مجلة الرسالة/العدد 107/كفر الذبابة. . .
مجلة الرسالة/العدد 107/كفر الذبابة. . .
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال كليلة وهو يعظ دمنة ويحذره ويقضي حق الله فيه؛ وكان دمنةُ قد داخله الغرور وزهاه النصر، وظهر منه الجفاء والغلظة، ولقى الثعالب من زيغه وإلحاده عنتاً شديداً:
. . . وأعلم يا دمنة أن ما زعمته من رأيك تاماً لا يعتريه النقص، هو بعينه الناقص الذي لم يتم، والغرور الذي تثبت به أن رأيك صحيح دون الآراء، لعله هو الذي يثبت أن غير رأيك في الآراء هو الصحيح.
ولو كان الأمر على ما يتخيل كل ذي خيال لصدق كل إنسان فيما يزعم، ولو صدق كل إنسان لكذب كل إنسان؛ وإنما يدفع الله الناس بعضهم ببعض، ليجيء حق الجميع من الجميع، ويبقى الصغير من الخطأ صغيراً فلا يكبر، ويثبت الكبير من الصواب على موضعه فلا ينتقص، ويصح الصحيح ما دامت الشهادة له، ويفسد الفاسد ما دامت الشهادة عليه، وما مثل هذا إلا مثل الأرنب والعلماء.
قال دمنة وكيف كان ذلك؟
قال: زعموا أن أربناً سمعت العلماء يتكلمون في مصير هذه الدنيا، ومتى يتأذن الله بإنقراضها، وكيف تكون القارعة؛ فقالوا: إن في النجوم نجوماً مذنبة لو ألتف ذنب أحدها على جرم أرضنا هذه لطارت هواء كأنها نفخة النافخ، بل أضعف منها كأنها زفرة صدر مريض. فقالت الأرنب: ما أجهلكم أيها العلماء! قد والله خرفتم وتكذبتهم، ولا تزال الأرض بخير مع ذوات الأذناب، والدليل على جهلكم هذا -، قالوا: وأرتهم ذنبها. . .!
قال كليلة: وكم من مغرور ينزل نفسه من الأنبياء منزلة هذه الأرنب من أولئك العلماء؛ فيقول: (كذبوا وصدقت أنا، وأخطأوا جميعاً وأصبت، والتبس عليهم وانكشف لي، وهم زعموا وأنا المستيقن). ثم لا دليل له إلا مثل دليل الأرنب الخرقاء من هنة تتحرك في ذنبها. وكان يقال: إنه لا يجاهر بالكفر في قوم إلا رجل هان عليهم فلم يعبأوا به؛ فهو الأذل المستضعف؛ أو رجل هانوا عليه فلم يعبأ بهم، فهو الأعز الطاغية. ذاك لا يخشونه فيدعونه لنفسه وعليه شهادة حمقه، وهذا يخشونه فيتركون معارضته وعليه شهادة ظلمه؛ وما شر من هذا إلا هذا. وقالت العلماء: إن كنت حاكماً تشنق من يخالفك في الرأي، فليس في رأسك إلا عقل اسمه الحبل؛ وإن كنت تقتل من ينكر عليك الخطأ، فليس لك إلا عقل اسمه الحديد؛ وإن كنت تحبس من يعارضك بالنظر، ففيك عقل اسمه الجدار. أما إن كنت تناظر وتجادل، وتُقنع وتقتنع، وتدعو الناس على بصيرة، ولا تأخذهم بالعمى - ففيك العقل الذي اسمه العقل.
قال كليلة: وأنا يا دمنة، فلو كنت قائداً مطاعاً، وأميراً متبعاً، لا يعصى لي أمر، ولا يرد عليّ رأي، ولا ينكر مني ما ينكر من المخلوق إذا أخطأ، ولا يقال لي دائماً إلا إحدى الكلمتين: أصبت أصبت؛ ولا يلقاني أحد من قومي بالكلمة الأخرى، رهبة من سخطي رهبة الجبناء، أو رغبة في رضاي رغبة المنافقين، وزعموا أنهم على ذلك قد خلص لي باطنهم جميعاً، وصحت نياتهم كلها - فلو كنت وكانوا على هذا، لأحالني نقصهم إلى نقص العقل بعد كماله، وردتني فسولتهم إلى فسولة الرأي بعد جودته، فأخلق بي أن أعتبر وضعهم إياي في موضع الآلهة هو إنزالهم إياي في منزلة الشياطين، وإلا كنت حقيقاً أن يصيبني ما أصاب العنز التي زعموا لها إنها أنثى الفيل. . .
قال دمنة: وكيف كان ذلك؟
قال: زعموا أنه كان في إحدى خرائب الهند جماعة من العظاء، وكان فيها عضرفوط كبير فملكته الجماعة وذهبت تأتمر عن أمره وتنتهي. فمر بهذه الخربة فيل جسيم من الفيلة، لم يحس بالعظاء، ولم يميز فرقاً بين هذه الأمة وبين الحصى منثوراً يلتمع في الأرض هنا وهنا؛ فنظر العضرفوط كيف يصنع به، وكان قائداً عظيماً، ثم تدبر أمر الفيل، فرآه لا يتحرك إلا بأقدامه ينقلها واحدةً واحدة؛ فقدر عند نفسه أنه لو أزال قدم الفيل عن الأرض زال الفيل نفسه؛ فجاء فاعترض الطريق، ودب دبيبه إلى قدم الفيل؛ فلما رفع الفيل قدمه أهتبل هذه الغفلة منه. . . واندس تحتها، فأندس مقبوراً في التراب! ثم إن العظاء افتقدت أميرها. فلما مضى الفيل لسبيله، ورأت ما نزل بها نفرت إلى أحجارها وإستكنت فيها ترتقب وترربص؛ فدخلت إلى الخربة عنز جعلت تتقمم منها وترتع فيها، ورأتها العظاء فاجتمعن يأتمرن. .
فقال منها قائل: هذه أنثى الفيل. فسألت عظاية منهن: وأين النابان العظيمان؟
قالت الأولى: إن الإناث دون الذكورة في خلقها، والأنثى هي الذكر مقلوباً أو مختصراً أو مشوهاً، ولذلك هن يقبلن الحياة أو يختصرنها أو يشوهنها. أفلا ترين النابين العظيمين البارزين في ذلك الفيل الجسيم، كيف نبتا صغيرين منقلبين فوق رأس أنثاه؟
فقالت واحدة: إن جاز قولك في الرأي فأين الخرطوم؟
قالت الأخرى: هو هذه الزَّنمة المتدلية من حلقها، وهو خرطوم على قدر أنوثة الأنثى. . . .!
قالوا؛ ثم اجتمع رأيهن على أن يملكن أنثى الفيل هذه؛ وان يهبن لها الخربة وأمتها. وسمعت الماعزة كلامهن فقالت: لا جرم أن تكون العنز فيلة في أمة من العظاء، فقد قالت العلماء: إنه لا كبير إلا بصغير، ولا قوي إلا بضعيف، ولا طاغية إلا بذليل؛ وان العظمة أن هي شهادة الحقارة على نفسها، وانه رب عظيم طاغية متجبر ما قام في الناس إلا كما تقوم الحيلة، ولا عاش إلا كما يعيش الكذب، ولا حكم إلا كما يحكم الخداع. وهذه الدنيا للمحظوظ كأنها دنيا له وحده، فحتى جاءت إليه فقد جاءت، وإذا أدبرت عنه من ناحية رجعت من ناحية اخرى، ليثبت الحظ انه الحظ.
وتقدم العظاء إلى العنز فقلن لها: أيتها الفيلة العظيمة، إن قرينك العظيم قد مس أميرنا العضرفوط بقدمه فغيبه تحت سبع ارضين، واننا قد اخترناك ملكة علينا، ووهبنا لك الحربة وما فيها.
قالت العنز: فإني أتهب منكن هذه الهبة، ونعماً صنعتن؛ غير أن بينكن وبيني ما بين العظاية والفيل، وما بين الحصاة والجبل؛ فإذا أنا قلت؛ وإذا أنا أمرت، فأنا أمرت؛ وإذا أنا فعلت، فأنا فعلت. هنا في هذه الأمة كلها (أنا) واحدة ليس معها غيرها؛ لأنه هاهنا في هذا الرأس دماغ فيلة، وفي هذا الجسم قوة فيلة، وفي الخربة كلها فيلة واحدة؛ فلا اعر فن منكن على الصواب والخطأ إلا الطاعة، طاعة الأعمى للبصير. إلا وان أول الحقائق أنني فيلة وإنكن عظاء؛ ومتى بدأ اليقين من هنا سقط الخلاف من بيننا وبطل الاعتراض منكن، وقوتي حق لأنها قوة، وباطلي كذلك حق لأنه من قوتي؛ وقد قال حكماء الفيلة: إن القوي بين الضعفاء مشيئة مطلقة، فهو مصلح حتى بالافساد، حكم حتى بالحماقة، أمام حتى بالخرافة، عالم حتى بالجهالة، نبي حتى بالشعوذة. . . . .!
قالوا؛ وتنكر عليها عظاية صالحة عالمة كانت ذات رأي ودين في قومها، وكن يسمينها: (العمامة)، لبياضها وصلاحها وطهارتها، فقالت: ولا كل هذا أيتها الفيلة؛ لقد تخرصت غير الحق فانك تحكمينا من أجلنا لا من اجلك، وما قولك إلا كلمات لا يحققها إلا أعمالنا نحن؛ فلك الطاعة فيما يصلحنا لا فيما يفسدنا، ورأيك شيء ينبغي أن تكون معه اراونا، لتتبين الأسباب أسباب الموافقة والمخالفة، فنأخذ عن بينه ونترك عن بينه؛ وقد كان يقال في قديم الحكمة: انه يجب على من يقدم رأياً للامة الحازمة كي تأخذ به، أو يضع لها شرعاً ليحملها عليه، أو يسن لها سنة لتتبعها - يجب على هذا المتقدم لتحويل الأمة وتحريرها أن يتقدم لأهل الشورى وفي راسة الرأي، وفي عنقه حبل؛ ثم يتكلم برأيه ويبسطه ويدفع عنه، ويجادله ويجادلونه؛ فان كان الرأي حقاً اخذوا الرأي، وان كان بطلاً اخذوا الحبل فشنقوا فيه هذا المتهور.
وفي ديننا أن الطاعة في المعصية معصية أخرى؛ ولقد كان لنا عضرفوط بحاثة في الأديان دراسة لكتبها؛ فكان مما علمنا إن المخلوق مبني على النقص إذ هو ماضٍ إلى الفناء، فيجب إلا يتم منه شيء إلا بمقدار، وألا تكون القوة فيه إلا بمقدار؛ ولهذا كان العقل التام في الأرض هو مجموع العقول كلها، وكان أتم الآراء وأصحها ما أثبتت الآراء نفسها أنها أصحها وأتمها. فلا الدين أتبعت أيها الفيلة ولا أتبعت فينا العقل.
فلما سمعت العنز ذلك تنفشت وغضبت، وقالت: إياكم وهذه الترهات من ألسنتكم، وهذه الأباطيل في عقولكم؛ لا اسمعن منكم كلمة الدين ولا كلمة الأنبياء ولا العضافيظ. . . فذلك وحي غير وحي أنا؛ وإذا كان غير وحيي أنا فأنا لست فيه، وإذا لم أكن أنا فيه فهو لا يصلح للحكم الذي شرطه أن الدولة ليس فيها إلا أنا واحدة. وذلك إن لم يجعلكم غرباء عني جعلني غريبة عنكم، ما بد من إحدى الغربتين، فهو أول القطيعة، والقطيعة أول الفساد. وما دام في الدين أمر غير أمري، ونهي غير نهيي، وتحليل وتحريم لا يتغيران على مشيئتي - فأنا مجنونة إن رضيت لكم هذا. . .!
فضحكت (العمامة) وقالت للماعزة: بل قولي: أنا مجنونة بـ. . . أنا. أفلا يجوز وأنت خلق من الخلق أن يعتري عقلك شيء مما يعتري العقول؟ ولسنا ننكر أنك قوية الرأي في ناحية القوة، حسنة التدبير في ناحية الشجاعة، متجاوزة المقدار في ناحية الحزم والحرص على مصالح الدولة؛ ولكن ألم يقل الحكماء: إن الزيادة المسرفة في جهة من العقل تأتي من النقص المتحيف لجهة أخرى، وإنه رب عقل كان تاماً عبقرياً في أمور لأنه ضعيف أبله في غيرها؛ يُحسن في تلك ما لا يُحسنه أحد، ويُحكم منها ما لا يُحكمه أحد؛ ثم يغلط في الأخرى ما لا يغلط أحد فيه؟
قالوا؛ فجاشت العنز وفارت من الغضب فورة الجبار، وخيل إليها من عمى الغيظ أنها ذهبت بين الأرض والسماء، وأن زنمتها أمتد منها خرطوم طويل، وأن قرنيها أنبعج منهما نابان عظيمان؛ وقالت: ويحكم! خذوا هذه (العمامة) فاشنقوها؛ فأنها كما قالت؛ تقدمت إلينا بالرأي والحبل. . .!
وكان في العظاء ضعاف ومهازيل وجبناء ومأكولون لكل آكل؛ فتشبح لهم أن أنثى الفيل هذه. . . ستخلقهم فيلة إن هم أطاعوها؛ فإذا مردوا عليها فأنها من صرامة البأس بحيث تجعل كل ظلف من أظلافها جبلاً فوقهم كأنه ظله فتسوخ بهم الأرض. ثم أنهم إنخزلوا وتراجعوا وأخذت (العمامة) الصالحة فشنقت، وخمد الرأي من بعدها وانقطع الخلاف والدين والعقل الحر. . .؛ وأقبلت دولة العظاء على العنز تجرر أذيالها. . .
قالوا؛ واغترت الماعزة وأحست لها وجوداً لم يكن، وعرفت لنفسها وهي ماعزة نباهة شأن الفيل القوي، فلجت في عمايتها وكفرت بجنسها، وقالت: لم يخلقني الله فيلةً وخلقت نفسي؛ فأنا لا هو. . .
وثبت عندها أنها ليست بعنزٍ وإن أشبهتها كل عنز في الدنيا؛ وذهبت تقلد وتعيش على مذاهب الفيلة بين العظاء؛ فإذا مشت إرتجَّت وتخطَّرت كأنها بناء يتقلقل، وإذا إضطجعت أنذرت الأرض أن تتمسك لا تدكها بجنبها. . .!
ومر ذلك الفيل بهذا الخراب مرةً أخرى، فلاذت العظاء كلهن بالفيلة. . . وتأهبت هذه للقتال وتحصفت في المبارزة والمناجزة. . . والمعانزة فنصبت قرنيها، وحركت زنمتها، وطأطأت، وشدت أظلافها في الأرض، وثبتت قوائمها، وصلبت عظامها، ونفشت شعرها، وتشوكت كالقنفذ، وأصرت بكل ذلك إصرارها؛ وكانت عنزاً نطيحة منذ كانت تتبع أمها وتتلوها، فكيف بها وقد تفيلت. . . .؟
ثم إنها ثبتت في طريق الفيل ليرى بعينه هذا الهول الهائل. . . فأقبل، فمد خرطومه، فنالها به، فلفها فيه، فقبضه، فرفعه، فطوحها، فكأنما ذهبت في السماء. . .! وتهاربت العظاء ولذن بأجحارهن، ثم غدون على رزقهن فإذا جيفة العنز غير بعيد، فذببن عليها وإرتعين فيها وعلمن أنها كانت ماعزة فيلها جنونها، وأدركن أن الكذب على الحقائق قد جعل الله له حقائق أخرى تقتله، وأن من غلب أمة العظاء على أمرها فليست الأيام والليالي عظاء فيغلبها؛ وأن تغيير المخلوقات إنما يكون بتحويل باطنها لا بتحويل ظاهرها، وإن الإناء الأحر يريك الماء مُحمراً والماء في نفسه لا حمرة فيه، حتى إذا انكسر الإناء ظهر كما هو في نفسه؛ وكل ما يخفي الحق هو كهذا الإناء: لون على الحق لا فيه؛ ثم أيقن أن محاولة إخراج أمةٍ كاملة من نزعات ماعزةٍ مأفونة، هي كمحاولة إستيلاد الفيل من الماعزة. . .!
قال كليلة: وأعلم يا دمنة، انه لولا أن هذه العنز الحمقاء قد كفرت كفر الذبابة لما أخذها الله أخذ الذبابة.
قال دمنة: وكيف كان ذلك؟
قال: زعموا أن ذبابة سوداء كانت من حمقى الذبان، قُدرت الحماقة عليها أبدية، فلو انقلبت نقطة حبر لما كُتبتْ بها إلا كلمة سُخف.
ووقعت هذه الذبابة على وجه امرأة زنجية ضخمة، فجعلت تقابل بين نفسها وبين المرأة؛ وقالت: إن هذا لمن أدل الدليل على إن العالم فوضى لا نظام فيه، وإنه مرسل كيف يتفق على ما يتفق عبثاً في عبث، ولا ريب إن الأنبياء قد كذبوا الناس؛ إذ كيف يستوي في الحكمة خلقي (أنا) وخلق هذه الذبابة الضخمة التي أنا فوقها. . .؟
ثم نظرت ليلةً في السماء، فأبصرت نجومها يتلألأن وبينها القمر؛ فقالت: وهذا دليل آخر على ما تحقق عندي من فوضي العالم وكذب الأديان وعبث المصادفات؛ فما الإيمان بعينه، إلا الإلحاد بعينه، ووضع العقل في شيء هو إيجاد الألوهية فيه، وإلا فكيف يستوي في الحكمة وضعي (أنا) ورفع هذا الذبان الأبيض ويعسوبه الكبير إلى السماء. . .؟
ثم إنها وقعت في دار فلاح، فجعلت تمور فيها ذهاباً وجيئة حتى رجعت بقرة الفلاح من مرعاها؛ فبهتت الذبابة وجمدت على غرتها من أول النهار إلى آخره، كأنها تزاول عملاً؛ فلما أمست قالت: وهذا دليل أكبر الدليل على فوضى الأرزاق في الدنيا، فهاتان ذبابتان قد ثقبتا ثقبين في وجه هذه البقرة واكتفتا فيها تأكلان من شحمها فتعظمان سمها؛ والناس من جهلهم بالعلم الذبابي يسمونهما عينين. . . وأنا قضيت اليوم كله أخمش وأعض وألسع لأثقب لي ثقباً مثلهما فما انتزعت شعرة؛ فهل يستوي الحكمة في رزقي (أنا) ورزق هاتين الذبابتين في وجه البقرة. . .؟
ثم أنها رأت خنفساء تدب دبيبها في الأرواث والأقذار فنظرت إليها وقالت: هذه لا تصلح دليلاً على الكفر؛ فإني (أنا) خيرٌ منها؛ (أنا) لي أجنحة وليس لها (وأنا) خفيفة وهي ثقيلة؛ وما كأنها إلا ذبابة قديمة من ذباب القرون الأولى ذلك الذي كان بليداً لا يتحرك، فلم تجعل له الحركة جناحاً. ثم إنها أصغت فسمعت الخنسفاء تقول لأخرى وهي تحاورها: إذا لم يجد المخلوق أنه كما يشتهي فليكفر كما يشتهي؛ يا ويحنا! لِمَ لمْ نكن جاموساً كهذا الجاموس العظيم، وما بيننا وبينه فرق إلا أنه وجد من ينفخه ولم نجد. . .؟
فقالت الذبابة: إن هذا دليل العقل في هذه العاقلة، ولعمري إنها لا تمشي مثاقلة من أنها بطيئة مرهقة بعجزها، ولكن من أنها وقور مثقلة بأفكارها، وهي الدليل على أني (أنا) السابقة إلى كشف الحقيقة. . .!
وجعلت الذبابة لا يُسمع من دندنتها إلا: أنا، أنا، أنا، أنا. . . من كفرٍ إلى كفرٍ غيره إلا كفر غيرهما، حتى كأن السماوات كلها أصبحت في معركة مع ذبابة. . .
ثم جاءت الحقيقة إلى هذا الإلحاد الأحمق تسعى سعيها؛ فبينا الذبابة على وجه حائط، وقد أكلت بعوضةً أو بعوضتين، وأعجبتها نفسها، فوقفت تحك ذراعها بذراعها - دنت بطةً صغيرة قد انفلت عنها البيضةُ أمس، فمدت منقارها، فالتقطتها. ولما انطبق المنقار عليها قالت: آمنت إنه لا إله إلا الذي خلق البطة. . . . . . .!!