انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 1012/الإسلام في موكب الإصلاح

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 1012/الإسلام في موكب الإصلاح

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 11 - 1952


دولة الألقاب

للأستاذ محمد عبد الله السمان

كانت الألقاب الملغاة دولة داخل مصر، لها سلطانها وصولجانها، ولها جلالها ونفوذها، ولها كلمتها المسموعة، وارتدادها التي لا ترد، ولكنها كنت دولة هزيلة لم يقم العقلاء لها وزن، ولم يلق الحكماء لها بالاً.

وكان الملك العربيد - الذي الغي لقبه من الوجود قبل أن تلغى دولة الألقاب - يجعل منها دمية يلهو بها، ويشغل بها الطبقة المترفة من هواة الألقاب الجوفاء، وغواة المظاهر الكاذبة، وأشيع الفوضى والعربدة، ليتخذ الجميع منها ستاراً يحجب مخازيهم، وحصانة تدفع عنهم سيف العدالة وسلطان القانون، ومطية للاستغلال الممقوت على حساب الشعب المكدود. وكان لهذه الدولة الهزلية سماسرة يعرضونها في الأسواق، ويساومون عليها طلاب الغرور وعشاقه من أثرياء الحرب المفتونين، وأرباب العصبيات الفاجرة، وغيرهم ممن يجيدون استغلال الألقاب، وتكييف سلطانها ونفوذها.

لقد لبثت دولة الألقاب في مصر عمراً طويلاً، دعمت خلاله صرح الفروق بي الشعب واحد، تقله ارض واحدة، وتظله سماء واحدة. وثبتت دعائم الطبقات في وطن واحد، لا ينتسب إليه زائف، ولا ينتمي إليه دخيل؛ وبذرة بذور الفوضى بين أرجاء الكنانة حتى أثمرت الأحقاد في الأفئدة، والعداوة في النفوس، والبغضاء في الصدور، وبثت جراثيم الهمجية حتى أنتجت الجرائم في شتى صورها، والشرور في مختلف ألوانها.

ولقد جاء إلغاء دولة الألقاب في مصر خطوة صلاحية لها قدرها. واعتقد أنها ليست بأقل قدراً من خطوة تحديد الملكية فإذا كان تحديد الملكية خطوة مادية في سبيل توازن الطبقات، فان إلغاء الألقاب خطوة أدبية في سبيل المساواة الأدبية، التي لا غنى عنه لشعب يبغي حياة أدبية كريمة، واعتقد أن تفاوت الطبقات المادي لم يكن إلا ثمرة من ثمرات دولة الألقاب، ففي ظلها أستغل أشياعها مورد البلد وخيراته، وسخروا الدولة بأسرها لحسابها، حتى تكدس الثراء لديهم تكدساً أتخمت منه خزانتهم فعمدوا إلى الأرض يبتاعونه بأفحش الأثمان وأبهظ الأسعار، حتى أوشكت جميعها أن تكون ملكاً لعصاباتهم، فيتحكمون أرزاق الشعب وأقواته لولا أن الله سلم.

ولسنا في حجة إلى أن نقول: إن هذه الخطوة لمباركة، خطوة إصلاحية محضة يرحب بها الإسلام لأنها اصل من أصوله، وهل يوجد من ينكر على الإسلام أنه لم يقم بناءه إلا على دعامة المساواة المطلقة؛ وأنت حين تتدبر أول آية نزلت من كتاب الله تجدها لم تهمل قاعدة المساواة، ففيها وضح أن الناس جميعا متساوون، إذ انهم خلقوا جميعاً من مادة واحدة: (أقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. .) ونزلت بعد هذه الآية آيات لا حصر لها، مؤكدة هذه القاعدة، وذلك حين تشير إلى أن الناس جميعا مخلوقون من نفس واحدة، أو من ذكر وأنثى وما إلى ذلك: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة. .) (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى).

والإسلام الذي أقام بناءه على قاعدة المساواة لا يمكن أن يقر هذا الألقاب، أو يتعرف به كمقياس لتقدير ذويها، ودليل على استحقاقهم للتقدير، لأن للإسلام مقياساً وحداً لإخلاص المخلص، وإنتاج المنتج، ومثابرة المثابر، واجتهد المجتهد، وهو: (إن أكرمكم عد الله اتقاكم. .).

ولا يمكن أن يقر الإسلام هذه الألقاب، وهي التي تميز بعضها من الناس على البعض لآخر، وتملأ أنوف أصحابها تكبراً وغروراً وصلفاً، بل إن الإسلام، وقاعدته السماوات المطلقة بي الناس جميعا، لم يشاء أن يلقب بين إنساناً - كائناً من كان - بأي للقب يميزه على غيره، وقد يقول قائل: لقد كانت هناك ألقاباً مثل: أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين، والأمير، ونحن نقول له: إن هذه ليست ألقابا بالمعنى الذي نراه، إذ أنها ألقاب عائدة على المناصب أصحابها لا على أشخاصهم، كما نسمي رئيس الوزارة، والوزير، والمدير، والمأمون ومن إليهم، وهذه ليست بالألقاب التي نرمي إليها.

إن الله تعالى اختار رسله من خير البشر، ليقوموا بمهمات شاقة مضنية وهي الرسالات، ومع هذا فلم يمنحوا لقباً واحداً يميزهم على سائر البشر، اللهم إلا الأسماء التي تشير إلى مناصبهم كرسل أو أنبياء، ولقد أفاض القران الكريم بذكر أسماء الرسل مجردة من الألقاب، لتأكيد قاعدة الإسلام التي قام عليها وهي المساواة: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل. . - محمد رسول الله والذين آمنوا معه أشداء على الكفر رحماء بينهم. . - ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين. . - قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك. . - وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين وما تلك بيمينك يا موسى؟ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض. . - يا زكريا إنا بشرك بغلام اسمه يحيى. . - يا يحيى خذ الكتاب بقوة. . - إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك. .).

والرسول (ص) عنى كل العناية بهذه القاعدة - قاعدة المساواة - فطالما صاح في آذان صناديد قريش، منبت العصبية الجامحة والعنجهية الكاذبة، والغرور الممقوت: (كلكم لآدم وآدم من تراب - الناس سواسية كأسنان المشط).

بل لقد كان رسول الله (ص) يكافح الغرور في النفوس فكرة أن الإنسان اسم يهب له الغرور والكبرياء، حتى لا يهوى من غير أن يشعر، قال أبو هريرة حديث رواه البخاري: إن زينب كان اسمها برة فقيل تزكي نفسها فسماها رسول لله (زينب) وقد روى البخاري أيضاً عن أبي هريرة أن رسول الله قال: (أخنع الأسماء عند الله رجل تسمى بملك الأملاك وبعد - فلقد جاء إلغاء الألقاب خطوة موفقة في سبيل الإصلاح الاجتماعي الذي لله خطره وله قدره، فحطمت الفوارق ومحت دولة الطبقات، وأذكت في النفوس الشعب نخوة الاعتزاز بقدره، وبقى أن تتم الخطوة بالإتيان على فلول دولة الألقاب من الإمارات والبالة والسمو، فهي أولى بالإلغاء من الباشوية والبكوية وما إليهما، واجدر بأن تمحو لا ثر بعده فقد كانت أسس الفساد، وأصل الشقاء، في بلد أحسن إليها فقابلت إحسانه بالإساءة، وفضله بالنكران!

محمد عبد الله السحاق