انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 1021/حياة المازني

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 1021/حياة المازني

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 01 - 1953



المازني والصحافة

(لست صحفياً بالمعنى الصحيح، وإنما أنا رجل كاتب) المازني

للأستاذ محمد محمود حمدان

صلة المازني بالصحافة صلة قديمة ترجع إلى ما قبل اشتغاله بها. فقد كان منذ سنة 1907 يكتب في الصحف التي تخصص جزءاً من صفحاتها للموضوعات الأدبية كالجريدة والمؤيد والدستور. وهذه الأخيرة هي الصحيفة التي كان يصدرها في ذلك الحين الأستاذ محمد فريد وجدي ويشترك في تحريرها الأستاذ العقاد. وعلى صفحات الدستور وعن طريقه تعارف المازني والعقاد فتلازما من بعد واقترن اسماهما وتوطدت بينهما صداقة سوف يعتز بها التاريخ الأدبي ما ذكرت صداقات الأدباء.

وفي سنة 1911 أصدر الأستاذ الشيخ عبد الرحمن البرقوقي مجلة (البيان) فتعهدها نخبة من الأدباء الناشئين في ذلك الجيل أمثال السباعي والمازني والعقاد وشكري. ونشر بها المازني فصولاً في الأدب والنقد ضمنها بعد ذلك أول كتاب صدر له وهو كتاب (الشعر، غاياته ووسائطه) (1915)، كما بدأ فيها ترجمة كتاب التربية الطبيعية أو إميل للفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو. وتوقفت البيان عن الصدور فتحولت تلك المدرسة الأدبية إلى صحيفة (السفور) التي كان يصدرها الأستاذ عبد الحميد حمدي على عهد الحرب الكبرى.

أما بدء اشتغال المازني بالصحافة بعد اعتزاله التدريس فقد كان حين دعاه الأستاذ عبد القادر حمرة، عقب الثورة، لمعاونته في تحرير صحيفة (الأهالي) وكانت تصدر بالإسكندرية، وكان المازني مريضاً متلف العصاب من اثر التجربة النفسية التي امتحن بها في ذلك الصدر من حياته والتي أشرنا إليها في الفصل السابق، فاشترط أن تكون مشاركته إلى حين.

وفي تلك المرحلة الباكرة من مراحل الحياة السياسية في مصر، كانت الصحف أكثر اهتماماً وعناية بالآراء والأفكار منها بالحوادث والأخبار، فكان طابعها الأغلب وأكبر اعتمادها على المقالة. وكان ذلك أقرب إلى طبيعة الكاتب في المازني، فلا جرم استطاع أ يلي حاجتها ويساير اتجاهها، متمشياً مع طبيعته محتفظاً بخصائصه، غير متكلف ما يعدل به عن مذهب الحرية والاختيار.

وكان المازني ممن شاركوا في هذا المجال وبرزوا فيه. ولفت ذلك نظر الأستاذ أمين الرافعي إليه، فدعاه إلى مشاركته في تحرير صحيفة (الأخبار) وهي إذ ذاك من كبربات الصحف الوطنية وأعلاها صوتاً، فعمل بها المازني سنوات، وفيها توطدت شهرته الصحفية، حتى ليمكن أن تعد تلك الفترة بداية التاريخ الصحفي في حياة المازني الكاتب الأديب. وفي الأخبار كان المازني ينشر إلى جانب مقالاته السياسية اليومية فصولاً أسبوعية في الأدب والنقد، ومنها الفصول التي جمعها بعد ذلك في كتابيه حصاد الهشيم وقبض الريح. وظلت هذه عادته في أغلب الصحف التي عمل بها.

وعمل المازني بعد ذلك في صحف شتى لا يعنينا هنا أن نحصيها في جملتها. واضطلع فترة رياسة التحرير في صحيفة (السياسة) تعرض أثناءها لما يتعرض له رؤساء التحرير المسئولون، فقد قدم إلى المحاكمة واستدعى للتحقيق معه غير مرة. في فترة تعطيل السياسة على عهد الوزارة الصدقية الأولى أصدر المازني بالاشتراك مع الأستاذين الدكتور محمد حسن هيكل ومحمد عبد الله عنان كتاب (السياسية المصرية وانقلاب الدستوري) في نقد سياسة ذلك العهد.

وقد حفلت حياة المازني الصحيفة في شتى مراحلها بالتجارب والأحداث، وكانت بعض هذه التجارب خليقة أن تعدل به عن وجهته وتحمله على الفرار بنفسه من الصحافة، ولكنه ظل صامداً إلى النهاية كما تعود أن يصمد في كل ميدان، وتغلب على متاعب المهنة كما تغلب على متاعب الحياة. ويروي المازني أنه كاد يتعرض يوماً للنفي بسبب مقال. وخلاصة الحادث أنه في بعض الأعوام كتب سلسلة مقالات عنيفة في الأخبار، يهاجم فيها الوزارة القائمة آنذاك. وكان من المعارضين لها. وحدث أن وقعت جريمة وحشية اعتبر الكتاب المعارضون مسئولين أدبيا عنها. وعلم بذلك الأستاذ أمين الرافعي فدعا إليه المازني وأخبره أن الوزارة قرت نفيه، وأن الأوفق أن يسافر إلى سويسرا حيث يراسل الأخبار من هناك. ويقول المازني: (أعددت حقائبي وأخبرت أمي وطمأنتها، وبت مؤرقاً طول الليل أنتظر أمر النفي وتنفيذه، وإذا بالوزارة تستقبل في فحمة الليل. . فنجونا ولما نكد!).

ومن طرائف المازني في الصحافة أنه اتفق يوماً مع صديق له من كبار رجال وزارة المعارف على أن يبعث إليه بمقالات في نقد أعمال هذه الوزارة، وكان المازني يعارض الحكم القائم، فكان هذا الصديق يرسل المقال إلى المازني فيحمله إلى بيته وينسخه بيده ويحرق الأصل اتقاء لعواقب التفتيش. ويقول المازني وهو يروي هذه الحادثة (قامت القيامة في وزارة المعارف، وانطلق بعض رجالها يسألون ويستخبرون ليهتدوا إلى كاتب هذه المقالات المزعجة، واستدرج بعضهم بعض العمال البسطاء، فعلموا أن المقالات بخطى، فلم يستغرب أحد أن أكون أنا الكاتب. وكنت في ذلك الحين أسكن حي الإمام الشافعي، ولي فيه أقارب وأصهار كثيرون، ومن بينهم شيخ الإمامين السبق المرحوم السيد أحمد محسن، فاتفف ذات ليلة أن كنت عائداً إلى بيتي، فإذا كل من يلقاني في طريقي يقول إن الشيخ يسأل عنك فذهب إلى بيته فلم أجده. وفي الصباح جاءني الخادم يقول إن الشيخ ينتظرني لأنزل معه في مركبته، فعرجت عليه وركبنا معا. وسألته عن الخبر، وكنا في رمضان، فقال: يا شيخ، حرام عليك! الرجل زارني أمس بعد الإفطار بربع ساعة، فهو إما غير صائم، أو هو لم يهنأ بطعام، وكل هذا من تحت رأسك! فاستزدته من البيان فقال: إن الوزير يعرف أنك كاتب هذه المقالات التي أقضت مضجعه، وهو مستعد أن يستصدر قرارا في الحال من مجلس الوزراء بإعادتك إلى الخدمة، وفي مثل الدرجة التي فيها أحسن زملائك حالا، وأن يحسب لك في معاشك المدة التي قضيتها خارج الحكومة. فضحكت وقلت: هبني كاتب هذه المقالات، فهل تكون الرشوة على هذه الصورة علناً، وعلى مرأى ومسمع من الخلق جميعاً؟ فقال لا تكن مغفلاً! ما خير هذه الصحافة؟ إن أسرتك كبيرة ونفقاتك كثيرة ولا اطمئنان على الرزق في الصحافة، فعد إلى عملك واستقر واحمد ربنا على الفرصة التي أتيحت لك. فقلت له: يا سيدي الشيخ، إن لكل ذمة ثمنها، ولا أحسبني فوق الرشوة إذا بلغت حد الإغراء، ولكنه ما من ذمة خربة تقبل الرشوة علنا ونهارا وجهارا على هذا النحو. ماذا يقول الناس؟ في المساء يقرءون الأخبار فإذا فيها مقال في نقد الوزارة، ثم يصبحون فإذا أنا موظف كبير في وزارة المعارف!).

ثم كان المازني في سنواته الأخيرة يعمل في أكثر من صحيفة، ويكتب إلى جانب ذلك للصحف التي تقترح عليه موضوعات الكتابة ولا تقيده بالناحية السياسية وحدها. وقد عد البعض من مآخذه أنه جمع بين صحف تتعارض في السياسة والمبدأ. أما هو فما كانت رسالة الصحافة لتختلف عنده بين صحيفة وأخرى، وما كانت تعنيه الحزبية على الإطلاق. وقد ظل طيلة اشتغاله بالصحافة مستقلا برأيه، بل كان المازني ربما كتب معارضا لرأي الحزب الذي يعمل في صحيفته. فهو يؤيد ما يعتقده صوابا ويعارض ما يراه مخالفا للصواب. وكان حكمه على الأعمال لا على الأشخاص. فلم يمنعه تقدير لزعم كسعد زغلول من معارضة سياسته، ولم تحل معارضته العنيفة لسياسة صدقي دون الاعتراف بكفايته وعبقريته. وفي حياة المازني الصحفية، وهي طويلة، لم تجتذبه المساجلات والمعارك التي كثيراً مأثور بين الصحف، وقلما عنى بالخوض فيها. ولا مراء في أن المازني كان، في بعض العهود، معارضا شديد المعارضة، ولكنه لم يكن يخرج في معارضته عن حد النقد النزيه والإرشاد والتوجيه.

وعلى الرغم من الصلة القوية بين الصحافة والسياسة، كانت الكتابة الصحفية وحدها حد المازني من المعترك السياسي، فقد نأى بنفسه عنه، وكان مستعداً حتى لترك الصحافة لو أنها كلفته النزول إليه.

ولقد فوتح في أمر ترشيحه للنيابة فرفض الفكرة ولم يأسف على رفضها، بل لقد رفض أن يتقدم لانتخابات الرياسة في نقابة الصحفيين برغم إلحاح زملائه عليه. وقد اختير في بعض السنين وكيلا لها وما أحسبه رضي بهذا الاختيار إلا لأنه قدر أنه مستطيع أن يخدم به الصحافة، ولأن المنصب في ذاته لا خطر له في غير دائرته المحدودة وهي دائرة النقابة.

وقد طال اشتغال المازني بالصحافة ولم يكن صحفيا مع ذلك، أو هو كان صحفياً في حدود خاصة ونطاق لا يتعداه. فقد كانت وظيفته الأصلية وهوى نفسه الكتابة لا الصحافة. وهو يقدم لنا في أحد فصوله كتابه الساخر الممتع (صندوق الدنيا) صورة وصفية لصحفي، يقول في ختامها على لسان رئيس التحرير: (يا صاحبي إنك كاتب لبق يسعك مالا يسع فرقة بآسرها من الكتاب حين تجلس إلى مكتبك، ولكنك حين تلقي الناس لا تعود صالحا لشيء أو قادر على شيء. فاذهب إلى مكتبك ولا تزايله فما نستطيع أن نخلقك خلقا جديداً!) وأكبر الظن أن المازني كان يصدر في بعض جوانب هذه الصورة عن شعوره الشخصي، وأنه كان يصور نفسه هو.

ونورد هنا حادثة لعلها فريدة في حياة المازني الصحفي نرويها لدلالتها على ما ذكرناه، ولما فيها من فكاهة وطرافة في آن.

ذلك أنه عقب عودة سعد من منفاه، وفي صباح اليوم التالي لوصوله إلى القاهرة، كان المازني واقفا في محطة الترام في الإمام الشافعي حيث كان يسكن، فمر به شيخ اللحادين وهم الذين يتولون حفر المقابر وحراستها والقيام عليها، فرآه وأفضى إليه بأن سعداً آت لزيارة مقابر الشهداء. فبعث المازني من جاءه بقلم وورق، ووقف ينتظر، وبعد قليل أقبل سعد في سيارته ومعه بعض صحبه في سيارة أخرى فأشار إليها المازني فحملته معهم. وزار سعد مقابر الشهداء وألقى كلمة وجيزة دونها المازني، ثم قصد إلى قبر شهيد قبطي وألقى كلمة أخرى دونها المازني أيضا. ولفت بعض الحاضرين نظر سعد إلى المازني فحياه.

ورجع المازني إلى الأخبار، واعتذر للأستاذ أمين الرافعي من تأخره، فضحك، وقال إن سعدا أخبره بالتلفون أن المازني أبرع صحفي في العالم، لأنه عرف أن سعدا سيزور مقابر الشهداء، مع أن الذين رافقوه ما كانوا يعرفون هذا!. . قال الأستاذ أمين الرافعي (وطبعا وافقته ولم أكشف له عن سر هذه البراعة!) أي أنه لم يقل له إن المازني يسكن بين المقابر!.

وبعد، فقد غبرت على المازني في الصحافة سنوات طويلات المدد، كانت كلها سنوات كفاح وجلاد بعياً به جبابرة الرجال. وأدركه منها بلاء لا يقاس إلى جانبه بلاء التدريس. وعجمت عوده فألفته لاهشاً ولا رخواً، وامتحنت معدنه فإذا هو معدن القوة الكامنة في قرار المحيط أو الثورة القابعة في كون الصحراء. ولم تكن طريق المازني في الصحافة سهلة معبدة، وكان بطبيعته المتمهلة الدؤوب لا يحسن الركض ولا يدين به، فهو لم يصل إلى مكانته إلا خطوة خطوة وفي هينة وأناة وإلا بعد طول التوقل والإصعاد. وكانت تزداد مع الأيام أعباؤه ومتاعبه فلا يزداد إلا فرط جلد واحتمال، أو فرط سخرية واستخفاف. وقضى المازني الفترة الأخيرة من حياته على رغم الشيخوخة الزاحفة لا يترفق بنفسه ولا يرحم كبرته فكان أكثر الكتاب الصحفيين إنتاجا. واستكتبته الصحف على اختلاف ألوانها ونزعاتها فلبى رغباتها وإن لم ينزل إلى مستواها، بل كان يلقاها في منتصف الطريق، ويحاول التوفيق بين طبيعته الفنية وبين الاتجاه الغالب على الصحافة وهو اتجاه القراءة السريعة الخفيفة. ولقد قال في هذا إن جانب الصحفي طغى على جانب الأديب فيه. ولا مراء في أن السرعة كان لها أثرها، أو جناينها على بعض إنتاجه الأخير. على أنه أصح من ذلك أن يقال إنها جناية الصحافة في عمومها على الأدب في عموم. ولم يكن المازني ضحيتها وحده، فقد شملت الجيل بأسره، وأدركت طوائف القراء كما أدركت طائفة الكتاب.

محمد محمود حمدان