انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 105/عمل عظيم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 105/عمل عظيم

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 07 - 1935



للأستاذ محمد بك كرد علي

لو كل بلد إسلامي قام بواجبه قيام المسلمين في مدينة بيروت ثغر الشام، لاضمحلت الأمية علة العلل في هذا المجتمع، ولزاد في بنيه عدد المتعلمين وأرباب الصنائع، وعلى تلك النسبة كانت تزيد الثروة والرخاء، ولنجا المسلمون من مشاكل كثيرة، وبرئوا مما يتهمهم به أعداؤهم من أن دينهم لا يفسح لهم مجالاُ للنور والثقافة

أسس المسلمون في بيروت في سنة 1296هـ جمعية دعوها جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، وعنيت مدة بتعليم النشء الجديد يومئذ ثم طرأت عليها طوارئ شلت حركتها، ومن أهمها أن الحكومة العثمانية ما كانت تحب استرسال المسلمين في سبل التعليم، على حين كانت تتغافل عن المسيحيين يتعلمون في مدارسهم الطائفية ومدارس المبشرين ما شاءوا وشاءت دول الاستعمار

ولما انتدبت فرنسا على الديار الشامية بعد الحرب العامة، كان أول ما فكر فيه المسلون إعادة جمعية المقاصد الخيرية الملغاة، خصوصاً وقد رأوا كلمة التبشير تقوى، فهبوا إلى التذرع لإحياء جمعيتهم في سنة 1338هـ وأخذوا يجمعون أموالاً، واستوهبوا أرضاً عظيمة من الأوقاف أقاموا عليها مخازن وحوانيت ومقاهي، فكان لهم منها باخرة ريع لا يقل عن عشرة آلاف ليرة عثمانية ذهباً في السنة يدخرون نحو ثلثها مالاً احتياطياً، ولا يفتأون كل عام يجمعون مبلغاً تنتظم به مالية جمعيتهم

وجعل أولئك العاملون هدفهم الأسمى إنشاء مدارس لتربية البنين والبنات، وتثقيفهم بالثقافة الحديثة التي تنطبق على التعاليم الإسلامية، وإعدادهم ليكونوا عاملين منورين أقوياء في عقيدتهم الدينية والقومية؛ وزادوا في مناهج البنات على مناهج البنين - والعلوم النظرية واحدة في جميع مدارسهم - دروساً عملية في تدبير المنزل، تتناول الطبخ، والخياطة على اختلاف أنواعها، والأشغال اليدوية، والرسم، والموسيقى، وتربية الأطفال

أصبح لهذه الجمعية في مدينة بيروت سبع مدارس للذكور والإناث، منها مدرستان ثانويتان، إحداهما للصبيان والثانية للفتيات، أطلق على كل واحدة منهما اسم (كلية). وقد نجح تلاميذها في السنة الغابرة نجاحاً باهراً، وكان فيهم ثلث من نجحوا في الجمهورية اللبنانية في إحراز شهادة البكلوريا؛ هذا وبيروت مدينة المدارس، ومنها ما يرد عهد تأسسه إلى ستين أو سبعين سنة. وبلغ مجموع ما في مدارس البنين والبنات في بيروت في سنة 1934 - 3130 طالباً وطالبة؛ وللجمعية عناية فائقة بمدارس رياض الأطفال

ساهم المسلمون على اختلاف درجاتهم في الثروة في قيام هذه المدارس، يمدونها بما تصل إليه أيديهم من المال كل سنة، وكانت مدارسهم في هذه الأزمة الخانقة أقل دور العلم تأثراً بالحالة الاقتصادية والمالية، ذلك لأن مدارس الجمعية تدار بأيدٍ رشيدة، لا يسرف في مالها أيام الرخاء، ويراعى في الإنفاق العام الحاضر كما تراعى الأعوام المقبلة

ولما رأت الجمعية أن التبشير يسري بسرعة في القرى الإسلامية من عمل بيروت هبت لجنة من أعضائها وغيرهم بمعاونة الجمعية نفسها، وكونت لها رأس مال وبدأت بإنشاء المدارس في القرى في سنة 1340هـ فكان لها منها الآن ثنتان وأربعون مدرسة فيها ما يربو على الألفي طالب وطالبة يتلقون التعليم الابتدائي الصحيح على منهاج التعليم في الجمعية

ولم تكتف جمعية المقاصد بما أتت، بل عمرت لها في بيروت مستشفى ذا طبقتين يحتوي على اثنتين وثلاثين غرفة، منها ما هو بمساحة مائة وعشرين ذراعاً مربعاً، وجهزته بستة وسبعين سريراً، وبلغ ما أنفق على بنائه 2 , 311 , 159 غرشاً سورياً أو نحو أربعة آلاف ومائتي جنيه عثماني ذهباً، ونشطت المدارس الأهلية الأخرى وعاونتها، وتولت برجالها مراقبتها وإرشادها، ورممت بعض المساجد في الحاضرة والضاحية، ومنحت معاونات لمن يريد التخصص في مدارس الشرق أو مدارس الغرب، وعاونت حفظة القرآن وسهلت سبل إتقان حفظه، كما بسطت يد معونتها للمولعين بالفنون الجميلة إلى غير ذلك

هذه الأعمال الجليلة قامت بقروش قليلة جمعت من أهل البر والخير جمعها الغُيُر على أبناء دينهم، فتألف منها رأس مال لا يستهان به؛ وبهذه الصورة يكافح البيروتيون الأمية، ويرجعون إلى حظيرة الدين من كانوا على وشك أن ينسلخوا منه، وكل ذلك بمعاونة المستنيرين من المسلمين وفضل رئيس الجمعية عميد بيروت وعين أعيانها عمر بك الداعوق الذي كانت طريقته وطريقة أعوانه أن يعملوا ولا يقولون، ويبذلون مالهم ووقتهم ولا يمنون ولا يتبجحون قرت العيون بهذا العمل الخطير الذي كان سداه الإخلاص، ولحمته حب الدين والمدينة، فدفعت جمعية المقاصد الخيرية أبناء أمتها خطوة إلى الأمام، وغدا الأمل بالمستقبل أعظم من الماضي، في محيط تنفق فيه مدارس التبشير للأميركان والفرنسيين وغيرهم عن سعة؛ وقل في الشرق الأدنى بلد ظهر فيه نشاط المبشرين ظهوره في هذه القطعة الصغيرة من الديار الشامية؛ وقل أن كتب لبلد قاوم المبشرين بمثل سلاحهم كمدينة بيروت. ونعود فنؤكد لو أن كل بلدة حذت حذو النابهين من أبناء بيروت لقضى مع الزمن على الأمية في المسلمين. وجوهر كل نهضة في عقول الرجال، ولا نجاح في الأعمال لغير المخلصين المثابرين

دمشق

محمد كرد علي