشعر، وقالوا لي: إذا نظمت فانظم مثل هذا (الشعر الاجتماعي)، ثم كأنه تنبه إلى أنها طريقة يستطيع أن ينفرد بها فقال: إن كل قصائد شوقي الآن غزل ومدح، ولا أثر فيها لهذا الشعر، على أنه هو الشعر
وتتابعت قصائده الاجتماعية، فلقيني بعدها مرة أخرى فقال لي: إن الشاعر الذي لا ينظم في الاجتماعيات ليس عندي بشاعر. وأردت أن أغيظه فقلت له: وما هي الاجتماعيات إلا جعل مقالات الصحف قصائد. . .؟
فالأستاذ الإمام وسعد زغلول وقاسم أمين: أحد هؤلاء أو جميعهم أصل هذا المذهب الذي ذهب إليه حافظ. وهو كثيراً ما كان يقتبس من الأفكار التي تعرض في مجلس الشيخ محمد عبده من حديثه أو حديث غيره فيبني عليها أو يدخلها في شعره. وهو أحياناً رديء الأخذ جداً حين يكون المعنى فلسفيا إذ كانت ملكة الفلسفة فيه كالمعطلة، وإنما هي في الشاعر من ملكة الحب، وإنما أولها وأصلها دخول المرأة في عالم الكلام بإبهامها وثرثرتها. . .
وكنت أول عهدي بالشعر نظمت قصيدة مدحت فيها الأستاذ الإمام وأنفذتها إليه، ثم قابلت حافظ بعدها فقال لي إنه هو تلاها على الإمام، وإنه استحسنها. قلت: فماذا كانت كلمته فيها؟ قال: إنه قال: لا بأس بها. . .
فاضطرب شيطاني من الغضب، وقلت له: إن الشيخ ليس بشاعر، فليس لرأيه في الشعر كبير معنى. قال: ويحك إن هذا مبلغ الاستحسان عنده
قلت: وماذا يقول لك أنت حين تنشده؟ قال: أعلى من ذلك قليلاً. . . فأرضاني والله أن يكون بيني وبين حافظ (قليل)، وطمعت من يومئذ
وأنا أرى أن (حافظ إبراهيم) إن هو إلا ديوان (الشيخ محمد عبده)، لولا أن هذا هذا، لما كان ذلك ذلك
ومن أثر الشيخ في حافظ أنه كان دائماً في حاجة إلى من يسمعه، فكان إذا عمل أبياتاً ركب إلى إسماعيل باشا صبري في القصر العيني، وطاف على القهوات والأندية يسمع الناس بالقوة. . . إذ كانت أذن الإمام هي التي ربت الملكة فيه، وقد بينا في مقالنا في (المقتطف) وكان تمام الشعر الحافظي أن ينشده حافظ نفسه؛ وما سمعت في الإنشاد أعرب عربية من البارودي، ولا أعذب عذوبة من الكاظمي، ولا أفخم فخامة من حافظ؛ رحمهم الله جميعاً
وكان لأديبنا يجل البارودي إجلالاً عظيما، ولما قال في مدحه:
فمُرْ كلَّ معنى فارسيّ بطاعتي ... وكلَّ نَفور منه أن يتودَّدا
قلت له: ما معنى هذا؟ وكيف يأمر البارودي كل معنى فارسي وما هو بفارسي؟
قال: إنه يعرف الفارسية، وقد نظم فيها، وعنده مجموعة جمع فيها كل المعاني الفارسية البديعة التي وقف عليها. قلت: فكان الوجه أن تقول: أعرني المجموعة التي عندك. . .
أما الكاظمي فكان حافظ يجافيه ويباعده، حتى قال لي مرة وقد ذكرته به: (عققناه يا مصطفى!)
وما أنس لا أنس فرح حافظ حين أعلمته أن الكاظمي يحفظ قصيدة من قصائده. وذلك أنهم في سنة 1901 - على ما أذكر - أعلنوا عن جوائز يمنحونها من يجيد في مدح الخديو، وجعلوا الحكم في ذلك إلى البارودي وصبري والكاظمي. ثم تخلى البارودي وصبري، وحكم الكاظمي وحده، فنال حافظ المدالية الذهبية ونال مثلها السيد توفيق البكري
ولما زرت الكاظمي وكنت يومئذ مبتدئاً في الشعر ولا أزال في الغرزمة قال: لماذا لم تدخل في هذه المباراة؟ قلت: وأين أنا من شوقي وحافظ وفلان وفلان؟ فقال: (ليه تخلي همتك ضعيفة؟) ثم أسمعني قصيدة حافظ وكان معجباً بها، فنقلت ذلك إلى حافظ فكاد يطير عن كرسيه في القهوة
وكان تعنت حافظ على الكاظمي لأنه غير مصري. ففي سنة 1903 كانت تصدر في القاهرة مجلة اسمها (الثريا) فظهر في أحد أعدادها مقال عن الشعراء بهذا التوقيع (*). وانفجر هذا المقال انفجار البركان، وقام به الشعراء وقعدوا، وكان له في الغارة عليهم كزفيف الجيش وقعقة السلاح، وتناولته الصحف اليومية، واستمرت رجفته الأدبية نحو الشهر؛ وانتهى إلى الخديو، وتكلم عنه الأستاذ الإمام في مجلسه، واجتمع له جماعة من كبار أساتذة العصر السوريين كالعلامة سليمان البستاني، وأديب عصره الشيخ إبراهيم اليازجي، والمؤرخ الكبير جورجي زيدان - إذ كان صاحب المجلة سورياً - وجعلوا ينفذون إلى صاحب المجلة دسيساً بعد دسيس ليعلموا من هو كاتب المقال وشاع يومئذ أني أنا الكاتب له؛ وكان الكاظمي على رأس الشعراء فيه، فغضب حافظ لذلك غضباً شديداً، وما كاد يراني في القاهرة حتى ابتدرني بقوله: ورب الكعبة أنت كاتب المقال؛ وذمة الإسلام أنت صاحبه
ثم دخلنا إلى (قهوة الشيشة) فقال في كلامه: إن الذي يغيظني أن يأتي كاتب المقال بشاعر من غير مصر فيضعه على رءوسنا نحن المصريين. فقلت: ولعل هذا قد غاظك بقدر ما سرك ألا يكون على رأسك هو شوقي. . .
وغضب السيد توفيق البكري غضباً من نوع آخر، فاستعان بالمرحوم السيد مصطفى المنفلوطي استعانة ذهبية. . . . وشمر المنفلوطي فكتب مقالا في (مجلة سركيس) يعارض به مقال (الثريا)، وجعل فيه البكري على رأس الشعراء. . . ومدحه مدحا يرن رنيناً
أما أنا فتناولني بما استطاع من الذم وجردني من الألفاظ والمعاني جميعاً، وعدني في الشعراء ليقول إني لست بشاعر. . . فكان هذا رد نفسه على نفسه
وتعلق مقال المنفلوطي على المقال الأول فاشتهر به لا بالمنفلوطي؛ وغضب حافظ مرة ثانية، فكتب إلي كتاباً يذكر فيه تعسف هذا الكاتب وتحامله، ويقول قد وكلت إليك أمر تأديبه
فكتبت مقالاً في جريدة (المنبر) وكان يصدرها الأستاذان محمد مسعود وحافظ عوض، ووضعت كلمة المنفلوطي التي ذمني بها في صدر مقالي أفاخر بها. . . وقلت: إني كذلك الفيلسوف الذي أرادوه أن يشفع إلى ملكه فأكب على قدم الملك حتى شفّعه؛ فلما عابوه بأنه أذل حرمة الفلسفة بانحنائه على قدم الملك وسجوده له، قال: ويحكم، فكيف أصنع إذا كان الملك قد جعل أذنيه في رجليه. . . . . .
ولم يكن مضى لي في معالجة الشعر غير سنتين، حين ظهر مقال (الثريا)، ومع ذلك أصبح كل شاعر يريد أن يعرف رأيي فيه؛ فمررت ذات يوم (بحافظ) وهو في جماعة لا أعرفهم، فلما اطمأن بي المجلس قال حافظ: ما رأيك في شعر اليازجي؟ فأجبته؛ قال: فالبستاني، فنجيب الحداد، ففلان، ففلان؛ فداود بك عمون؟ قلت: هذا لم أقرأ له إلا قليلاً لا يسوغ معه الحكم على شعره. قال: فماذا قرأت له؟ قلت: رده على قصيدتك إليه: شجتنا مطالع أقمارها. قال فما رأيك في قصيدته هذه؟ قلت: هي من الشعر الوسط الذي لا يعلو ولا ينزل فما راعني إلا رجل في المجلس يقول: أنصفت والله! فقال حافظ: أقدم لك داود بك عمون. . . . . . رحم الله تلك الأيام
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي