مجلة الرسالة/العدد 1024/طرائف وقصص
مجلة الرسالة/العدد 1024/طرائف وقصص
قارئ الأفكار
للأستاذ كمال رستم
ما أسعد هؤلاء الذين يستطيعون قراءة الأفكار! إنهم يحيطون بنظرة واحدة بكل ما يدور في رؤوس الناس فيدركون ما يكنونه لهم من حب أو بغض. ولا تجدي في خداعهم هذه الوجوه التي تكتسي بمظاهر انفعالات كاذبة، ولا هذه الكلمات التي لا تنطوي حقيقتها إلا على الحقد والشر! فيدركون بنظرة واحدة تنفذ إلى أعماق النفس، وتسبر أغوار القلب إن كان من يخاطبونهم صادقين أو كاذبين! مخلصين أو مخادعين! أشراراً أو أخياراً! ويعيشون بفضل هذا العلم سعداء مجدودين!
تواردت هذه الخواطر على ذهنه وهو جالس إلى المائدة أمام صديقه الجندي الهندي، وكان قد التقى به لأول مرة في إحدى القهوات العامة وعلم منه أنه أحد أفراد الوحدات الهندية التي جاءت إلى مصر فيمن جاء من جنود الحلفاء للدفاع عن الإمبراطورية! واتصلت بينهما صداقة متينة فقد كان الجندي (نهرو) مثالاً لدماثة الخلق ولين الطباع. وكان إلى ذلك ملماً إلماماً واسعاً بعلم قراءة الأفكار!
بهر أحمد هذا العلم الذي يمزق أستار المجهول ويرده في نظرة واحدة واقعاً ملموساً. . ولقد قرأ نهرو أفكاره وتحقق له أن ما قاله كان صحيحاً كله!
ود أن يبلغ مبلغ نهرو من القدرة على قراءة أفكار الناس. . واستغرق في تأمل عميق حلو وقد شبه له أنه وهب هذه القدرة. . وبدا له أنه ليس على أديم الأرض من هو أسعد منه!
لقد صارت له نظرة نهرو الفاحصة النافذة. . ولن يعود في مستطاع عملائه الكثيرين أن يخدعوه، وسيعرف من منهم الذي يبيت له النيات الطيبة ومن الذي يبيت له النيات الخبيثة. . فيعامل الأول ويجفو الثاني. . وسيحرر نظره في وجوه أصدقائه الكثيرين فيعرف المخلص من المنافق. . والطيب من الخبيث ويستخلص لنفسه منهم هؤلاء الذين اجتازوا بنجاح امتحانه الصامت الرهيب الذي لا يعلمون عنه شيئاً لأنه لن يطلع أحداً على أنه أوتي هذه الموهبة الفذة!
أما هؤلاء الذين يريد أن يفيد منهم، فإنه سيمرر في وجوههم نظره الثاقب فيعرف المرتشي الذي لا يؤدي عملاً إلا بالرشوة، ومحب الملق الذي لا يقدم صنيعاً إلا إذ تملقه الناس وخدعوه. . ويعرف الذي ينتوي خدمته من الذي يعطيه وعداً لا يزمع إنجازه. . كل شيء سيحيط به وفي نظرة واحدة فلا يعود ثمة ما يخفى عليه من أفكار الناس ولا من أخلاقهم. . فيراهم كما يرون أنفسهم. . وكأنه كامن فيهم!
طافت بذهنه هذه الخواطر فانتشى لها وطرب. . ونازعته نفسه إلى أن يكاشف صديقه نهرو برغبته في أن يتعلم منه علم قراءة الأفكار. . وتردد طويلاً قبل أن يتهادى إلى أذنيه صوت صديقه نهرو يقول:
- لقد قرأت يا صديقي ما يدور بذهنك. . وليس أحب إلى نفسي من تحقيق أمنيتك!
وشاعت الفرحة في قلبه وهو ينصت إلى قول صديقه الطيب وقال والدنيا لا تكاد تسعه من فرط سروره وسعادته.
- إني عاجز عن شكرك يا صديقي نهرو. . ولست أدري بماذا أكافئك على هذا الصنيع الذي لن أنساه لك مدى حياتي!
شرع نهور يدرس لصديقه أحمد علم قراءة الأفكار وبذل في سبيل ذلك من الجهد والوقت ما جعل لسانه يلهج بشكره والثناء عليه. . ولم يدخر أحمد من ناحيته وسعاً في استيعاب دروس أستاذه واستذكارها والرجوع إلى (المراجع) التي وضعها تحت يده، فقد كانت تشتعل في نفسه الرغبة في إجادة هذا العلم الذي أحبه وعشقه والذي سيعود عليه بالنفع والخير ويسلكه في عداد السعداء المجدودين!
وكان لا يني عن القراءة في الليل وفي النهار. . في المنزل وفي الطريق وفي القهوة التي كان يختلف عليها هو وصديقه نهرو. . وكانت تستغرقه السعادة وهو يطالع هذا العلم الحبيب، وراح يرقب في صبر أرعن ذلك اليوم الذي يفرغ فيه من دراسته ويخرج إلى الناس إنساناً جديداً موهوباً بعلم ما لا يعلمون!
ولم يسفر لأحد عن سره. . حتى أفراد أسرته لم يكن بينهم فرد واحد يدري سر وحدته المطرقة وانكبابه على تلك الكتب التي كان يحرص على ألا تمتد إليها يد أو تقع عليها عين! إنه كان زوجاً مخلصاً وأباً باراً لابن وابنة، وكانوا سعداء به كما كان سعيداً بهم. . ولكنهم في هذه الشهور الأخيرة وقد لمسوا منه انصرافاً عنهم وعزوفاً عن ملا بستهم.
زايلتهم السعادة وتقبضهم الحزن وأمضهم الألم. . ولكن أحداً منهم لم تبد منه معارضة أو جأر بشكوى فقد كان العهد بهم أن يرضوا عن كل تصرف منه دون جدل أو نقاش!
عكف على دروسه يستذكرها، وقبل أن يضع مواهبه تحت اختبار أستاذه نهرو قام برحلة استغرقت أشهراً استعاد في غضونها ما حصله، وامتحن فيها تجاربه. . ولما اطمأن إلى النتيجة التي حصل عليها، واقتنع بأنه بلغ مبلغ الرضا من أستاذه عاد إليه تواً ووضع مواهبه تحت الاختبار العسير الذي أجراه له. . ويا للسعادة الكبرى التي استغرقته حين قال له أستاذه نهرو:
- تستطيع الآن يا صديقي أن تطمئن إلى أنك وصلت. . فإليك تمنياتي! وشد على يده فقال له:
- إن الفضل فيما أحرزته من نجاح إنما يرجع إلى صدق عزيمتك وعظيم إخلاصك. . .
أجابه نهرو قائلاً:
- لا تقل ذلك يا رجل!
. . ودرج في الطريق وهو عظيم الثقة بنفسه، قوي الإيمان بالمستقبل السعيد الهانئ الذي ينتظره، واستطاع في نظرة واحدة إلى الوجوه التي صافحته. . وجوه الرجال والنساء أن يحيط بما كان يدور في رؤوسهم من الأفكار وكانت تسكن هذه الرؤوس الأفكار الطيبة والأفكار الخبيثة والآمال القريبة والآمال البعيدة الطائشة. . أدرك من السعيد المجدود ومن التعس المنكود. . والمؤمن والملحد. . ومن المخلص والمخادع. . وبهرته النتيجة التي حصل عليها، والنجاح الذي أحرزه فشاعت الفرحة في أعطافه وأيقن أنه ملك ناحية السعادة وحقق غارب أمانيه!
وتقدم من أحد باعة الفاكهة ليبتاع منه بطيخة، واستملى البائع الماكر من وجهه نظرة عابرة وحدث نفسه قائلاً:
- إنه رجل ثري. . هذا ما يبدو لي من ثيابه ومن مظهره النبيل. . وأغلب ظني أنه رجل طيب القلب ساذج وإذا لم تخذلني فراستي فإنني لن أجد أدنى صعوبة في أن أتقاضى ثمنها منه مضاعفاً. . سأطلب منه عشرين قرشاً!
وضحك أحمد في نفسه، فقد قرأ أفكار الرجل ووعى ما طاف بذهنه وقال في هدوء.
- أتبيعها بعشرة قروش؟
وأجابه الرجل وهو يصطنع الاستخذاء والضعف:
- أقسم لك يا سيدي أنني أخسر إن بعتها بأقل من عشرين قرشاً. . من أين يأكل رجل فقير مثلي رب أسرة كبيرة إذا لم يربح ربحاً حلالاً من رجل كريم مثلك. . أقسم لك أن هذا هو الثمن الذي أبيعها به لكل إنسان. . فأنا لا أفرق أبداً بين زبائني!
وكان يعلم أنه يغرر به فقال له:
لا تجهد نفسك فلن أدفع أكثر من عشرة قروش ومضى في سبيله، وما كاد يخطو بضع خطوات حتى تناهى إليه صوت البائع يقول:
- تعال يا سيدي. . هات العشرة قروش. . عوضي على الله: علم الله أنني أخسر فيها!
ولج به السرور عندما ذكر أنه اعتاد أن يبتاع نظائر لها بأضعاف هذا الثمن، لأن الباعة كانوا وقتذاك يخدعونه ولكنه ابتداء من اليوم لن يستطيع أحد خداعه أبداً!
ونقد البائع الثمن وحمل (البطيخة) على ذراعه ومضى!
وبلغ البيت، واستقبلته زوجه بابتسامة آسرة رفت على شفتيها وقالت له في صوت يسيل رقة وعذوبة:
- يا زوجي الحبيب!
وتطلع إلى وجهها. . . وفي نظرة واحدة بلغ ما لم يبلغه في سنوات طوال. . . وكانت تتواكب في ذهنها هذه الخواطر.
لم عاد هكذا سريعاً؟ لشد ما أبغضه! لو يدري هذا الرجل أنني لم أشعر يوماً واحداً ولا لحظة واحدة بأنني أحبه. . لو يدري أنني أخدعه وأخونه!
هاله ما قرأ من أفكارها. . وكانت الصدمة أن تذهب برشاده، وتطيح بلبه بعد أن تحقق له أنه كان مخدوعاً فيها. . وكان قد حول بصره عنها فعاد وصعده في وجهها الذي بدت عليه البراءة والسذاجة. . وشعر بالامتعاض والتقزز حينما مر بذهنه خاطر خيانتها. . وعجب لامرأته كيف تحمل وجهاً صافياً ونفساً كدرة كالماء الآسن. . وزخرت بالألم نفسه، ونهش الحزن صدره، وأنسرقت قواه فتهالك على المقعد في تراخي بدن مجهد. . وأحس بيد ناعمة تعبث بشعره وطرق سمعه صوت ابنته الحبيبة تقول له: - فيم تفكر يا أبي. . ألا تخلع ملابسك وتمضي معي إلى المائدة؟
ورفع إليها بصره، وعلقت عيناه بوجهها الجميل. . وفي لحظة واحدة. . أحاط بكل ما كان يدور بذهنها. . وكانت تحدث نفسها قائلة:
- إن أبي يقف حجر عثرة في سبيل سعادتي. . فهو لن يرضى مطلقاً عن زواجي ممن أحب لأنه يريد لي زوجاً ثرياً. . إنني لا أحب أبي. . والفرار مع من أحب هو السبيل الوحيد لتحقيق سعادتي!
أذهله ما قرأ من تفكير ابنته. . وهاله ألا يكون نصيبه من جملة مشاعرها سوى شعور الكراهة والبغض، وأن ينحط تفكيرها إلى حد أن تزمع الفرار مع شاب غريب. . غير عابئة بالألم والعار اللذين يخلفهما فرارها لأبيها! وعجب لأنه عاش ردحاً من الزمان بين زوجة تخدعه، وابنة لا تتردد في أن تثلم شرفه وتمرغه في العار وقالت له ابنته.
- لم تنظر إلي هكذا يا أبي؟
أجابها!
- لا شيء يا ابنتي، لا شيء.
. . وخلع ملابسه ومضى معها إلى المائدة. . فرأى هناك ابنه. . ابنه الذي وقف على مستقبله سعادته وآماله. . واستملى من وجهه نظرة عابرة ألمت بأفكاره كلها. . وكان يقول لنفسه:
- إن أبي قوي البنية شديد الأسر. . وقد يدركني الموت ويتخطاه. . فكيف السبيل إلى الخلاص منه لأرثه. . سأدس له السم في كوب الشاي الذي ألف أن يحتسيه عصراً. . وسوف لا يدور بذهن أحد أنني الذي فعلت ذلك. وإنما سينصرف الذهن إلى أن تناول الشاي في الخارج. .
وتحدر بصره عن وجه ابنه. . ابنه المجرم الذي يريد أن يغتاله. وأحس بالألم الممضي يعتلج في صدره وشق عليه الأمر فنهض دون أن يقرب الطعام وارتدى ملابسه وانطلق إلى الطريق!
وفي الطريق قابله بعض الأصدقاء وقرأ في وجوههم ما يضمرون له. . فرأى أنهم خبثاء كذابون مخادعون. . رأى أنهم يريدون أن يغشوه. . أن يسرقوه. . أن يدنسوه. .
وقرأ كذلك أفكار الناس الذين كانوا يعبرون الطريق فرأى أن غايتهم إلحاق الضرر بالوادعين من الأصدقاء. . بالضعفاء من الناس. . وجد أنهم كلهم مراءون. . مخا تلون لا تنطوي نفوسهم على ما تبديه وجوههم من رداعة ونبل!
وجفل من الناس، وأوى إلى أفكاره يعايشها. . بدا له الآن أنه خسر الحياة منذ تعلم قراءة أفكار الناس. . ولقد كان يحدس أنه سيغدو سعيداً إن هو بلغ ذلك يوماً. . ولكن ها قد تحقق له الآن.
- وقد تم له ما أراد - إنه شقي تعس! يريد به أعز الناس لديه وأقربهم إليه الشر والأذى!
وقال لنفسه:
- لقد كنت سعيداً وقتما كنت جاهلاً بنيات الناس. . وكان الخير في أن أبقى كذلك!
ولكن لم يكن في مستطاعه الآن أن يعود كما كان. . فيتحرر من علم اكتسبه. . وأيقن أنه سيعيش مدى حياته شقياً تعساً ما دامت فيه هذه الموهبة المشئومة وما دام كل الذين يحيطون به ويعيشون معه لا تنطوي نفوسهم إلا على أحط الغرائز وأبشعها. .
وفي اليوم التالي وجدوه مشنوقاً في غرفته بعد أن ترك لهم رسالة أثبت فيها موهبته المشئومة وأنه اطلع على خداع الزوجة. . وعقوق الابنة وشروع الابن في قتله. .
وكانت وصايته لهم أن يجردوا أنفسهم من نوازع الشر ما استطاعوا. . .
كمال رستم