انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 1016/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 1016/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 12 - 1952



شجرة عيد الميلاد

للقصصي الروسي فيدور دستويفسكي

منذ أيام شاهت عرسا. . . ولكن لا، فلن أتكلم عن العرس بل عن شجرة عيد الميلاد. . . لقد كانت حفلات العرس جميلة وأحببتها حبا شديدا ولكن حادثة شجرة عيد الميلاد أجمل. . . ولا أعرف لماذا أتذكر شجرة عيد الميلاد كلما رأيت عرسا. . . ولكن هذا هو الذي حدث:

منذ خمسة أعوام كاملة دعاني إلى حفلة راقصة أقيمت للأطفال خصيصا رجل من أغنياء التجار له قرابته، وله معارفه، وله أيضاً دسائسه. وقد ظهر لي أن تلك الحفلة لم تكن إلا ذريعة لكي يجتمع الآباء والأمهات ويتحدثون فيما يهمهم بتلك النزاهة المعتادة.

وكنت دخيلا في هذه الحفلة لأنه لم يكن لي بأحد شأن خاص. لذلك كان في استطاعتي أن اقضي هذه الحفلة بينهم وأنا بمعزل عن كل واحد منهم. وكان بين الجلوس واحد يشابهني في ذلك، فكان لهذا السبب أول من استرعى انتباهي، ولم يكن مظهره دالا على أنه ابن أسرة كبير أو أنه نبيل المولد. وهو طويل القامة نحيل جدا، تبدو عليه علائم المبالغة في الجد والوقار. وهو شديد الأناقة في ملبسه، ويظهر أنه لم يكن يميل إلى هذه الاجتماعات العائلية.

ولم أكد أدنو منه في الركن الذي هو جالس به حتى تزايلت ابتسامة كانت مرتسمة على وجهه. وعلا وجهه العبوس. ولم يكن يعرف أحدا ممن بالحفلة غير صاحب المنزل، وقد أبدى كل علامة على السأم والملالة وإن كان قد بقي إلى نهاية الحفلة وبه من الشجاعة ما بأي إنسان يقاوم نفسه حتى يحملها على ما تكره. وقد علمت فيما بعد أنه من أهل الأقاليم، وأنه كان يحمل خطاب توصية إلى مضيفنا، فدعاه هذا من باب المجاملة إلى حضور الحفلة. ولكن أحدا لم يدعه إلى لعبة الورق ولم يقدم إليه لفافة تبغ ولم يبدأ معه حديثا. ولعلهم كانوا ذوي فراسة فعرفوا الطائر في مسبحه بالجو من لون ريشه. لذلك قضى الليل في فتل شاربيه. وكان شارباه جميلين، ولكنهما كانا كبيرين حتى ليخال من يراه أن الله خلقهما أولا ثم خلق هذا الرجل تابعا لكي يفتلهما.

وكان من المدعوين رجل آخر استرعى انتباهي، ولكنه من نوع غير هذا النوع، فإن مجرد النظر إليه يدل على أنه صاحب شخصية وكانوا يدعونه جوليان ماستا كوفتش.

وكانت النظرة الأولى إليه تدل على أنه موضع الحفاوة والتكريم، وأن مركز صاحب المنزل منه كمركز صاحب الشاربين الطويلين من صاحب المنزل. فقد كاد لا ينقطع سيل الفكاهات والطرائف التي يتحدث بها إليه صاحب المنزل وزوجه. وهما كثيرا الالتفات إليه، يدنوان منه ويحومان حوله ويستجمعان الضيوف لتقديمهم إليه. ولكنهما لا يقودانه ليقدماه إلى أي إنسان. وقد رأيت الدموع تترقرق في عيني صاحب المنزل وفي عيني زوجه لما قال جوليان ماستا كوفتش إنه قلما قضى ليلة سارة كهذه الليلة. وقد أخذت بعد انتهاء الحفلة أشعر بالسأم من هذا الضيف فانصرفت إلى الأطفال أتسلى في ملاحظاتهم، وكان خمسة منهم يستحقون النظر والملاحظة، فهم شهادة بعناية أمهاتهم بهم. ثم تركت الغرفة بعد ذلك إلى الغرفة المجاورة ولم يكن فيها أحد، فجلست في طرفها المجاور للمكان الزجاجي المعد لحفظ الأزهار في غير فصولها.

وكنت لا أزال من مكاني هذا أراقب الأطفال، والحق أن رؤيتهم تسحر.

لقد كانوا يأبون محاكاة من أهم أكبر منهم على الرغم من الجهود التي كانت تبذلها أمهاتكم ومربياتهم، ولم تمض ساعة حتى نجنح هؤلاء الأطفال في تجريد شجرة عيد الميلاد من أوراقها وأعوادها وفي كسر أكثر من نصف اللعب المعلقة فيها قبل أن يقتسموها بينهم.

وكان أحد هؤلاء الأطفال فتان الحسن أسود العينين مجعد الشعر، وقد أصر في عناد على تصويب بندقيته نحوي. وقد استرعى نظري كثيرا؛ ولكن أخته استرعت نظري أكثر مما استرعاه. وهي في عامها الحادي عشر، ولا يقل جمالها عن جمال كيوبيد، وتبدو علائم الهدوء والتفكير. وعلى عينيها الواسعتين وسم الأحلام، وقد أغضبها الأطفال لأمر ما فتركتهم وانسحبت إلى الغرفة التي كن جالسا فيها فجلست في ركن منها وفي يدها الدمية تلاعبها.

وكان كل من الضيوف يحدث جاره بأن أباها من أغنى التجار وبأنه منذ الآن قد أعد لها صداقا قدرها 300 ألف روبل.

ولما التفت إلى الجماعة الذين سمعتهم يتحدثون بهذا وقع نظري على جوليان ماستا كوفتش فوجدته واقفا ينصت إليهم ويداه مشتبكتان خلف ظهره، ورأسه مائل إلى الجانبين، وكنت طول هذا الوقت أعجب من الذكاء الذي أبداه صاحب المنزل في توزيع الهبات على الأطفال، فالطفلة التي أعد لها أبوها مهرا كبيرا تهدي أحسن لعبة، وسائر اللعب تقسم وفق مراكز الآباء في الحياة الاجتماعية.

وكان أخر طفل دعي لتقدم إليه هدية يبلغ من العمر عشرة أعوام، وهو هزيل أحمر الشعر ضعيف البنية. وكانت هديته كتاب قصص ليس فيه صور ولا رسوم. وهو ابن المربية، وهي أرملة مسكينة. وشكل الطفل دال على الحزن، وعليه كساء رث، فتناول كتابه وانساب في بطئ بين الأطفال حاملي اللعب.

وقد كان يود أن يبذل أي شيء ليلعب معهم ولكن كيف وليست له لعبة؟

إنني من الذين يحبون أن يراقبوا الأطفال ليروا كيف تناضل أرواحهم روح الجماعة.

وقد لاحظت أن لعب الأطفال كانت سحرا وفتنة في نظر الطفل الأحمر الشعر. وشرع الأطفال يلعبون فأصر على أن يلاعبهم وعلى أن يناضل لو منعوه؛ فابتسم وسار نحو واحد منهم فأقامه من مكانه وجلس بدله لأن الأطفال كانوا قد جلسوا في دائرة ولم يتركوا له مكانا.

ولكن ذلك الطفل حمل عليه فلطمه لطمة قوية، فلم يلبث أحمر الشعر أن رفع صوته بالبكاء، وجاءت أمه فنهته عن اللعب معهم فأنسحب نحو الغرفة التي كنت جالسا بها مع الفتاة التي تقدم ذكرها. وتركته الفتاة يجلس بجانبها واشتركا في إلباس الدمية ثوبها.

ومضى نحو نصف ساعة، وكاد النعاس يدركني وأنا جالس أنصت حينا إلى حديث الطفل أحمر الشعر ويشرد ذهني حينا. وعلى حين فجأة دخل جوليان ماستا كوفتش وكان قد انسحب من غرفة الجلوس التي أنا فيها عندما اشتد ضجيج الأطفال. ولم يغب عني وأنا جالس أراقبه من الركن الذي أتى فيه أنه كان في الفترة الأخيرة من الوقت يتحادث مع والدة الطفلة الجالسة معي في الغرفة.

وظل واقفا بعد الحديث يفكر وكأنه يعد على أصابعه - ثلاثمائة - أحد عشر - إثنا عشر عاما - خمسة أعوام - سعر أربعة في المائة - خمسة أضعاف، ستون وأربعمائة.

ويظهر أن هذا الخبيث يعجبه الحساب على سعر أربعة في المائة، ثم أعاده على حساب ثمانية، ثم على حساب عشرة.

وخرج من الغرفة فأطال النظر إلى الطفلة. وقد تخطاني نظره فلم يرني؛ ويظهر أن الحساب هو الذي أغفله عني، ثم مسح يديه وأخذ يتنقل من مكان إلى مكان وهو لا يزال يزداد اضطرابا.

وأخيرا تمكن من ضبط عواطفه وألقي نظره على عروس المستقبل وهم أن يتجه نحوها، ثم وقف بمثل حالة المخطئ الذي يؤنبه ضميره وانتصب على أطراف أنامله أمام الفتاة وانحنى يقبلها وهو يبتسم وقد كان إقباله نحوها على غير انتظار حتى أنها صرخت عند تقبيله إياها صرخة فزع.

قال لها بصوت خافت وهو يقرص خدها: (ما الذي تفعلين هنا يا بنية؟ فأجابته: (نحن نلعب) فقال بلهجة المستنكر: (مع من؟ مع هذا؟) وأشار إلى ابن المربية ثم قال له: (يجب أن تذهب إلى الغرفة الأخرى).

وظل الطفل صامتا وهو ينظر محملقا في وجه الرجل، فدار جوليان ماستا كوفتش بنظره في الغرفة ثم أكب على الفتاة وقال: (ماذا معك يا عزيزتي؟ دمية!) فأجابته: (نعم يا سيدي) وقد قطبت حاجبيها وهي تجيب. قال: (دمية؟ من أي شيء تصنع الدمى؟!).

فأحنت رأسها وقالت: (لا أعرف يا سيدي)

قال: (تصنع من الخرق) ثم نظر إلى الطفل وقال: (أذهب أنت إلى الغرفة الأخرى التي فيها الأطفال)

وكانت نظرته إلى الطفل في هذه المرة نظرة قاسية؛ فقطب الطفلان وتشبث كل منهما بالآخر وأبيا أن يفترقا، فقال جوليان وهو يخفض صوته: (وهل تعرفين لماذا أعطوك هذه الدمية؟) فقالت: لا.

قال: (لأنك كنت طيبة - طيبة جدا طول الأسبوع) قال ذلك ثم عراه اضطراب شديد ونظر حوله بصوت خافت يكاد لا يسمع وبلهجة شديدة الدلالة إلى فقدان الصبر: (إذا جئت إلى منزلكم لزيارة أبيك فهل تحيينني يا عزيزتي؟)

وحاول أن يقبلها على أثر هذا السؤال، ولكن الطفل الأحمر الشعر أمسك بيدها كمن يريد أن يحميها وبكى بأعلى صوته كالمستجير فأثارت حركته هذه غضب الرجل وصاح: (اذهب! اذهب إلى الغرفة الأخرى حيث يلعب رفاقك) فقالت الطفلة: (لست أريد أن يذهب؛ فاذهب أنت ودعه هنا)

وكادت الطفلة تبكي. وسمع وقع أقدام من ناحية الباب فأنزعج جوليان، وكان الطفل الأحمر الشعر أشد منه انزعاجا فترك يد الطفلة وتسلل إلى غرفة المائدة. وكي لا يسترعي جوليان نظر أحد ممن بغرفة الجلوس تسلل هو أيضاً إلى غرفة المائدة، وكان وجهه قد صار من الاحمرار في مثل لون الحناء، حتى أن نظرة واحدة منه إلى وجهه في المرآة تكفي لإزعاجه. وكان سبب الاضطراب كله أن حسابه أضله فأوهمه أن الطفل عقبة في سبيل الثروة التي تنتظره. نعم إنه الآن لا يزال في العاشرة فهو قليل الخطر ولكنه سيصبح خطرا بعد خمسة أعوام أو نحو ذلك. وتتبعتهما بنظري فوجدت نظرات جوليان صارت كأنها نظرات ثعبان، وأصبح صوته مسمما. وأخذ يتوعد الطفل. وكان الطفل يتراجع أمام هذا الوعيد حتى لم يعد مكان يتسع لتراجعه، وكان جوليان يصيح به:

أخرج من هنا! ما الذي تصنعه هنا؟ تسرق الفاكهة! أليس كذلك؟ اذهب من هنا يا دميم إلى أمثالك!)

وأدرك اليأس هذا الطفل المسكين فأنكمش ودخل تحت المنضدة فحار مطارده ثم أخرج منديله وفتله فجعله كالسوط وضرب به الطفل ليخرجه من مكمنه.

ولا بد هنا من الملاحظة أن جوليان كان قوي البنية ضخم الخدين تبدو عليه علائم التغذية الجيدة. وكانت أطراف أصابعه كأنها لضخامتها حبات البندق وقد أحالته كراهيته (أو لعلها غبرته) نحو الطفل إلى الجنون المحض.

ضحكت من أعماق قلبي فالتفت جوليان ولعله ذكر في هذه اللحظة احترامه نفسه وكبر أهميته. وفي الوقت نفسه ظهر صاحب المنزل عند الباب وخرج الطفل من تحت المنضدة فأخذ يمسح ذراعيه وركبتيهوأسرع جوليان فجمع منديله الذي كان مفتولا كالسوط وجعله تحت أنفه

ونظر صاحب المنزل إلى ثلاثتنا نظرة المرتاب، ولكنه وهو رجل يعرف الكثير من شؤون الدنيا قد انتهز هذه الفرصة لينال من ضيفه الكثير الأهمية أكثر ما يستطيع أن يناله منه فقال: (هذا هو الطفل الذي حدثتك عنه وأنا أعتمد على فضلك فيما يتعلق به) وأشار إلى الطفل الأحمر الشعر.

ولم يكن جوليان قد استرجع إلى الآن سيطرته على نفسه فقال وهو شارد الذهن: (أهذا هو؟)

قال صاحب المنزل: (هو ابن المربية، وهي فقيرة مسكينة وقد كان زوجها موظفا شريفا، فإن كان في وسعك. . .) فصاح جوليان مقاطعا: (مستحيل مستحيل! أرجو أن تعذرني يا فيليب ألكسيفنش فلا توجد محال خالية، وفي قوائم المرشحين نحو عشرة أحق منه. . . إنني آسف)

فقال صاحب المنزل: (مسكين! مسكين!)

قال جوليان (إنه شقي شرير. اخرج من هنا أيها الوغد الصغير. لماذا بقيت حتى الآن؟ اخرج إلى سائر الأطفال)

ونظر إلي نظرة جانبية وهو عاجز عن السيطرة على نفسه وأنا أيضاً عاجز عن السيطرة على نفسي، فضحكت في وجهه ساخرا منه، فالتفت إلي المضيف وسأله بصوت يكفي لبلوغ مسمعي عمن عسى أن أكون. وتهامس الرجلان وخرجا من الغرفة غير مباليين بي.

واهتز جسمي من شدة الضحك وخرجت أيضاً إلى الغرفة الأخرى. وهناك رأيت الرجل العظيم محاطا بالآباء والأمهات وهو يتكلم باهتمام مع سيدة قدمت إليه في تلك اللحظة. وكانت تلك السيدة ممسكة بيد الطفلة، وكلام جوليان كله إطراء للطفلة وثناء عليها، فهو يتنقل من مدح جمالها إلى مدح مواهبها إلى مدح تربيتها والأم تصغي إليه ولا تكاد تمنع دموع السرور أن تفيض، والأب يبدي علامة لشكره ابتسامة عذبة.

وكان السرور شاملا فاشترك فيه كل إنسان حتى الأطفال، ووقفوا اللعب حتى لا يشوشوا على المتحدثين. وسمعت أم الطفلة وهي تتخير المنتقى من اللفظ في مخاطبة ذلك الرجل داعية إياه أن يتنازل فيشرف منزلها بالزيارة، وسمعته يقبل الدعوة في تحمس لا يحاول أن يخفيه ثم تجمع المدعوون من أرجاء الغرفة مقلبين نظرهم بين والدة الفتاة وبين جوليان.

وسألت جارى بصوت عال سمعه الجميع: (هل هو متزوج).

فنظر إلي جوليان نظرة مسمومة وقال لي جارى: (كلا) ولكن سؤالي وإن أجاب عنه سلبا قد أثار اهتمام الجميع.

ومنذ عهد غير بعيد مررت بكنيسة فرأيت عند بابها جمعا كبيرا قد احتشد ليحضر حفلة عرس - وكان اليوم مكفهرا وقد بدأ المطر يتساقط. واخترقت الصفوف فدخلت فرأيت العريس بدينا مترهلا تبدو عليه علائم التغذية الدسمة. ورأيت رجلا قصيرا يروح ويغدو من طرف الكنيسة إلى الطرف الآخر وهو لا يكف عن إصدار الأوامر.

وأخيرا سمعت أن العروس مقبلة فاندفعت في وسط الزحام، ورأيت جمالا عجيبا قد اكتسى بعلائم الحزن العميق.

كانت العروس شاحبة مضطربة حتى لقد خلت عينيها حمراوان من أثر البكاء. وتحت مظهري الجمال والحزن طهارة الطفولة التي كانت كأنها تضرع وتتوسل طالبة الرحمة.

وكانوا يقولون أن عمرها ستة عشر عاما. ونظرت إلى العريس محققا مدققا فعرفت أنه جوليان ماستا كوفتش الذي لم أكن قد رأيته في الأعوام الخمسة الماضية. ثم نظرت إلى العروس ورحماك يا رب ولطفك!

رأيتها فوليت فرارا من باب الكنيسة على عجل وسمعت الناس يتحدثون عن غنى العروس وعن بائنتها البالغة 500 ألف روبل.

قلت في نفسي: (لقد صدق حساب هذا اللعين). وأسرعت في مشيتي فرارا.

ع. ا