مجلة الرسالة/العدد 1011/الميسر والأزلام
مجلة الرسالة/العدد 1011/الميسر والأزلام
3 - الميسر والأزلام
للأستاذ عبد السلام محمد هارون
الخريطة:
وتسمى أيضا (الربابة) بكسر الراء، وهي وعاء من الجلد مثل كنانة سهام الرمى، توضع فيها القداح. وهي واسعة ليمكن استدارة القداح فيها واستعراضها، ولها فم ضيق بقدر أن يخرج منها قدحان أو ثلاثة، أو بعبارة اصح يمكن أن يضيق ويوسع بخيط يشد فيه، بحيث لا يسمح في حالة التضييق بخروج أكثر من ثلاثة أقداح
الحرضة
بضم الحاء، ويسمى أيضا (المجيل) و (المفيض) و (الضارب)، وهو الرجل المكلف بتقليب السهام في الخريطة ثم دفعها من فم الخريطة. وكانوا يلفون يده بقطعة من جراب، لئلا يجد مس قدح يكون له مع صاحبه محاباة. ويشدون عينيه بعصابة ليحولوا بينه وبين رؤية القداح
والحرضة هو الذي يستل السهم بعد أن يبرز وينشز، ويسلمه للرقيب دون أن يراه
ولا يكون الحرضة إلا ساقطا برما، يدعونه بذلك لرذالته وسقوطه
قال أبو الهيثم: الحرضة: الرجل الذي لا يشتري اللحم ولا يأكله بثمن ألا أن يجده عند غيره
الرقيب
ويسمى أيضا (رابئ الضرباء). ويختار في العادة من الأمناء الموثوق بهم من الرجال، وواضح أن مهمته هي مراقبة (الحرضة) وإدارة رحى الميسر. ويكون مجلس الرقيب خلف الحرضة، ليتمكن من مراقبته. وهو الذي تسلم إليه السهام بعد خروجها ليعلم من صاحبها ويعلن اسمه حينما يفوز كما انه يرد السهام الإغفال أن خرجت مرة ويعيدها إلى الربابة ويأمر الحرضة بجلجلة الأقداح وإفاضتها حتى يخرج سهم أخر من قداح الحظ
وإفاضة الأقداح: أن يدفعها دفعة واحدة إلى الأمام ليخرج منها قدح أو أكثر
مج هو نادي القوم يجتمعون فيه في ليل الشتاء، وقد أوقدوا ناراً واحضروا جزورهم ونحرها الجازر وقسمها عشرة أجزاء، بعد أن ترك لصاحب الجزور (الثنيان) وهو ما استثنى لنفسه من الرأس والأطراف في غالب الأمر، وبعد أن حفظ لنفسه (الريم)، كما سبق القول عند الكلام على الجزار
1 - ويحضر الحرضة ومعه الخريطة والقداح، حينئذ يتبارى رؤوس القوم وأشرافهم في أخذ القداح، فأعلاهم قدراً هو من يأخذ المعلى ذا الحضوض السبعة، وأقلهم شأناً هو صاحب (الفذ) الذي له حظ واحد
وذلك أن نظام الميسر مبني على قاعدة الغنم بالغرم، أي أن من يتعرض لأخذ أكبر السهام حظاً يكون لديه استعداد أن يغرم أكبر الغرم حينما يخيب حظه إذ أن الغرم يتناسب تناسبا مطردا مع الغنم وأما صاحب الفذ فهو إن فاز بحظ واحد، وإن خاب تحمل مغرم حظ واحد
2 - وبعد أن يختار القوم سهامهم ويسجلها عليهم الرقيب توضع هذه السهام ذوات الحظ في الخريطة ومعها السهام الإغفال الثلاثة التي لا حظ لها
3 - ويؤتى بالحرضة، وهو المكلف بإجالة القداح في الخريطة، ثم يأخذ ثوب شديد البياض فيلف على يده، ويسمى ذلك الثوب (المجول). وإنما يجعل ذلك الثوب على يده ليعشى بصره ولا يعرف قدح زيد دون عمر. هذا بعد أن تلف يده بقطعة من جراب، مبالغة في الحيطة. وأحيانا يعصبون عينيه ويلفون يده. وتعصب الخريطة على يدي الحرضة
4 - ويجلس خلفه الرقيب وقد استدار الأيسار حوله، ومن خلفهم جمهور النظارة يشهدون ما يكون من ذلك، وفي هذا الجمهور طائفة الفقراء، الذين يحملون بؤسهم بجهل وعناء تدور أعينهم فوق كومات اللحم، وتشرأب أعناقهم وأسماعهم نحو الحرضة والرقيب
5 - وبعد أن يكتمل المجلس يصدر الرقيب أمره إلى الحرضة أن يجيل القداح وأن يجلجلها في الخريطة، فيفعل ذلك مراراً، فان فعل أمره أن يفيض القداح، أي أن يدفعها إلى فم الخريطة
6 - وحينئذ يبرز أحد القداح فيستله الحرضة، وهو أن كان غير معصوب العين لم ينظر إليه في هذه الحالة، ثم يناوله الرقيب، وتحدث عندئذ ضجة من الرقيب يعلن فيها اسم الفائز، يصيح بأعلى صوته: هذا قدح فلان، أو فاز قدح فلان. ذكر ذلك الخليل في تفسير قول أبي ذؤيب:
وكأنهن ربابة وكأنه ... يسر يفيض على القداح ويصدع
7 - فإذا فاز أحدهم اخذ نصيبه واعتزل القوم فأفاض الباقون على بقية الجزور فإن شاء ذلك الفائز أن يعود بقدحه سألهم ذلك، فان احبوا أجابته أجابوه وردوا قدحه معهم واستأنفت الإفاضة. ويعد هذا العمل مكرمة لصاحبه الفائز الذي يأبى أن يظفر ذلك الظفر السهل، ويأبى إلا أن يعرض نفسه للغرم الذي جانبه في أول الأمر
ويسمون هذا العمل (التثنية)، وهو الذي عبر عنه النابغة الذبياني بمثنى الأيادي في قوله:
أني أتمم أيساري وأمنحهم ... مثنى الأيادي واكسوا الجفن الأدما
8 - وإذا ظهر سهم من السهام الإغفال أمر الرقيب الحرضة بإعادته في الخريطة ومعاودة الجلجلة والإفاضة حتى يظهر سهم ذو حظ
ولا يكف الحرضة والرقيب عن هذا العمل حتى يكون مجموع أنصباء السهام الخارجة عشرة أنصباء على الأقل
الغنم والغرم
ليس نظام الغنم والغرم في الميسر نظاما ساذجا، بل هو نظام محكم يدل على ما كان يتمتع به أسلافنا العرب من ذهن وقاد وفكر ناضج
وإليك بعض النماذج من أقضيه الميسر، وأحكام العرب في مغانمها ومغارمها، وسأعيد هنا ذكر قائمة المغانم والمغارم ليسهل لك عرض تطبيق الأحكام عليها:
أ - صاحب الفذ، ونصيبه في الغنم والغرم (1)
ب - (التوأم، (((((2)
جـ - (الرقيب، (((((3)
د - (الحلس، (((((4)
هـ - (النافس، (((((5)
و (المسبل، (((((6)
ز - (المعلى، (((((7)
(القضية الأولى) خرج قدح (أ) ثم قدح (ب) ثم قدح (جـ) ثم قدح (د) ومجموع أنصباء هذه القداح عشرة، وبذلك يكون الميسر قد تم فكل واحد من أصحابها يأخذ نصيبه، فيأخذ (أ) عشرا، و (ب) عشرين، و (جـ) ثلاثة أعشار، (د) أربعة أعشار، ويعتزل كل منهم الميسر غانما، ويبقى الثلاثة الغارمون الذين يضمنون ثمن الجزور، وهم (هـ)، و (و)، و (ز). ولنفترض أن ثمن الجزور 72 دينارا، فتفرض عليهم بالتناسب العددي، أي بنسبة 6: 5: 7 فيغرم (هـ) 20 دينارا، و (و) 24 دينارا، و (ز) 28 دينارا
(القضية الثانية)
خرج (ب) و (جـ) و (هـ) فائزين ومجموع حظوظهم 2، 3، أي عشرة حظوظ، وبذلك تم الميسر، فيأخذ كل منهم نصيب ويعتزل، ويبقى الغرم على (أ)، (د)، (و)، (ز) ونسبة مغارمهم 7: 6: 4: 1
ولنفترض أيضا أن ثمن الجزور 72 دينارا، فيغرم (أ) 4، (د) 16 دينارا، (و) 24 دينارا، (ز) 28 دينارا
(القضية الثالثة)
خرج في أول الإفاضة قدح صاحب (المعلى)، ونصيبه 7 فاستولى عليه واعتزل، ثم خرج قدح صاحب (المسبل) وحظه 6 مع أنه لم يبق من أجزاء الجزور بعد المعلى إلا 3 تتمة العشرة، فيأخذ صاحب المسبل الثلاثة الأجزاء الباقية بعد نصيب صاحب المعلى، ويغرم له القوم الذين لم تخرج سهامهم ثمن ثلاثة أعشار الجزور، استكمالا لحظه، وتكون غرامتهم في ذلك متناسبة مع نسبة أنصبائهم في الغنم لو غنموا
ويغرم القوم الخائبون أيضاً ثمن الجزور، متناسبة غرامتهم مع نسبة أنصبائهم أيضاً
وهذا الحكم السهل في أمثال هذه القضية الأخيرة، هو الذي ذكره أبن قتيبة. وإنما يلجئون إليه ويرتضونه إذا لم يمكنهم نحر جزور ثانية
فإذا أمكنهم نحر جزور ثانية فإنهم ينتظرون بسائر القداح لا يخرجون منها شيئا بعد أن ظفر صاحب المعلى، لأنه إن خرج المسبل لم يجد له حظا كاملا، لأن حظه ستة أجزاء، مع أن الباقي من الأجزاء ثلاثة وحينئذ يقفون الإخراج ويعدون جميع الايسار خائبين، إلا صاحب المعلى، ويلزمونهم الغرم في الجزور الأولى بحسب أنصابهم من جهة، ثم يخلقون لهم جميعا فرصة في جزور أخرى، فينحرونها أعشار، ثم يضربون عليها بالقداح، فإن خرج (المسبل) أخذ صاحبه ستة أجزاء: ثلاثة منها هي الباقية من الجزور الأولى، وثلاثة من الجزور الثانية. فإن استوى ثمن الجزورين كان صاحب المسبل كأنه لم يغرم شيئا ولم يغنم شيئا لأنه غرم ستا وغنم ستا، فتعادل ماله وما عليه
وبقي من الجزور الثانية بعد المسبل سبعة أجزاء، تضرب عليها سائر القداح، فإن خرج (النافس) اخذ صاحبه خمسة أجزاء من السبعة الباقية، فبقى جزءان
وفي هذه الحالة بقي حظه أكبر من الجزءين، وهو (الحلس)، وله أربعة أجزاء، فيعدون صاحبه خائبا في الجزور الثانية يلزمه الغرم فيها بمقدار حظه متضامنا مع سائر الخائبين، فيتيحون له فرصة في نحر ثالثة، فإن خرج غنم أربعة أجزاء: اثنان من الثانية، واثنان من الثالثة، فإن استوى الجزورين كان كأنه لم يغنم شيئا
وبقي من الجزور الثالثة ثمانية أجزاء، يضرب عليها بالقداح من بقى حتى تخرج قداحهم موافقة لأجزاء الجزور، وحتى لا يحتاجون إلى نحر جزور أخرى، استكمالا لنصيب متوقع لأحدهم
هذا الدستور الذي سنه العرب لنظام الميسر، هو كما ترى وليد طباعهم وعاداتهم، ووليد حاجاتهم البدوية
ولا ريب أن (الميسر) كان نافعا للعرب، كان نافعا لذوي الحاجة منهم، لأن العرب في أكثر ما يقامرون إنما يبغون بذلك نفع الفقراء، والتوسع على المحتاجين المعوزين، وقل أن يطعم الايسار من لحم الميسر، وإنما كانوا يفرقونه في البائسين. إلى ذلك ما كان يحدثه الميسر من رواج في سوق الإبل وبيعها وشرائها
ذكر الواقدي أن الواحد منهم ربما قمر في المجلس الواحد مائة بعير، فيحصل له مال من غير كد وتعب،، ثم يصرفه إلى المحتاجين فيكتسب منه المدح والثناء
ولا ريب أيضا أن الميسر كان ضارا للعرب، فهو أكل مال بالباطل، وهو كان يدعو المقامرين كثيرا إلى السرقة واغتصاب الأموال والنفوس، للحصول على فوز رخيص في ذلك المضمار، وهو كان مجلبة عظيمة للعداوات والحزازات بينهم، التي تثيرها المنافسة وحب الذات. وكانت مجالس الميسر مجالا فسيحا للمنازعات والمهارات، وميدانا خصبا للهجاء والشتم والاقذاع هذا إلى ما يكون من أنفاق زمانهم في سخاء ظاهر، فيما يشغلهم عن غيره من جلائل الأمور، والسعي لاكتساب الرزق من شريف الأبواب
ومفاسد الميسر في عصرنا الحاضر واضحة وضوحا بينا مهلكة إهلاكا للنفوس والضمائر، قاضية على هناءة الأسرةوترابط الجماعة
وصدق الله العظيم إذ يقول: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما أثم كبير ومنافع للناس)، وإذ يقول: (وأثمهما أكبر من نفعهما)
وقد أتى الإسلام في ذلك بعلاج ناجح، علاج يبحث البؤس من أصله، ويقتلعه من أرومته، هو نظام (الزكاة) تؤخذ من الغنى في رضا من دينه، وتعطي للفقير في كرامة من نفسه
(خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها، وصل عليهم، إن صلاتك سكن لهم). (وما أتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون)
للكلام بقية
عبد السلام محمد هارون