انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 1023/العصر المملوكي الثالث!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 1023/العصر المملوكي الثالث!

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 02 - 1953



للأستاذ محمد سعيد العريان

إن الأمة هي التي تصنع تاريخها، ولكن التاريخ يعود من بعد فيصنع صنعة جديدة. . .

نظرت في تاريخ مصر منذ أن أسلمته الأسرة الأيوبية إلى شجرة الدر، ثم منذ أسلمته شجرة الدر إلى زوجها المملوك أيبك التركماني، ثم منذ تسلسل في المماليك من قطز، إلى بيبرس، إلى قلاوون. . . ثم من قيتباي، إلى الغوري، إلى طومانباي الشهيد، ثم منذ استخلصته أمراء المماليك من أيدي (الباشوات) العثمانيين، سادة القلعة، ليتداولوه من علي بك الكبير، إلى أبي الذهب، إلى مراد وإبراهيم والألفي، إلى محمد علي الألباني، إلى إبراهيم وإسماعيل وفؤاد وفاروق، إلى 23 يوليو الماضي. . فإذا هو كله عصر واحد، بدأ بشجرة الدر وانتهى بفاروق. .

عصر واحد له خصائص مشتركة تقوم على الغدر والأثرة، والانفراد بالسلطة، والتباهي بلا عمل، والاستعلاء بلا سبب، والسعي الدائب إلى غير هدف؛ ثم النساء والأطياب، والقصور، والمتاع الحرام. . .

وإزاء هذه الصفحات المسودة بتاريخ الملوك، صفحات أخرى تصف شعباً يختفي طبيعة المقاومة وراء مظهر الاستسلام، كل وسائله في المعارضة أن يصنع النكتة ويضحك لها حتى يكاد يندلق بطنه، وأن يتحدث همساً عن الغدر المأمول كما قرأه له شيوخه في (الجفر)، أو في الرمل، أو في صفحات النجوم؛ ثم الانتظار إلى أن يبرز (الزعيم) الذي يقوده، فما كاد يبرز ويتردد اسمه في الأسماع، حتى يصير هتافاً على كل شفة، وصدى لكل صفقة يد، وقصة في كل سامر، وبخوراً في كل معبد، وأكاد أقول ووثناً لكل عابد. . . ثم ينتهي ذلك الزعيم إلى أجل أو إلى غير أجل، فينتهي اسمه على الشفاه أو ينطوي، فلا تسمعه إلا في ثنايا نكتة يضحك لها قائلها وسامعها جميعاً. . . وتخفى طبيعة المقاومة وراء مظهر الاستسلام العابث. . .

هذه هي الخصائص المشتركة لهذا العصر المملوكي الذي بدأ في مصر منذ سبعة قرون، وانتهى منذ بضعة أشهر، وما أراه سيعود بعد. .

ولكن المؤرخين المحترفين وأساتذة التاريخ في المدارس يوشكون أن ينكروا علي هذ الرأي الذي أرى؛ فقد كانوا يزعمون، ومازالوا يزعمون إلى اليوم في كتبهم وفي محاضراتهم العامة والخاصة وفيما يلقنون تلاميذهم من دروس التاريخ، أن العصر المملوكي قد انتهى في مصر منذ أوائل القرن التاسع عشر، حين تولى محمد علي وخلفاءه من بعده عرش مصر. وهو زعم يبعد كثيراً أو قليلاً عن الحقيقة التي أومن بها وارجوا أن يؤمن بها المثقفون جميعاً؛ فإن عصر محمد علي وما بعده إلى 23 يوليه الماضي، لم يكن لا امتداداً لعصر المماليك الذي بدأته شجرة الدر بتولية زوجها أيبك التركماني الجانكشير عرش البلاد، ليتسلل من بعده في المماليك طبقة بعد طبقة إلى محمد علي (وطبقته)!

وقد كان محمد علي نفسه يؤمن بهذه الحقيقة، فهو لم يفد إلى مصر سيداً ليحكم، ولكنه وفد إليها كما وفد من قبله ومن بعده (مماليك) لا يحصيهم العد، فوثبوا بالغدر أو بالحيلة أو بكفالة المقادير إلى السلطة ولبسوا التاج. . .

ولا يقولن أحد إن محمد علي لم (رقيقاً) في يد النخاس قبل أن يلي العرش حتى نصفه بالمملوكية؛ فإن سلاطين المماليك من عهد أيبك إلى عهد طومانباي، لم يكونوا كلهم أرقاء مشترين بالمال، بل كان منهم (أحرار) لم يدخلوا تحت الرق قط، وفدوا إلى مصر لأن لهم صلة ببعض أصحاب السلطة فيها، فجاءوا مدعوين أو واصلين أو معينين لبعض السلطة هؤلاء على أمرهم، فطابت لهم الإقامة واستقر بهم الكمان وتهيأت لهم أسباب الحكم حتى وصلوا إلى العرش، وكانوا مع ذلك في عرف المؤرخين (مماليك) وإن لم تدم آذانهم يوماً في يد النخاس.

وإذن فإن كلمة (مملوك) لم يكن يتحقق معناها اللغوي كاملاً في اصطلاح مؤرخي عصر المماليك؛ لأنهم كانوا يعتبرون خصائص الكم وخصائص الحاكمين العامة لا الصفة الفردية التي تتصل بالمعنى اللغوي لكلمة مملوك.

وإذن فقد كان محمد علي مملوكاً، أو مملوكياً، وإن لم يعرف من ماضيه أنه كان رقيقاًمشترى بالمال؛ لأن الاصطلاح التاريخي لا يأبى عموم هذه الصفة حتى تشمله.

ومع ذلك فمن ذا يعرف من ماضي محمد علي ما يثبت به أنه كان في يوم من الأيام رقيقاً ينادي عليه الدلال في سوق العبيد؟ إن كل ما نعرفه عن ماضيه أنه كان يعمل في (قوله) أجيراً لدى بعض تجارها؛ ثم لا نعرف له على وجه اليقين منشأ ولا أبوة ولا أسرة ينتسب إليها؛ فإن لم يكن مملوكاً فكأن قد كان!

ولم يصطنع محمد علي وسيلة غير وسائل المماليك ليبلغ العرش، ثم لتوسيع رقعة ملكه؛ ولعل في كل ذلك صورة مكررة لعلي بك الكبير؛ فقد بدأ بالاحتيال، ثم بالغدر، ثم بالزحف على أملاك الدولة العثمانية؛ فلولا مؤامرة أخيه مراد، وخيانة أخيه محمد أبي الذهب، لبدأ (عصر محمد علي) قبل موعده بنصف قرن، ولكن باسم آخر، هو (عصر علي بك الكبير).

وقد يقال إن محمد علي ألباني من قولة، والمماليك شركس من (جورجيا)؛ فهو يخافهم في العنصر والجنس. وهذا وهم باطل؛ فلم يكن المماليك جميعاً من الشركس إذ كان منهم القوقازي، والصقلبي، والبلغاري، والرومي، والمقدوني، إلى أجناس شتى لا تبعد كثيراً عن الجنس الذي ينتمي إليه محمد علي؛ وإنما كانت نسبتهم إلى الشركس للغلبة لا للاطراد. . .

وقد يقال إن محمد علي كان رأس أسرة حاكمة يتسلسل فيها الملك بالوراثة، وليس هذا دستور المماليك. وهذا أيضاً وهم باطل، فإن محمد علي أولاً لم يكن رأس أسرة، لأن إبراهيم الذي ولي العرش من بعده لم يكن من ولده، ولكنه كان ربيبه، ابن زوجته، تربى في حضانته فأضفى عليه صفات الولد، ثم عاد الملك بعد إبراهيم إلى أولاد محمد علي، ثم رجع ثانياً إلى أولاد إبراهيم، فتسلسل فيهم من إسماعيل إلى توفيق، إلى عباس الثاني، إلى حسين، إلى فؤاد إلى فاروق؛ ولم تكن نسبة هؤلاء إلى محمد علي إلا من حيث أنه كان في مقام الأب من أبيهم إبراهيم فلم يكن محمد علي إذن رأس أسرة بالمعنى الحقيقي بحيث يمكن أن يقال إنه خرج في وراثة العرش عن دستور المماليك. . .

على أن وراثة العرش مع ذلك كانت دستور من المماليك في ظروف شتى؛ حتى ليصح أن نحصي من سلاطينهم أسرات تسلسل العرش فيها من والد إلى ولد إلى حفيد؛ فهناك أسرة بيبرس، وقلاوون، وبرقوق، في السلاطين المتقدمين، وأسرة قايتباي والغوري في المتأخرين. . .

وقد قلت في بعض ما سبق؛ إن محمد علي نفسه كان يؤمن بالحقيقة التاريخية التي تجعل حكمه في عرف المؤرخ المتجرد امتداداً للعصر المملوكي في صورة جديدة؛ ودليلي على ذلك هو حرص محمد علي على إبادة (النظراء) في مذبحة القلعة الغادرة؛ ثم حرصه وحرص المحترفين من مؤرخي عصره على إسناد كل نقيصة إلى المماليك ووسم عهدهم بالفوضى والتهتك والهتك والسفك، ليوقع في وهم هذا الشعب المغلوب على أمره أنه من طراز آخر وجنس آخر غير جنس المماليك وطرازهم، مع استمراره برغم ذلك في جلب مماليك من جنس آخر، ليتخذ منهم بطانة له وحاشية ويضع في أيديهم مقاليد الأمور في البلد الذي أدانه لحكمه. . .

وكان من خصائص الحكم المملوكي أن يحتفظ (المماليك) بجنسهم نقياً فلا يتخذوا من بنات الشعب أزواجاً ولا يزوجوه من بناتهم، إلا أن تكرههم على الخروج عن هذه القاعدة مكرهات لا قبل لهم بدفعها. وكذلك كان محمد علي وخلفاءه من بعده؛ فلم يحاول هو، ولم يحاول أحد من خلفاءه، أن يخلط نسبه بالشعب بالزواج من مصرية أصيلة النسب إلا محاولات في السنين الأخيرة للتقرب من الشعب بعد أن نضج وعيه، ولكنها كانت محاولات خادعة للإيهام بالصورة الظاهرة دون أن تغير شيئاً من حقيقة الأمر؛ فإن فلانة وفلانة وفلانة من زوجاتهم، لسن مصريات خالصات النسب؛ آباءهن وأمهاتهن من سلائل مماليك محمد علي؛ ومن أجل هذا دون غيره كان اختيارهن زوجات، وإن زعم من زعم من محترفي المؤرخين غير ذلك!

فقد ثبت إذن أن عصر محمد علي لم يكن شيئاً جديداً كل الجدة في التاريخ، ولا هو مرحلة فاصلة بين عهدين، ولكنه امتداد لعصر مضى في صورة جديدة. . .

هو جزء من عصر المماليك تميز بخصائص ليست من عصر المماليك ولكنها نشأت عنها وتولدت منها واتسمت بسماتها العامة. . .

وقد انتهت هذه المرحلة من العصر المملوكي في 23 يوليه الماضي، وبدأ الشعب يملي على التاريخ صفحة جديدة؛ فقد وجب إذن أن نضع الأسماء على مسمياتها ونسمي هذه المرحلة باسمها؛ ولن يكون اسمها أبداً كما أراد بعض محترفي التاريخ (عصر محمد علي)؛ فإن محمد علي لم يكن إلا واحداً من المماليك الذين بدءوا منذ عهد أيبك الجانكشير، ولم يكن خلفاءه إلا امتداداً لأسمه. . .

وقد اصطلح المؤرخون على تقسيم العصر المملوكي قبل محمد علي إلى قسمين: عصر سلاطين المماليك، ويبدأ من شجرة الدر إلى طومانباي المستشهد بأيدي الغزاة العثمانيين، ثم عصر المماليك الأمراء، ويبدأ من خاير بن ملباي الذي أقامه العثمانيين والياً على مصر بعد أن فقدت استقلالها، إلى أن خرج آخر (باشا) عثماني من القلعة بكفاح الشعب في أول القرن التاسع عشر، وإذن فليكن اسم العصر الذي يلي ذلك إلى 23 يوليه الماضي، هو العصر المملوكي الثالث. . .

محمد سعيد العريان