انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 107/ما يحنو به قانون العقوبات الألماني الجديد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 107/ما يحنو به قانون العقوبات الألماني الجديد

مجلة الرسالة - العدد 107
ما يحنو به قانون العقوبات الألماني الجديد
ملاحظات: بتاريخ: 22 - 07 - 1935



نظريات جديدة

في فهم العقوبة والمجتمع

كانت الحكومة الألمانية قد انتدبت منذ حين لجنة من كبار المشترعين (الهتلريين) لبحث مبادئ العقوبة الجنائية التي يجب أن تتمشى مع مبادي الثورة الاشتراكية الوطنية ومبادي حزب (النازي)؛ وفي الأنباء الأخيرة أن التعديلات الجديدة لقانون العقوبات الألماني قد صدرت متضمنة لمبادي جديدة عجيبة في تعريف الجريمة وتحديد معنى العقوبة الجنائية لم يسمع بها من قبل في أي بلد متمدين. وقد قرأنا في هذا الموضوع مقالاً قيماً لكاتب فرنسي كبير، فرأينا أن نترجمه لقراء (الرسالة) فيما يلي:

يقول زعماء الإمبراطورية الألمانية الثالثة (الزعماء الهتلريون) إن قانون العقوبات هو (مرآة صادقة للروح القومي).

ونحن في فرنسا نتأثر منذ قرون بالقانون الروماني القديم الذي اشتقت منه ثورة سنة 1789 (الثورة الفرنسية) مبادئه الجوهرية، ولكن الهتلريين يرفضون هذه المبادئ باشمئزاز، ويقولون ما معنى هذا الإجلال الخالد لقصاصة من الورق؟ إن التعلق بحرفية النصوص ينم عن ذهنية متأخرة وضيعة. والقانون يقوم على حقيقة حية هي (ضمير الشعب)، ولا غاية لقانون العقوبات إلا أن يحمي هذا الضمير.

ونحن في بلادنا ذات المبدأ الإنفرادي، نقدس ذلك المبدأ الأساسي العظيم: (لا عقوبة بغير نص) ولكن المشترعين الألمان الجدد يقولون: إنه لا يوجد قانون في العالم يمكن أن يتحوط بنصوصه العقابية لكل الأعمال البشرية الممكنة، وإذن يجب على قضاتنا أن يعاقبوا أيضاً على الأعمال التي لم ترد في القانون (متى كانت تثير الرأي السليم المتزن للمجتمع) وكذلك نبذ المشترعون النازيون مبدأ أساسياً آخر هو (عدم رجعية القوانين) (أو عدم سريانها على الماضي)، وعلى هذا فإن محكمة لايبزج العليا قد حكمت بالإعدام على فان درلوبي مع أنه في الوقت الذي وقع فيه حريق الريخستاج لم يكن القانون يعاقب على هذه الجريمة إلا بالأشغال الشاقة. وإذا كنا نحن نرى من المثير أن نطبق على المجرم قانوناً كان يستحيل عليه أن يعرفه، فإن المشترع الألماني يقول إنه يجب عليه (أي المجرم) يعرف إلى أي حد يمكن أن يثير بعمله السخط العام.

ونحن من جانبنا يصعب علينا أن نعترف بقانون عقوبات لا يعترف (بالحريات الفردية)، فإنه إذا عدمت هذه الحريات أضحى المشترع حكماً متعسفاً لا غير. وهذا ما حدا برجل مثل رامون فرنانديز أن يقول إن صوغ القانون الشيوعي الجديد، والقانون الفاشستي الجديد (لا يتميز فقط بسحق القانون القديم، وإنما يتميز بسحق الحقوق جميعاً)؛ بيد أنه يجب أن نعترف على رغم إشمئزازنا بأن الهتلريين يقومون بتحويل الحقوق. ذلك أن الشعب هو الذي يرفعونه فوق كل شيء؛ والشعب، لا الفرد، هو الذي يريدون حمايته بادئ ذي بدء؛ وهو تحويل في القيمة يتمشى مع استبدال المبادي الحرة القديمة (بمجتمع دولة عام).

ومن مبادئنا أننا نريد أن تحدث القوانين والظروف دائماً أثرها لصالح الفرد، فإذا عدل قانون، فإننا نطبق عليه أخف النصوص؛ فإذا تطرق الشك إلى ذهن القاضي وجب عليه أن يحكم بالبراءة؛ وكل متهم يعتبر بريئاً حتى يفصل في قضيته، وهذه كلها مبادئ يمقتها الهتلريون.

فهم يصيحون: أليس فظيعاً أن نضع المجرم في ذروة قانون العقوبات؟ وأن نعكف بشغف على درس نفسيته باسم الدفاع عنه؟ لقد انحدر علماء الجنائيات في الأمم الديمقراطية إلى هذا الدرك، أعني إلى درك (الحق الزائف) أو (الحق المعدوم).

والواقع إن ميولنا الفردية تجنح إلى التساهل مع المجرم؛ فمتى حللنا البواعث التي دفعت المجرم إلى ارتكاب جرمه، فقد فهمناها، وعندئذ نعطف على المجرم عطف الإنسان على الإنسان، بل لقد انتهى مشترعونا الجنائيون شيئاً فشيئاً لا إلى تحديد العقوبة، ولكن إلا حب الإصلاح.

وهذه حالة ذهنية لا يسيغها مشرعو الإمبراطورية الألمانية الثالثة؛ فهم يرفضون، لا أن يحكم على بريء - ولكن أن يفلت مجرم من العقاب. وإذا القضاء لم يقدم ترضية كافية لسخط الشعب العادل حينما يطالب بالعقوبة، فإن النظام الاجتماعي يغدو في خطر، وتسري إلى الشعب عوامل الهياج العام.

ومن خواص هذه النظرية تقرير صنوف المشبوهين. وإذا كان القاضي يمثل الشعب حقاً، فإنه في زعم أولئك المشترعين لا يمكن أن يرتكب خطأ قضائياً، ويكفيه دون أن يفتح القانون أو يرجع إلى ضميره الشخصي، أن يستشير ضمير الشعب، والشعب معصوم لا يخطئ، وهو يكاد يتكهن، وعواطفه هي التعبير عن العدالة ذاتها.

ويقرر قانون العقوبات الاشتراكي الوطني أنه يمكن معاقبة مجرم لم يتمم جريمته، ولكن (أراد أن يرتكبها). وفي رأيه أن الجريمة ليست هي عمل القتل في ذاته بل هي (اعتزام القتل) ونحن في فرنسا نعاقب على (الشروع) في بعض الأحوال؛ فلا يعاقب مثلاً ذلك الذي يجس جيب إنسان من الخارج بنية سرقته، ولكنه يقع تحت طائلة القانون إذا حاول أن يدخل يده في ذلك الجيب. فهذه الفروق القضائية الدقيقة يخشاها المشترع الألماني أيما خشية؛ ولهذا يتخذ الرأي المناقض ويرى أن يضع تحت نظرية (العزم المهدد) أقل حركة تمازجها الشبهة.

وهكذا نرى أن قانون العقوبات الألماني الجديد وكذلك الإجراءات الجنائية قد بسطت كل التبسيط. وقد ألغيت (الظروف المخففة) ولم يعترف (بسبق الإصرار) بحيث أضحت جريمة الهوى والجريمة التي دبرت طويلاً سواء في العقوبة، ذلك أن المجموع يجب أن ينتقم بسرعة وبلا هوادة من أولئك الذين يعكرون صفوه؛ وللقاضي أن يوقع عقوبات تبعية بعد تنفيذ العقوبة الأصلية مثل الجلد والصوم الجبري، ومصادرة الملك؛ وهكذا يراد أن يدفع الجانح الذهن إلى مرتبة إنسان منحط من الوجهة الجسمية والعقلية.

وقد ذهب المشترعون النازيون إلى حد اعتناق الروح الإسبارطي؛ فالدولة لها الحق (أن تقضي بصفة إدارية بالموت على بعض الأفراد الذين ليست لهم قيمة جوهرية) فرجل مثل بيرون (لورد بيرون شاعر الإنكليز) يمكن أن يلقي في الماء منذ مولده؛ ورجل مثل هلدرلن الشاعر الهائم يمكن أن يعدم؛ ويصرح قانون العقوبات الجديد للطبيب بأن يعدم المريض الذي لا يرجى برؤه متى طلب إليه ذلك. وبعكس ذلك فإنه لما كان الفرد السليم مديناً بحياته للمجتمع، يعتبر الانتحار جريمة، ويعاقب الشركاء في محاولته. ثم إنه لما كان الشرف أثمن من الحياة، فإن القانون يعترف بإجراء المبارزة بين المتخاصمين.

ويكشف لنا المشترعون الهتلريون عن غايتهم النهائية فيما يأتي: ليس المجتمع هو الذي يكون غاية في ذاته، ولكنه الجنس أو الأمة؛ والعمل لعظمتها يجب أن يكون هو غاية الحياة لكل فرد.

إن النزعة الفردية وحدها هي التي تدفع الفرد إلى حب الإنسانية. ولكن الهتلريين باعتمادهم على القيم الاجتماعية، يجنحون إلى أهم عناصرها، أعني (القومية).

وعلى هذا فإن قانون العقوبات عندهم يقرر صنوفاً جديدة للجرائم؛ فمثلاً يعتبر (خائناً للوطن) من يجرج الاشتراكيين الوطنيين في عزتهم، أو يهزأ بإحتفالاتهم، أو يسخر من أغنيتهم، أو من ينوه بأعمالهم الهمجية؛ وكذلك من يتنقص من أقدار الأبطال الماضين، أو من يهين المحاربين القدماء. وهكذا نقلت الحماية الشرعية لشخص الإنسان إلى حماية الحزبوإلى حماية الأمة.

ثم إن الأمة عندهم تقوم على الجنس، ويجب أن يحتفظ الدم الشمالي القديم بنقائه وتفوقه. وعلى هذا فإنه ترتكب جريمة (خيانة الجنس) كلما امتزج الألماني (أو الألمانية) باليهود أو بالأجناس الملونة، أو إذا امتزج علناً بزنجي وجرح بذلك (العاطفة الجنسية) لأمته. ويعاقب الزنجي بعقاب أشد لاعتباره إنساناً منحطاً.

ونحن نعرف أن الهتلريين أصدروا في العام الماضي قانوناً للتجارة ينظم العلائق بين العمال وبين أصحاب الأعمال على أسس جديدة. وقانون العقوبات الجديد يتأثر بهذه الأسس؛ إذ المقصود أن ترتب بين المخدوم والعامل نفس العلائق التي كانت سائدة في العصور الوسطى بين السادة والأتباع. فالعامل يجب عليه الطاعة والإخلاص، ولا يستطيع بعد أن يتولى الدفاع عن نفسه بنفسه، بل يعتبر واقعاً تحت حماية المسيد، وعلى السيد أن يقوم بحماية مصالحه المادية والأدبية. صحيح أن قوانين العمل الاشتراكية (مثل قانون الثماني ساعات، وقانون التأمينات وغيرهما) لم تلغ، وصحيح إنها ما زالت تطبق، ولكن لا لحماية حقوق العامل، بل من وجهة اجتماعية مشتركة لأن القضاء على النزعات المتمردة يؤكد تعاون العمل ورأس المال.

فهل يعني ذلك كله إن حماية الفرد قد ألغيت بتاتاً؟ كلا؛ ولكن قانون العقوبات لا يهتم بشأن الفرد إلا باعتباره عضواً في

الجماعة، وعلى هذا فإن الملكية الفردية لا تجب حمايتها إلا بقدر ما يبديه المالك من السداد في إدارتها بحيث تعاون في تحقيق الخير العام. وفي القانون الفرنسي ما زالت تعرف الملكية بالتعريف الروماني القديم؛ فهي الحق في أن تتمتع بشيء وأن تستعمله أو تسيء استعماله؛ والواقع أن هذا الحق قد قيد فيالعصر الأخير بقيود مازالت في ازدياد. ولكن الهتلريين يرون إلغاء المبدأ ذاته؛ فالملكية الفردية لا يعترف بها، وإنما يعترف بوضع اليد على الأملاك، بشرط إلا يتصرف الفرد فيها إلا في صالح الدولة.

وكذلك الأسرة تحميها نفس المبادئ العامة؛ فإنه يحظر على كل فرد (أن يتلف أو ينقص كفايته لإنتاج النسل).

وقد ذهب الهتلريون بعيداً في تحديد واجب الفرد نحو الأمة، فقرروا أن التضامن إجباري.

تلك هي الأسس الجديدة لهذا التشريع الهائل؛ وقد اتبع المشترعون الألمان إجراءات محاكم التحقيق (التفتيش) لكي يصلوا إلى غايتهم بأية وسيلة، وهي تحقيق خير الجماعة القومية وسيادتها، فجعلوا من القاضي شخصية مطلقة السلطة، وجعلوه مشرفاً دائماً على أخلاق الفرد، فمن يحاول غير الزعماء أن يميز نفسه من المجموع، كان عرضة للقبض والعقاب.

وإذا كان في هذه المبادئ ما يروع، فذلك لأننا منذ عصر الأحياء، ومنذ عصر الثورة الفرنسية بنوع خاص، قد شهدنا القوى الفردية تنمو وتتسع إلى أعظم حد، ولم يفعل الإصلاح الاشتراكي في عصرنا شيئاً لوقفها. واليوم وقد انتهت الفردية إلى هذا الإفراط، فإن الرجعة التي كانت تبدو مستحيلة بالأمس تصبح اليوم محتومة. ذلك أن الحرب، والأزمة الاقتصادية، وروح الأثرة المتسلطة على المنتجين، وكبرياء عظماء الفنانين، قد أدت إلى الرجعة الجماعية الحاضرة؛ وسوف تنتهي هذه النزعة بلا ريب إلى صنوف جديدة من الإفراط، وإلى تناسق لا يطاق. ولعلنا نرى الفردية والنزعة التعاونية وهما النزعتان الجوهريتان المتناقضتان اللتان تتجاذبان الإنسان، تنتعشان، وتشرفان بالتناوب على الحركات الاجتماعية، دون أن يتحقق بينهما توازن ما؛ والتوازن كمال يناقض الحياة ذاتها.