انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 1020/مسرح وسينما

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 1020/مسرح وسينما

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 01 - 1953



غروب الأندلس

تأليف: الأستاذ عزيز أباظة

إخراج: الأستاذ فتوح نشاطي

تمثيل: الفرقة المصرية

للأستاذ علي متولي صلاح

كان خيراً كبيراً لو عرضت هذه المسرحية على الناس قبل حركة الانقلاب لا بعدها، إنها كانت تكون عندئذ (سابقة) لأوانها وليست (بعد) أوانها كما هي اليوم، فهي تصور الفساد الذي استشرى في دولة العرب بالأندلس والانحلال الذي دب في أوصالها مما يسبه إلى حد كبير الحال التي كانت بمصر قبل الانقلاب. ولو أنها عرضت قبل هذا الانقلاب لكانت إرهاصات له أو عاملاً من عوامله، ولكان لعرضها شأن غير الذي لها اليوم، ولكن القطار فاتها!.

كنا نود جاهدين أن نسمع - والملك في أوج طغيانه وجبروته - من يقول:

الملك يلهو والحوادث حوله ... متظاهرات والخطوب سراع

والقصر تفهق بالخنا قاعاته ... ويبيت يروي إثمها ويذاع

والحكم فوضى. . لبه وقوامه ... ذمم تسام - رخيصة - فتباع

وكنا نود جاهدين أن نسمع أن الملك المطلق العنان يقول لأمير الجيش عن الجيش:

هو جيش ألست مولاه؟؟ فيجيبه أمير الجيش في كبرياء بقوله:

كلا. . . ليس مولاه من سقاه السماما

واجبتبي الناشقين منه الأذلين ونحي أبطاله الأعلاما

وكأنما الشاعر كان يطل على نافذة الغيب فيعلم ما قيل تماماً بعد أيام معدودات!. . ولا أدري سبب ذلك الإهمال والشاعر يؤكد أن الرواية كلها كتبت قبل يوم 23 يوليو الماضي!.

أما أن تعرض هذه المسرحية التي تصور (الغروب) بعد أن يبدأ عندنا (الشروق) - وأع به طبعاً حركة الانقلاب - فقد جعل المسرحية ظلا للحركة الكبرى التي يعيش الناس فيها، أو صدى للصوت القوي الذي يملأ أسماعهم، ومن وجد البحر استقل السواقيا!.

على أن المسرحية لم تخل - على الأقل - من تعديل كبير أصابها بعد حركة الانقلاب أريد به (تمصير) بعض الحوادث، والإشارة إلى ما يزحم قلوب الناس من عواطف؛ فالأستاذ المؤلف مثلاً كان قد ألف مسرحيته (شجرة الدر) عام 1951م وقال فيها موجهاً الكلام إلى (أقطاي) أمير الجيش بصريح العبارة:

. . . ولكن السياسة مهنة ... إن راضها جيش هوى وتحطما

(أقطاي) دع ما لست تحسنه لمن ... عرك الأمور وساسها فتعلما

فإذا به اليوم في مسرحية (غروب الأندلس) يجعل (أزبك) أمير جيش مصر يقول عنها - فيما سمعناه من الممثلين - بصريح العبارة:

إذا أهل السياسة ظللوها ... فإن الجيش يهديها السبيلا!!

وليته لم يفعل فإن الفن يجب أن يحتضن الحقيقة المبذولة بين أيدي الناس ويسمو بها ويكون أبعد منها شأواً. لا أن تحتضنه الحقيقة بين جناحيها وتجعل منه - كما قلت - ظلا أو صدى لهما.

وأنا أقرر - قبل أن يتشقق الحديث - أن الأستاذ عزيز أباظه شاعر من أكبر شعرائنا، وأن الأمل المرجو منه كبير، ولكنني لا أتحدث عنه شاعراً وإنما أتحدث عنه مؤلفاً مسرحياً، وليس الشعر - كما يعلم القراء - غاية في المسرح وإنما في المسرح وإنما هو وسيلة، والوسيلة التي لا تصل بصاحبها إلى الغاية، أو التي تكون حائلا بينه وبين الوصول إلى هذه الغاية، أو التي تستنفذ كل جهده فينبت عن الوصول إلى الغاية، وسيلة يجب تحطيمها. والمسرح اليوم يقوم - في العالم كله - على نظرية (الحائط الرابع) فما هذه النظرية وما أصلها؟ أصل هذه النظرية افتراض أن المشاهد عند ما ابتاع تذكرة الدخول إلى المسرح أخذ على مؤلف المسرحية عهداً بأن يعرض عليه جوانب من الحياة كما هي لا كما يتخيلها الفنانون!. . . إن الشاهد الحديث رجل فيه فضول كثير، إنه يريد أن يستطلع أحوال الناس وأخبارهم، فهو ينظر إلى خشبة المسرح نظرة إلى غرفة حقيقية في منزل حقيقي بها ناس حقيقيون يناقشون مسائلهم الحقيقية، وليسوا ممثلين مهرة يزيفون له الحياة ويجعلون الخيال حقيقة، فيجب إذن أن يزول ما بينه وبينهم من حائط يحجبهم عنه، ذلك الحائط الذي يحول دون رؤية ما يقع في بيوت الناس، والذي نسميه نحن الستار! فإذا ارتفع فقد ظهرت الحياة حقاً وصدقاً! ظهرت مناظر حقيقية وإضاءة حقيقية وموضوع حقيقي أو في حكم الحقيقي، ولغة حقيقية مما تجري بين الناس فعلا في حياتهم العادية المألوفة.

هذا هو المسرح منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم، منذ (هنريك إسن). (برناردشو) ومن جاء بعدهما. فأين (غروب الأندلس) من هذا؟.

لقد صاغها الشاعر عزيز أباظة الشعر الجزل الرصين ولم يكن يستطيع إلا أن يصوغها بالشعر؛ فالشعر فيه أصل وطبيعة غلالة ولكن لمن صاغها بهذا الشعر الجزل الرصين؟ من من المشاهدين يقدر على فهم مثل قول الشاعر عن الإسلام مثلاُ:

تكاد عراء في الجزيرة تنضوي ... وتنقد أشطان له وطنوب!

ومن من المشاهدين يقدر على فهم قول الشاعر في خطاب موسى إلى الملك مثلاً:

إذا ند عنك اليوم بارح كيدهم ... فإنك مغروس غدا فمتبر

وإن مطاياهم لتكرم وسقا ... فإن أبلغتهم جدلوها وعقروا

أو مثل أقواله (ولأنت من قوم إذا انأطر القنا) أو (هل كان إلا صدى ضعف خذئت له) أو (لآثروا الموت قصصاً) أو سوى ذلك وهو كثير وكثير.

ولأول مرة نرى مسرحية تذيل صفحاتها بشرح لمعاني الكلمات الصعبة مما برئت منه حتى مسرحيات شوقي! وإذا كان القراء وهم يقرءون في مهل وأناة، وهم إلى ذلك الصفوة المختارة من المشاهدين، فكيف بالمشاهدين الذين يستمعون الأقوال وهي تمر بهم سريعة خاطفة، ثم هم أخلاط من الناس لا يشترط فيهم إلا أن يدفعوا ثمن تذكرة الدخول؟. . إن للشعر مكانة العالي في الغنائيات والملاحم وما إليها؛ أما المسرح الذي يراد به تصوير الحياة والأحياء، والذي هو مدرسة للناس جميعاً، فليس لمثل هذا الشعر العالي فيه مكان. وإن كان لا بد من الشعر في المسرح - وهو مالا أراه - فليكن شعراً مخففاً ممزوجاً بالماء، شعراً سهلاً ميسوراً يفهمه الناس جميعاً؛ لأن الناس جميعاً يشاهدون المسرح أو يجب أن يشاهدوه، ليكن من بحر (الرجز) دون سواه وهو البحر الذي يقابل تفعيلات (الأيامب) عند الأوربيين يوم كان لا يزال مسرحهم يقول شعراً! أما اليوم فقد خفت صوت الشعر في مسرحهم خفوتاً كبيراً ولم يبق فيهم إلا مثل (ت. س. إليوت) وهو رجل متشائم حزين ضيق بالحياة يحن إلى يوم الخلاص منها يقول فيما يقول (نحن أشكال بلا قوالب، نحن ظلال بلا ألوان؛ نحن قوى مشلولة، نحن إشارات بلا حركة).

وأريد أن أدفع وهما قد يتبادر إلى بعض الناس من أن شهود جمهور الناس لمثل هذه المسرحية دليل على وعيهم وارتفاع مستواهم، فهذا قول مردود؛ لأن مثل هذه المسرحية - بما احتشدت به من العطات والخطب والحكم الغوالي - إنما تخاطب في الناس غرائزهم الأولى وعواطفهم المجردة، عواطفهم الدينية والوطنية والخلقية وما إلى ذلك، إنهم لا يتعمقون فهمها واستكناه بواطنها ولكنهم يفهمونا فهما عاما كله ضباب وظلام، إنهم يرقصون من جرس ألفاظها كما يرقص الزنوج تماماً على دقات الطبول، وليس هذا من وظيفة المسرح في شيء!.

والمسرحية تدور حول الأيام الأخيرة لدولة العرب في الأندلس، وليس فيها موضوع متصل يسري فيها وينفخ الحياة في جوانبها، ولكنها صور متلاحقة متتابعة - وإن كانت قليلة إلى جانب ما يكتنفها من كلام كثير - تتعاقب وتترى كما تقلب تماماً صفحات من كتاب في التاريخ. . الأميرة (بثينة) تغري الأمير (يحيى) بإطلاق السجناء من ذويها، فيطلق الأمير هؤلاء السجناء، ثم يجتمع هؤلاء الطلقاء ويجنحون إلى (بني سراج) فينضمون إليهم، ويتكالفون على الملك، ثم يعتزل الملك ملكه؛ ثم يتولى ابنه؛ ثم ثم ثم الخ؛ وتنسدل الستارة في نهاية كل فصل ببيت من طراز الخطب المنبرية التي تصفق لها الجماهير طويلا، فينتهي الفصل الأول - مثلاً - بقول الشاعر:

من لم يدعم بالأسنة ملكه ... والحزم. . . بات مفزعا لم يسلم!

وينتهي الثالث بقوله:

واضيعة الإسلام إن لم تقهروا ... أهواكم. . . واضعية الإسلام

وهكذا تمضي المسرحية وكأنها ديوان شعر، فلا نرى موضوعاً ينبض بالحياة، ولا نرى شخصيات قد رسمها لنا المؤلف رسماً تبدو ملامحه وقسماته في وضوح وامتياز. . . لقد عالج شكسبير المسرحية التاريخية ولكنه استطاع في مسرحية (هنري الرابع) مثلا إلى جانب الموضوع القوى أن يخلق لنا شخصية (فولستاف) الحية الممتازة التي تجمع بين الجد والفكاهة جمعاً بلغ الذروة في كل منهما، واستطاع في مسرحية (يوليوس قيصر) أن يخلق لنا شخصية (بروتس) الخالدة التي ما تفتأ تشير في النفوس عاطفة الانتقام. . ولكن شخصيات عزيز أباظة شخصيات باهتة لا تعرف لها ملامح ولا قسمات ولم يلق الأستاذ عليها من الأضواء ما يجلوها للناس، بل لم يلق باله إليها إطلاقاً وإنما كان كل باله إلى الشعر دون سواه، على أن شاعرنا الكبير يقع في أمور كنت أود ألا يقع فيها، فهو يقول (أخ الملك الغوي) والصواب أن يقول (أخو الملك الغوي) ويقول (ركبنا الهوى والأثام الشنيعا) يريج افثم، وليس الأثام هو الإثم وإنما جزاء ذلك الإثم والله يقول (ومن يفعل ذلك يلق أثاماً) وغير ذلك مما لا يجوز من شاعر كبير كالأستاذ عزيز أباظة. . ولو أن الأستاذ عني بحادثة الغرام الحقيقي بين بثينة ومحمد بن سراج والغرام الوهمي بينها وبين الأمير (يحيى) لجعل منه مسرحية، ولو اختزل شيئاً من حوادث التاريخ واستبدل به صورة حية أو صورتين تنبضان بالحياة لخلق لنا مسرحية، ولكنه لم يفعل! وأشهد لقد أنفق الممثلون مجهوداً جباراً شديداً. ولقد كنت أشفق على (أمينة رزق) وهي تبذل من ذات قلبها ومن ذات نفسها لتنفخ الحياة في دورها واستطاعت ذلك إلى حد كبير رغم العقبات اللفظية التي كانت تنوء بحملها، وأشهد لقد استطاع (فؤاد شفيق) واستطاع (حسين رياض) أن يلونا كلامهما ويملأه بالحياة والمعاني، وقد كان دور ثانيهما مما لا ينبض به إلا أولو العزم. أما (فردوس حسن) فقد كانت جامدة كالتمثال وتأبي إلا أن تكون أميرة في كل الأوقات! ونسيت أنها كانت تقوم بدور العاشقة المخادعة لمخاتلة!.

وبعد: فهذه كلمة عابرة في مسرحية (غروب الأندلس) وليس الذي سقنا فيها بمانع أن نموه بما ينفق الأستاذ عزيز أباظة من جهد حميد للشعر والأدب، ولكننا نريده للمسرح أيضاً. إن الشعر أفضل ما فيه، فهل يجمع إليه الفن المسرحي الذي هو اليوم جماع الفنون جميعاً؟ وعند ذلك تسقط حجتنا ولا نستطيع أن نقول له يومئذ ما نستطيع أن نقوله له اليوم من أن إلهة الشعر قامت عن ميامنه ولكن ربة المسرح لم تقم عن مياسره؟.

علي متولي صلاح