مجلة الرسالة/العدد 109/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
مجلة الرسالة/العدد 109/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
16 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
فرديدريك نيتشه
للأستاذ خليل هنداوي
غزوات نيتشه
الغزوة الأولى
حمل نيتشه في الغزوة الأولى على الكاتب الألماني (دافيد ستراوس) وعلى كتابه الذي أخرجه في درس الدين والمدينة، والإيمان قديمه وحديثه. وقد يحتدم في نقده للجزء الثاني من الكتاب حيث يعلن (ستراوس) المثل الأعلى الذي يجده خير ما وجده لأبناء الأجيال القادمة. ونيتشه يصب سوط نقده على الرجل الذي لم يعل ولم يسفل، بل وقف وسطاً قانعاً بما آل إليه، يأخذ من كل علم بحزمة، ويقنع من كل فن بضمة، ويعتقد بأنه بلغ الدرجة القصوى من الكمال الإنساني
لا يؤمن (ستراوس) بجنة المسيح، ولا يرتاح لوجود الله، وإنما يعمل على أن يوحي إلى أنصاره أن العالم ما هو إلا رحى ميكانيكية لا تهدأ عن دورانها، وما على الإنسان إلا أن يسلم من الوقوع تحت ثفالها. وهو في الأخلاق كذلك، فلا يبشر بمذهب خطر، ولا يجرؤ على أن يطلب إلى الفرد أن يستخدم مواهبه وأن يكون كما تريد نفسه في الوجود. وإنما يقول هذه الجملة بعد تثبته من اختلاف الناس في حظوظهم ومواهبهم، (لا تنس أبداً أيها الإنسان أن الآخرين هم أناس مثلك، لهم نفس حاجاتك وذات مآربك)
يحسب كل ما تجاوز حد الفهم الوسط قبيحاً، لأن العبقرية تتجلى في التوسط لا في التطرف. فالنشيد التاسع (لبتهوفن) لا يقع موقع الرضا إلا عند من يرون الغريب عبقرية، والخروج عن المألوف والوزن سمواً. وقد ظن بنفسه أنه قهر (شوبنهاور) ببرهانه الركيك الذي رآه (إذا كان الوجود قبيحاً، فالعقل الذي أوجده هو قبيح أيضاً، فالمتشائم إذن هو مفكر قبيح، والوجود هو حسن وجميل!. . .)
إن ستراوس في نظر نيتشه هو مثال العقل المتوسط الذي يدعى معرفة كل شيء، ويريد بفرض سلطته على الوجود. هو مفكر هياب لا يبلغ بفكره إلا منتصف الطريق، ولا يستطيع أن يقصد نهايته. إنه متفائل يغلق عينيه عن الآلام الضرورية للبشر خوفاً ورهبة. وهو مفكر يدعوا الناس إلى حياة قانعة خانعة، وبدلاً من أن يكرم رجال العبقرية يعمل على معاكستهم لأنهم - بزعمه - خالفوا نظامه ومثله الأعلى باختراقهم حدود النبوغ المتوسط
الغزوة الثانية:
وتصدى نيتشه في تأملاته الثانية للتاريخ، وهو لا يجابه رجلاً معلوماً أو طائفة مشهورة، وإنما ينازل مذهباً حديثاً يهم بأن يشيع ويطبع الحضارة العصرية بطابعه، فالتاريخ هو خير راع للحضارة وناقل لها ما ظل يعمل على خدمة الحياة، وبحث الناس على نشدان الحياة السامية، فالتاريخ الموقوف على نشر المآثر يمثل للإنسان آثار الأقدمين الرائعة ويبعث في روحه الأمل الملتهب والعزم المتأجج لإكمال معنى هذه الآثار، ويعمل على رفع مثل الإنسانية الأعلى ناقضاً من قلبه التلهي بحب الحاضر والاستسلام لملذاته. أما التاريخ التقليدي الذي يوحي للإنسان احترام الأشياء الفانية، وحب الآثار الماضية، فهو خير حقير يحمل أصحابه على الرضا بالحاضر الممقوت، يسكرهم بذلك الماضي الذهبي البعيد ويسكب في وجودهم القاتم المستكين مخدراً شعرياً يبعثهم على الركود. وهنالك التاريخ الناقد المحاكم، يعرض الماضي كله على محكمة العقل ويبحث فيه ثم ينفيه، لأن كل ما كان من حقه أن يزول. - إن مثل هذا التاريخ هو سلاح محمود عند من أثقلت ظهورهم أعباء الماضي الثقيل، وهم يريدون أن يطرحوها عنهم ويمشوا قدماً إلى ما خطت لهم الحياة
ولقد يستحيل التاريخ إلى قوة غاشمة سيئة حين ينفصل في طريقه عن الحياة، وحين يود أن يفرض مذهباً خاصاً بعيداً عن مذاهبها، إنه يصبح رسول موت لا رسول حياة. ينشئ من الإنسان مجموعة محشوة علوماً ومعارف. ويقتل فيه القوة التي تسوقه إلى العمل. . . إنه مجموعة أثرية لاحظ فيها لسطر من سطور العمل. صاحبها ضعفت شخصيته، ونشأ في تفكيره عالة على غيره، وتعلم أن التاريخ يجب أن يتلقنه تلقيناً، وألا يضعه بنفسه. على أن المؤرخ الحقيقي الذي ينبغي لمثله أن يسطر التاريخ هو من يقف تجاه المسألة التي يدرسها وقفة الخلي، ويعمل دائباً على تشييد بناية الحاضر. رجل التجارب والسمو هو الذي يسطر التاريخ وللتاريخ وجهة ثانية رائعة يستخلصها نيتشه: هي أن التاريخ يكرم من التفاؤل ما كان محفوفاً بالكدر والخطر. ويحترم الميول الفظة ويعبد الظفر. يعتقد المؤرخ أنه يرى في الحركة الإنسانية أثراً لا أعلم من أي سام منحدره. يجهد العقل ليدرك أنى بدأت هذه الحركة وأين يجب أن تنتهي؟ والإنسان لم يكن عظيماً إلا حين كان يشن الغارة على القدر ويعلن الحرب على القضاء الأهوج، ولكنه يفعل ذلك دون أن يخرج من نفسه
ليس التاريخ الحقيقي بذلك التاريخ الذي يأتي على كل شيء وإنما هو تاريخ أبناء العبقرية، وسيأتي عصر تتبدل فيه صورة هذه الحركات التي ألف التاريخ تسجيلها. وسترسم هذه الصورة بصورة أدنى إلى الحقيقة، فلا يكتب التاريخ بعمومه وخصوصه، وإنما يقصر فيه على رجال العبقرية الذين أثروا في العالم؛ هم لا يأتون ويتعاقبون حسب شريعة تاريخية، ولكنهم يعيشون وراء الزمن! يمثل وجودهم المتصل المتماسك معبراً ترابطت أجزاؤه واستمكنت عقده فوق الأمواج العاصفة. ولنعمم هذا التاريخ الذي يرسم هذه الصورة ويخرج هذا المثل! وهذه هي جمهورية العباقرة التي تحدث عنها (شوبنهاور). عبقري ينادي عبقرياً في أثناء العصور وأهضام الأجيال. ووظيفة التاريخ أن يجمع شتاتهم، ويدني بعضهم من بعض، وأن يهيئ - في كل مهلة - ولادة جديدة لعبقري جديد. إذ ليست غاية الإنسانية من سيرها ذلك الغرض الذي تزحف إليه وإنما غايتها تتمثل في النماذج الكاملة التي تخرجها وتنشئها في الوجود
الغزوة الثالثة:
ولم يقف الأمر عند تهديم العمارة القديمة وتعاليمها المخطرة. فهو يقصد إلى تشييد عمارة المستقبل على دعائم جديدة، فتحرى عن عباقرة أحياء يستطيعون أن يذهبوا بالشباب إلى هذه العمارة وإلى هدف جديد، ينزع عنهم هذا التفاؤل المخدر ويعرضهم أمام أنفسهم مجردين، وسعى إلى أن يرى له معلمين يساعدونه على كشف نفسه ويعرفونه بنفسه؛ من أين نشأت وإلى أين تذهب؟
وقع - أو شاءت المصادفات - أن يقع نيتشه مصادفة على كتاب شوبنهاور (العالم إرادة وتمثيل) وما كان نيتشه ليقدر أن هذا الكتاب سيقلب كل أطوار حياته، ويترك ثورة مستعرة في نفسه، ثم تشتعل هذه الثورة وتزيدها الأيام ضراماً، فلا تهدأ إلا بعد أن تأكل نفسها، وتمد ألسنة شواظها إلى نفسها فتهدأ الثورة بثورتها على ذاتها. . . فكان أول ما شغله من هذا الكتاب الجديد شخصية صاحبه المتجلية في كل حرف من حروفه؛ وهو الذي يقول: (أنا من قراء شوبنهاور، ممن يدركون أنهم سيتلون شوبنهاور من فاتحته إلى خاتمته، وسيصغون إلى كل حرف تهمسه شفتاه. إن ثقتي به ثقة عمياء ما زادها كر الأيام إلى ثباتاً)
(يتبع)
خليل هنداوي