انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 1010/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 1010/القصص

ملاحظات: أرملة Une veuve هي قصة قصيرة بقلم غي دو موباسان نشرت عام 1882. نشرت هذه الترجمة في العدد 1010 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 10 نوفمبر 1952



أرملة

عن الفرنسية

كان ذلك في أوان الصيد في قصر بانفيل، والخريف مطير حزين، والأوراق المنتثرة ذابلة محمرة لا يسمع لها تقصف تحت الاقدام، بل تعطن في السكك بمدارج العجلات تحت شآبيب الذيم الهطالة.

وكانت الغابة وهي جرداء إلا قليلا تشبه الحمام من الرطوبة. فإذا أوغلت فيها تحت أفنان الدوح العالي يصفقه وابل المطر شملتك رائحة مخمة وهبوه ماء من العشب المخضل والأرض المبتلة.

والصيادون حناة الظهور يدبون تحت هذا الفيض الهتون، والكلاب محزونة ذيولها مرسلة، وشعرها ملتصق بآطالها، والغانيات الصائدات في أثواب الصوف المفصلة لاصقة مشربة بالبللل، وهم كل مساء يؤوبون من الصيد أنضاء جسم وعقل أجمعين.

وفي البهو الكبير بعد العشاء يجتمعون إلى لعبة الورق متقارعين، من غير انبساط ولا لذة. وللريح في الخارج هبات مدوية تدفع في مصاريع الشبابيك المغلقة، وتبتدر دوارات الهواء فوق الأبراج فإذا هي من دوران كالخروف المدوم.

فأرادوا أن يسمروا بالحكايات كما تروى في الكتب، ولكن الله لم يفتح على واحد منهم بابتداع حكاية مسلية. ومضى الصيادون يقصون ما وقع لهم أثناء صيدهم بالبنادق وتقتيلهم للأرانب، وجعلت الغانيات يكدون أذهانهن ويتقصين في ثناياها فلا يجدن خيإلاً كخيال شهرزاد يسعفهن بحكاية من أمثال حكايات ألف ليلة. وكادوا يكفون عن الأحاديث. وكانت إحدى الغانيات تعبث خالية البال بيد عمتها العجوز، وهي عانس لم تتزوج، فلحظت خاتماً صغيراً من شعرات شقراء طالما وقع ناظرها عليه من غير أن تفكر لحظة فيه.

فسألتها وهي تديره في إصبعها بلطف: (ألا قلت لنا يا عمتي ما هذا الخاتم؟ لكأنه شعر غلام يافع. . .) فاحمر وجه العانس ثم اصفر، وأجابت بصوت متهدج: (إن الأمر محزن جدا، محزن جدا، حتى لست أحب الكلام عنه. وكل ما في حياتي من الشقاء فهذا مصدره. لقد كنت في غرارة الشباب وقتئذ، وما زالت تلوعني الذكرى حتى يغلبني البكاء كلم خطرت في نفسي)

فتلهفوا إلى سماع الخبر، وأبت العمة ذلك عليهم، فما زالوا بها حتى رضيت في آخر الأمر:

(كثيراً ما سمعتموني أتحدث عن أسرة سانثيز، وقد انقرضت اليوم جميعا، وقد عرفت الثلاثة رجال الأخر من هذا البيت، والثلاثة ماتوا ميتة واحدة وهذه شعرات الأخير، وكان في الثالثة عشرة من عمره حين انتحر من اجلي. لقد يبدو لكم الخبر غريباً، أليس كذلك؟

آه. قد كانوا معشراً عجيباً من المجانين، أن شئتم هذه التسمية، ولكن مجانين ظرفاء، مجانين غرام. فهم جميعاً - أباً عن جد - أصحاب عواطف عارمة جامحة، تدفعهم من كيانهم كله دوافع قوية إلى ابعد السبحات وإلى التفاني وفرط التحمس، بل تذهب بهم إلى حد ارتكاب الجرائم؛ وهذا منهم بمقام فرط التدين في بعض النفوس. وشتان في الطبيعة والمزاج بين أهل العبادة وبين رواد المجالس أزيار النساء، وكان يتردد في أوساطهم وبين ذوى رحمهم: (عشق كعشق بني سانثير)، وحسبك أن تراهم فتجد هذا على سيماهم. فكلهم شعره ذو خصل منسدلة على الجانبين ولحيته جعدة وعينان واسعتان ينفذ شعاعهما في نفسك فيبلبلك ويشغل خاطرك دون أن تعرف لذلك سبباً.

وكان جد الغلام - الذي رأيتم في إصبعي تذكاره الوحيد - له مغامرات عدة ومبارزات وسبى واستباحه للحريم. وقد هام بعدها وهو في نحو الخامسة والستين بابنة مؤاجر ضياعه. وأني لأذكرهما. وكانت شقراء شاحبة اللون، حسنة السمت والشارة، تتكلم متئدة وفي صوتها لين وترطيب، ونظرتها حلوة غاية في الحلاوة كأنها نظرة في صور الرسامين. فأخذها السيد الكهل عنده، وسرعان ما اصبح متيماً بها لا يطيق البعد عنها لحظة. وكانت ابنته وامرأة ابنة المقيمتان في القصر يجدان الأمر طبيعيا لطول ماقر الحب في تقاليد الأسرة. فالموضوع ما دام محور العشق فليس فيه ما تنكرانه وتتعجبان منه. وإذادار الحديث أمامهما عن هوى قامت الموانع دون قضاء لباناته، أو عاشقين فسد ما بينهما، أو وقائع الانتقام من الخيانة أو نقض العهد قالتا معا في لهجة شجية: (له الله! أو (لها الله) شد ما قد تألم ولا ريب حتى بلغ الأمر هذا المبلغ!) ثم لم تزيدا على ذلك. وانهما لترقان لماسي الحب، ولا تنقمان قط على أصحابها ولو أجرموا.

إلا انه في ذات خريف كان بين المدعوين للصيد شاب في عنفوان الشباب، هو المسيو دي جراديل فاختطف الفتاة. وظل المسيو سانثيز هادئا كان لم يحدث شئ. وإذا هم يصبحون ذات يوم فيجدونه مشنوقاً بمرقد الكلاب وهى حوله وقد مات ابنه مثل هذه الميتة في فندق بباريس في أثناء رحلة سنه 1841، على اثر خيانة إحدى مغنيات الأوبرا له. وترك بعده ولدا في الثانية عشرة وأرملة هي أخت أمي. وجاءت السيدة ومعهاالصغير للمقام عندنا بأرضنا في بريتون. وكنتوقتئذ قد بلغت سبعة عشر ربيعاً.

ولا يسعكم أن تتصوروا كيف كان هذا الصغير سانثيز مدهش باكر النضوج قبل الأوان. وانه ليخيل إلى المرء أن جميع صفات أسلافه من رقة عاطفة وسبحات نفس جائشة قد اجتمعت فيه ونزلت به، بهذا العقب الأخير. وكان على الدوام حالما، يتمشى وحيدا ساعات كاملة في ممشى رحيب بين أشجار الدردار الممتدة من القصر إلى الغابة. وكنت ارقب من نافذتي هذا الصبي الرقيق الوجدان وهو يسير وقور الخطى ويداه خلف ظهره مطرقاً إلى الأرض، وأحياناً يتوقف ويرفع طرفه كأنه يرى ويدرك ويحس أشياء ليست لمن كان في سنه.

وكثيراً ما كان يدعوني للخروجبعد العشاء في الليالي المقمرة قائلاً: (هلمي يا ابنة الخالة نحلم. .) فنمضي سوياً إلى الروض. وكان يتوقف فجأة في الفجوات بين تفاريج الشجر حيث تطفو تلك الهفوة البيضاء مثل نديف القطن يبطن بها القمر فجوات الغاب. ويقول لي وهو يشد على يدي: (انظري إلى هذا انظري إلى هذا! ولكنك لا تفهمينى؛ اني لأحس ذلك. لو انك تفهمينني لكنا سعداء. لابد من الحب لمن شاء المعرفة). وكنت اضحك واقبله، اقبل هذا الصبي الذي يحبني مستهلكاً في حبي. وكان أيضاً بعد العشاء كثيراً ما يجلس على ركبتي أمي قائلاً لها: (إيه يا خالة، قصي علينا شئ من قصص الحب) فتحكي له أمي على سبيل الدعابة أساطير أهل بيته كانوا وجميع ما وقع لآبائه من الوقائع الغرامية، والناس يرددون منها الألوف بعد الألوف من صحيحة ومفتراة. أن هؤلاء القوم؛ أضاعتهم شهرتهم، فقد كانوا يستجيشون لها ثم تملكهم العزة أي يكذبوا سمعة بيتهم وما اشتهر به.

وكان الصغير يهتز لهذه الحكايات: لطيفها وفظيعها، وكان في بعض الأحيان يدق بيديه مرددا: (وأنا ايضاً، واني لاحق بالحب منهم جميعاً). ثم جعل يتحبب إليَّ متغزلاً في استحياء وحنان عميق كانا مثاراً للضحك لشدة غرابة الأمر. وكان كل صباح يقطف لي جني الزهر، وفي كل مساء قبل صعودي إلى مقصورتي يلثم يدي هامسا: (أنا أهواك!)

لقد اذنبت، وركبني اعظم الذنب. وما زلت على هذا نادمة باكية لا يرقا لي دمع. وأني لفي التكفير عن هذا طيلة حياتي، وقد بقيت بعده عانساً لا أتزوج، بل بقيت كالخطيبة المترملة، أجل أنا له الأرملة. كنت ألهو بهذا الحب الصبياني بل كنت اعمل على إذكائه. فكنت المرأة الخلوب ذات الدلال، وكأني إلى جنب رجل ألاعبه وأخاتله. لقد فتنت هذا الغلام ودلهته بحبي. وكان الأمر عندي لعباً ومعابثة، وعند أمي وأمه تسلية وترويحا. قد كانت سنه اثنتي عشرة سنة، فتأملوا! من كان يأخذ مأخذ الجد هذا الغرام الدري! فكنت أقبله ما شاء، بل كنت أكتب رسائل العشق إليه وأقرئها أمي وأمه قبله؛ وكان يجيب عليها بكتب مسطورة كتب من نار، وقد احتفظت بها. وكان معتقداً أن صلتنا الغرامية كانت سراً مكتوماً، وكيف لا وهو يعتد نفسه رجلاً والأمر في عرفه الجد كل الجد. وقد غاب عنا انه من بني سانتيز.

ودامت الحال على هذا المنوال عاماً أو قرابة عام. وفي ذات مساء ونحن في الروضة خر جاثياً عند قدمي ولثم حاشية ثوبي في اندفاع المهتاج مردداً: (أنا أهواك، أهواك، أنا ميت في هواك. وإذا خنتني في يوم من الأيام، أسامعة أنت - إذاهجرتني إلى سواي فإني صانع مثلما صنع أبي. . .) وأردف في صوت عميق يقشعر له البدن: (أنت عليمة بما صنع).

ولما وجمت ولم أحر جواباً نهض وشب على أطراف قدميه ليبلغ إلى أذني - وكنت أفرع منه طولاً - ودعاني باسمي، اسمي الأول، (جنفييف) بنغمة حلوة جميلة رقيقة شملتني منها قشعريرة سرت من فرعي إلى أخمص قدمي.

فغمغمت: (لنرجع، لنرجع إلى الدار). فلم ينبس بكلمة وسار في أثري، فلما هممنا بصعود درج السلم استوقفني قائلاً: (أتعرفين؟ إذاهجرتني فإني قاتل نفسي).

فعلمت هذه المرة أنني تماديت حيث لا يجب التمادي وتكلفت معه التحفظ. ولما أن كتب ذات يوم يعتب علي أجبته: (أنت اليوم اكبر من عبث المزاح واصغر من جد الحب. أني في الانتظار). وحسبتني بهذا قد أبرأت ذمتي.

وفي الخريف عهدوا به إلى مدرسة داخلية فلما عاد في الصيف التالي كنت مخطوبة. فأدرك الأمر في الحال، والتزم مدى ثمانية ايام هيئة المفكر الغارق في التفكير. فأهمني ذلك وساورني منه قلق شديد.

وفي صبيحة اليوم التاسع استيقظت من نومي فوقعت عيناي على رقعة صغيرة مدسوسة من تحت الباب. فتناولتها وفتحتها وقرأت فيها: (لقد هجرتني، وأنت تعلمين ما قلته لك. لقد قضيت على نفسي بالموت. وأني احب إلا يعثر بي أحد غيرك، فتعالي إلى الروض في نفس الموضع الذي قلت لك فيه أني أهواك وتطلعي في الفضاء) فكدت أن اجن. وأسرعت بارتداء ثيابي وهرولت على عجل اجري واجري وأكاد أتساقط إعياء إلى المكان المعين. وإذاقبعته الصغيرة المدرسية ملقاة على الأرض في الوحل. فقد كانت الليلة مطيرة. ورفعت طرفي فأبصرت شيئاً معلقاً يترجح بين الورق، وكان يوم ريح، ريح شديدة.

ولا ادري بعد ذلك ما صنعت. قد صرخت أول الأمر ولا ريب، ولعلني سقطت بعدها مغشياً علي، ثم عدوت هائمة على وجهي إلى القصر. وثبت إلى الرشد في فراشي وأمي إلى جانبي.

فخيل إليَّ أني رأيت ما رأيت كله في هذيان حلم فظيع. فغمغمت: (وهو، هو، جون تران؟) فلم يجبني أحد. إنها الحقيقة.

ولم اجرؤ على طلب رؤيته. فطلبت إليهم خصلة طويلة من شعره الأشقر. وهذي. . . وهذي. . . هي. . . .).

ومدت العانس يدها الراجفة بحركة القانط المقطوع الرجاء وأخرجت منديلها ومخطت مرات ومسحت عينيها الدامعتين واستأنفت تقول: (ونقضت الخطوبة دون إبداء سبب. . . وبقيت. . . العمر كله أرملة. . . أرملة. . . هذا الصبي ابن الثلاثة عشر ربيعا). ثم مال رأسها على صدرها وبكت طويلا بدموع الذكرى.

ولما انصرف المدعوون إلى حجراتهم للرقاد، مال صياد غليظ الجسم قد أفسدت عليه الحكاية صفوه إلى أذن جاره هامساً: إلا ترى أن رقة الوجدان إلى هذا الحد بلاء وشر بلاء.

ع. ص