مجلة الرسالة/العدد 101/استدراك وتصويب
مجلة الرسالة/العدد 101/استدراك وتصويب
قرأت في العدد 99 من (الرسالة الغراء) مقال الأستاذ المغربي (بين الفقه الإسلامي والروماني) فرأيته تلطف في الرد على الخواجه ميشيل عند قوله:
(إن أبا حنيفة لم يعترف إلا بسبعة عشر حديثاً) وهي غلطة ظاهرة لا يسوغ لأحد أن يغتر بها، لأن روايات أبي حنيفة على تشدده في شروط الصحة لم تكن سبعة عشر حديثاً فحسب بل أحاديثه في سبعة عشر جزءاً يسمى كل منها بمسند أبي حنيفة، وقد خرجها جماعة من الحفاظ بأسانيدهم إلى الإمام ما بين مقل منهم ومكثر حسبما بلغ إليهم من الأحاديث التي يرويها، وليس بين تلك الأجزاء جزء أصغر من سنن الإمام الشافعي رواية الطحاوي ولا من مسند الشافعي رواية أبي العباس الأصم اللذين عليهما مدار أحاديث الإمام الشافعي. وقد عنى أهل العلم بتلك المسانيد جمعاً وتلخيصاً وتخريجاً وقراءة وسماعاً ورواية؛ فهذا الشيخ محدث الديار المصرية الحافظ محمد بن يوسف الصالحي صاحب الكتب الجليلة في السير وغيرها يروي تلك المسانيد السبعة عشر عن مشايخه ما بين قراءة وسماع ومشافهة وكتابة بأسانيدهم إلى مخرجيها، وذلك في كتابه (عقد الجمان). وكذا يرويها بطرق كثيرة محدث الديار الشامية الحافظ شمس الدين بن طولون في (الفهرست الأوسط) عن شيوخه سماعاً وقراءة ومشافهة وكتابة بأسانيدهم كذلك إلى مخرجيها، وذانك الحافظان هما زينا القطرين في القرن العاشر الهجري، وكذلك حملة الرواية إلى قرننا هذا ممن لهم عناية بالسنة. وما تلك المسانيد والكتب ببعيدة عن متناول أهل العلم، بل بعضها مطبوع في الهند. . . إلى غير ذلك مما تراه مفصلاً في (شروط الأئمة الخمسة للحازمي المطبوع سنة 1346)
أبو أسامة
هراقليوس في المعبد
البطل
للأستاذ معروف الارناءوط
كاتب (سيد قريش) وصاحب (فتى العرب) تتمة المنشور في العدد الماضي
كان معبد القديسة هيلانة غارقاً في الصمت، فليس في نواحيه أثر من صلاة، ولا تنير محارمه ومناسكه هذه الشموع الكثيرة التي تنير أروقة كنيسة القبر المقدس؛ وقد جفاه المرتلون والعازفون، فما يسمع هراقليوس في عزلته صوتاً يحرك في نفسه شعور التقي والورع، بل ليس في هذا الرمس الذي انحدر إليه، قسيس يطمئن إلى لباسه أو يستريح إلى إرشاده ونصحه، ولو كان هنالك تقي لخف إليه وسأله أن يترع نفسه بالعزاء الذي يحبه ويشتاقه
ثم عاف هراقليوس الهيكل وأقبل على الجدر يتجسسها ويتفحصها ويستند إليها، وهو يحاول الخروج من المعبد؛ وأنه ليمشي في لين ورفق حذر السقوط إذ صافحت عيناه نزلة أخرى صورة ذلك الأعمى، فوقف ينظر إليها على ذلك النور الضعيف الذي يرسله القمر من صدوع في القبة الفيحاء، فلما حدق إليه ارتد به الخاطر في خفة الوميض إلى الحياة (موريس) التعس الذي سوغ الظالم (فوكاس) قتله مع بنيه في ليلة من ليالي الخريف الحافزة. وقد كان (موريس) قيصر الرومان وسيد هذه الدنيا طولا وعرضا، فألب (فوكاس) عليه الغوغاء وهاجمه وهو نائم في قصره، ففر إلى جزيرة (انتيغون) على الساحل الهادئ في بحر (مرارا) ولحق به بنوه وصحبه، فما تريث الطاغية (فوكاس) في اللحاق به حتى أدركه وقتله شر قتلة بعد أن غمس يده في دماء بنيه الخمسة، ولم يفلت من هذا الموت الكريه غير فتى صغير اسمه (كريستيا)، وغير فتاة صغيرة اسمها: (سافو) ومعهما تلك الإمبراطورة التعسة (تيوفانو)، ثم ثار الشعب على (فوكاس) الذي لبس التاج، وكان (هراقليوس) زعيم هذه الثورة وبطلها، وكان شعاره وشعار الثائرين الذين صحبوه إلى قصر الطاغية اسم الصغير: (كريستيا)، وكان ينبغي لهراقليوس بعد ظفره بالقاتل السفاح أن يضع على رأس الفتى تاج أبيه. فما فعل إرضاءً لمطامعه ونزواته، ثم كان من أمر (كريستيا) أن توارى عن الناس خشية أن يفتك به أنصار هرقليوس، وطويت الأحاديث عنه وما عاد رفاق أبيه يذكرون من أمره وأمر أخته وأمه شيئاً!
لقد كانت خيالة الفتى الأعمى في الصورة المائلة تشبه خيالة كريستيا، فهتف هرقليوس وهو ينظر إليها: (كريستيا! كريستيا!) ثم وضع يده على عينيه كأنما هو يحاذر أن لا ينظر إلى الصورة نزلة أخرى، ولكن الذكريات المؤلمة التي تعاورت نفسه في المعبد المقدس، ظلت على عنفوانها وعنفها، فما كان يستطيع أن يفلت منها، ثم زحمته هذه الذكر الطاغية وانقلبت به إلى تلك الليلة الصادرة التي ابتعث فيها بعض رجاله على الذهاب إلى (نيكوميديا) تحت الودق المنهمر، فذهبوا وبعد قليل عادوا ومعهم فتاة حسناء احبها قيصر حتى شغفه حبها، ثم جاءوا بضحيتهم إلى القصر والقوا بها إلى سرير في غرفة ينام فيها هراقليوس وعلى حوائطها صور الصالحين والرسل!
لقد ناشدته تلك الفتاة انتصاراته لعله يستبقي عفافها فلا يدنسه، فلما لم تنجح في استمالته أو مضت بيدها إلى صور الصالحين والرسل، وسألته بحق هؤلاء ألا يعبث بطهارة فتاة يتيمة كان أبوها من احسن المنافحين الذائدين عن حياض النصرانية، فما أمالته ذكريات انتصاراته عن أهوائه، ولا ثنته صور الصالحين والرسل عن منازعه، فراح يحتبس الفتاة العانية بين ذراعيه المشبوبتين غير ذاكراً فضل أبيها النبيغ البطل في تأثيل انتصاراته وتوثيق غاراته!
اسم هذه الفتاة (بليتزا) واسم أبيها الغطريف (تيوفان)، ذكر هراقيليوس هذا كله فيئس وابتأس وترجف ورعد، ورأى إلى كوارث حياته كأنها تجتمع في حضيض البيعة الصغيرة، فأدرك وهو الذكي الألمعي لماذا لم تستقبله الأماكن الطاهرة بمثل تلك الحماسة البالغة التي لقيها في معابد الوثنية، فصاح صيحة أليمة وخرج على شفتيه اسم (بليتزا)، فردد هذا الاسم فضاء المعبد الساكن! وراح الرجل الذي دخل بيت المقدس في حاشية من بطاريق الجيش وبطاريق الكنيسة يغمس يده في صدره، فيمزق ثوبه القيصري ويرمي بدرره وذهبه إلى حضيض المعبد، وشفتاه تتحركان بذلك الاسم الذي ما كان يفكر فيه قبل هذه الليلة:
بليتزا، بليتزا!
كان هذا الاسم أول ألحان هراقليوس في الأماكن الطاهرة، ولكن هذا اللحن الشجي لم يلبث أن استحال إلى نواح مذيب، فجعل الرجل المنتصر على الوثنية ينشج ويده تتجسس العمد الرخامية، ثم جلس على الأرض ووارى عينيه حتى لا يرى إلى هذه الصور! ولما فتح عينه وردد نظراته في الجدار القائم إلى يساره أخذته صورة جديدة لم ينظر إليها من قبل فحدق فيها على زهده في الصور وابتعثته هواجسه الثائرة على الوقوف حيالها وفمه لا يزال ندياً بذلك الاسم الذي ألقى به إلى جوف الكنيسة الكبرى ثم ترعد وترجف وانفلت من صدره صياح اليم وارتد القهقري مسفوعاً عانياً، وأخذت الصورة التي أبصرها قائمة إلى يساره تتحرك وتهتز. ثم جفت الجدار ومشى ناسها في صف واحد إلى ناحية هراقليوس، فكان كلما تراجع أمام أشباحها أخذته هذه الأشباح أخذ عزيز مقتدر ومنعته أن يشق طريقه!
فأي صورة هذه؟ وكيف قدر لأشباحها أن تترك مكانها على الحائط لتمشي في حضيض المعبد كما يمشي الناس، وتنظر بعيون فيها من وميض الحياة وإشراقها ما في عيون الأحياء من وميض وإشراق!
ولما أوشكت هذه الطيوف الخرساء أن تزحمه حدق فيها عن كثب فإذا هي أربعة أشباح أحدها مشوه الخلقة، محمر الصدر، تضطرب في وجهه عينان غائرتان وإلى جانب هذا الشبح ثلاث نساء، فيهن امرأة عمياء على وجهها الصبيح شيء كثير من النعماء، وكانت العمياء تلبس السواد، وقد سدرت شعرها الأشقر على كتفيها وراحت تستند إلى ذراعي فتاة ما تزال حديثة عهد بالحياة، فما قدر هراقليوس أن يتعرف إلى خيال المرأة الثالثة، فصدف عنه وتهافت على العمياء ينظر إليها في خوف وإشفاق، واخذ فمه يردد اسم (بليتزا) بينما ضياء القمر لا يزال يتسرب من صدوع في القبة إلى الحوائط والجدر، وبينما ملابس الأشباح قد حاكت في حمرتها وصفرتها وزرقتها ألوان الفسيفساء التي أخذت تخطف على العمد والأقواس والقناطر، ولقد خيل إلى هراقليوس أن الصورة التي خرجت من الحائط الشمالي ما عادت تمعن في اللحاق به فسخر من هذا الجنون الذي تولاه، وتضاحك حتى لقد سرى ضحكه إلى أنحاء المعبد وأدرك أن قيصر الرومان قد افرط في مخاوفه، وما ينبغي له أن يفرق من صورة تراءت له على الرخام، ولما اطمأنت نفسه جعل ينظر إلى يده فإذا عليها ذلك الدم الذي تسايل من جبينه، وللمرة الأولى أخذته عزة الزعيم الغطريف، فأزرى بالشعور الذي رافقه في مطافه، وهو شعور يشعر به الدهماء، ولا يشعر به الزعيم تحت اللواء وفيم هذا الخوف؟ ولماذا تميد نفسه لذكريات الماضي، وليس في هذه الذكريات ما تنكره السلائق والشيم؟ نعم، لقد احب في مواضي أيامه امرأة اسمها (بليتزا)، وأحب القياصرة من قبل نساءً من الشعب، ثم ماتوا، ولم يقرض نفوسهم المخاوف، وحيث قد احب هراقليوس فتاة من بنات الشعب فأولى له أن يطمئن إلى هذا الحب ثم أولى له أن يطمئن إلى غده، لان (بليتزا) التي احب صارت في الغابرين
ولما رفع رأسه شامخاً مستكبراً، وأنحى ناحية الباب يريد الإفلات من هذه الهوة الراعبة، لحق به الأشباح في صف واحد، فما حفل بهذا المشهد، وخيل إليه أن اهتزاز الصورة ما كان غير وليد تصوراته وسبحه، ولكن المرأة العمياء أدركته عند الباب وهتفت باسمه (هراقليوس!)
وفي هذه الفينة لم تفته الحقيقة الراعبة فعضض يده من جزع وإشفاق وسرى جرس العمياء إلى نفسه كالصليل، فتلفت فإذا التي تصورها خيالاً تقبض على يده فتناديه: هراقليوس! هراقليوس! انظر إلى وجهي ملياً وقل لي ماذا رأيت عليه؟
وأخذت (بليتزا) تجذبه إلى ناحيتها فشعر بحرارة أنفاسها ينظر إليها مبهوتاً حائراً ثم أطبق عينيه كأنما هو يريد ألا يرى إلى صورتها الشجية، وظلت (بليتزا) تستجيشه وتحركه وتذكر له الماضي حتى أفاق وفتح عينيه على الصورة الجاهمة سائحاً:
- بليتزا! بليتزا! قالت:
- نعم بليتزا، تلك الفتاة التي جئت بها من حجرتها في (نيكوميديا) إلى حجرتك في القصر ورحت بها إلى سريرك، فتوسلت إليك ألا تعبث بعفافها عن كثب من صور الصالحين والقديسين والرسل! نعم أنا بليتزا، ولست خيالاً كما توهمت، فإذا كنت لا تزال في ريب من أمري، فهاك يدي فجسها، ودونك صدري فاستمع إلى وجيبه، وقل بعد ذلك إذا كنت لا تزال تحلم أم انك تؤمن بهذا الذي ترى!
لقد كان البرد الشديد، وهذا الخوف الذي تولاه، وذكريات الماضي التي تجددت في نفسه، وانبعاث بليتزا في المكان النابي المليء بأوجاع النصرانية وآلامها، وهذه الأشباح التي رافقته في مطافه، كان هذا كله مثار أحزان جديدة في نفسه، فما عاد يستطيع أن يجنب عينيه النظر إلى رفاق بليتزا، فرأى إلى (نفتالي) ثم إلى (بنيامينا) ثم إلى (مارية)! وفتح فمه ليتكلم فما خرج لسانه على شفتيه، فأومض بيديه كأنه يريد أن يسأل العامدة عن رفاقها ففطنت إلى أمره وقالت له:
- هذه الصغيرة التي ترى هي ابنتي وقد أسميتها (مارية) تحبباً إلى مريم والدة السيد المسيح، ولقد تسألني عن أبيها، ألا فاعلم يا مولاي أن أباها هو هذا الرجل الذي سألت نفسه على حوائط الكنيسة في هذه الليلة القمراء! واسمه هراقليوس ومكانه في قصر (الشالسيه) عند شاطئ البحر الأزرق في القسطنطينية! فانطلق لسانه ساعة رن في سمعه اسم مارية وأثنى صائحاً:
- ابنتي! ابنتي! فقالت العمياء:
- ابنتك وابنتي معاً!. . . فقال:
- وهذا؟ فصاحت العمياء:
تقدم أيها السيد نفتالي وقل له أي رجل أنت، واحسر له عن أمر هذه الفتاة التي هي ابنتك، فتقدم ذو القروح من قيصر وكشف عن صدره سائحاً:
لعلك أيها المولى الذي تفيأ أعلام الحرب، واستمع لأناشيد النصر من شواطئ أفريقيا إلى شواطئ البحر الزاخر في بيزنطية، لم تنس ذلك الرجل السري الذي كان يجوب شطآن البحر الأحمر باسمك، ثم يفيء إلى دار ملكك وقد ملأ سفنه بطيوب الهند ونفائس عدن
كان الناس يعيدون ذكرى ليلة الميلاد، وكنت في جملة الذين آمالهم التقى والورع إلى الصلاة، وكان الناس يرون في (نفتالي) وذلكم هو اسمي البغيض الكريه، سيد بلاد الجليل في ثرائه وترفه، فحسدني الجميع، وأخذتهم الغيرة من ذيوع أمري، فلما صليت مع المصلين راحت عيناي تنظران إلى صورة للسيد الناصري، فالتقيت إليها بنجوى القلب، وسألت الرجل الذي طربت جبال الجليل لصوته أن يباركني، ثم رجعت إلى منزلي لأمضي ليلة العيد حيال طفلتي وامرأتي، وفي الصباح أحاط الجند بمنزلي وتبارى الناس في سبي ولعني، ثم خرج بي الجند إلى الميادين، وقرئ علي أمر قيصر بإحراقي، لأنني نظرت في صلاتي إلى صورة السيد، ولان هذه الصورة وجدت مطروحة على أديم المعبد، ثم استبدل قيصر التحريق بالتغريب، وألقى بي رجاله في القفرة النائية بجوار البحر الميت، وماتت امرأتي من الألم والغم، وعاشت ابنتي عيشة لا تشرف حياتها!. . . هذا هو كل أمري فما أظنك نسيت نفتالي، ولا أراك نسيت (بنيامينا) ابنته التعسة
لقد جئت هذا المكان الطاهر من مكاني السحيق البعيد، لأرى إليك وأسمعك دعاء وعيته وحفظته، ثم علمته ابنتي لتجهر به أمام السيد الذي رد إلى المحزونين والماحلين وما هم في حاجة إليه من شباب وعافية، وطلاقة وبشر. انظر يا مولاي إلى ابنتي! لقد كانت في عفافها ونقائها كهذه الصورة التي تمثل السيد في طفولته، فعبث بها رجالك، هؤلاء الذين جابوا العالم كله باسم النصرانية، فلما رجعوا إلى مهدها رجعت إليهم سلائق الوثنية فقتلوا البريء واضطهدوا البريئات!
ولما سكت (نفتالي)، قالت (بليتزا): (لقد حرمني الألم والنفي والسهد ضياء عيني فما نعمت بالنظر إلى محيا الطفولة التي انبثقت من دمي، وعشت في (عين كارم) عيشة راعبة لا تليق بمن كانت ابنة لتيوفان البطل! وكانت آلامي تنمو بجانب نمو ابنتي حتى كرهت الحياة ومللت مقامي بين الأحياء، ولكن صوت الطفلة التي أحببت جنبني موتاً ما كنت أجد في غيره راحة لنفسي، ثم نذرت لأمضين إلى المسيح في مهده فاسمعه بثى، فإذا لم يسمع انطلقت إلى لحده وأيقظت رفاته
وكنت عالمة بوصولك الوشيك إلى الشام فرجعت أسأل عنك فإذا قيل لي أنك بلغت في زحفك شواطئ الفرات، حلق وهمي في فضاء النهر الزاخر، وطغت هواجسي، فلعنتك وأسرفت في اللعن، وإذا قيل لي أن قيصر وطئ البوادي سرب خيالي على الرمال وقذف فمي البغض والحقد وإني لأقسم لك أن بغضي في احتدامه وثورته مقتبس من سموم الرياح الهوج ساعة ترتمي على الرمل فتذروه في كل فضاء! فإذا قيل لي انك نزلت في منازل عدوك عند المدن الوارفة الظل نزل بي شعوري حيث أنت ورفعت صورتي لأمنعك من غناء جندك الظافر، وهكذا كنت اتبع ظلك وأترسم خطوك وأنا في القرية المتواضعة فالحق بك إلى الأنهار والرمال وإلى المدن حتى اطل شبحك على المدينة المقدسة وسمعت عزيف أبواقك ولم يفتني صليل سلاحك فجفوت مكاني في (عين كارم) وجئت (بيت لحم) فدعوت عليك ورافقت موكبك إلى الكنيسة (القبر المقدس)، وما زلت ارقب خطوك حتى خلت الكنيسة من المصلين والزائرين، وحتى رأيتك تنحدر إلى محراب القديسة هيلانة فسبقتك إليه ووقفت مع رفاقي في الألم والعذاب انظر بعيني قلبي إلى نفسك السائلة على الحوائط والجدر! هراقيليوس! هراقيليوس! كيف أنت؟ كأننا لم نفترق وكأن الأيام لم تفصل بيني وبينك وكأن تلك الحجرة التي ازدانت بتصاوير الصالحين والرسل، وما زالت تحتوينا معاً! ولكن مصاير الناس تعاورها الحذف والتبديل فقد كنت لسنين خلت ذلك الرجل المزهو بانتصاراته، وكانت (بليتزا) التي فزعت إلى الناصري في الليلة الليلاء تنظر في كثير من الزهو إلى مصرع ذكائك!. . هراقيليوس! ناشدتك الله أن تقول لي كيف أنت؟
لم يكن في ميسور هراقليوس أن يرفع عينيه إلى هذه الأطياف فلقد برح الرعب به تبريحاً أليماً، وأيما بأسه وشجونه خيال بليتزا، وخيال ابنتها واستجاش جواه ذلك الصدر القريح الذي حسر نفتالي عنه، فتقاصر وتصاغر وراح جاثياً على قدمي العمياء مستغفراً تائباً، فسمعت مارية ابنته صلاته الهامسة، فدلفت إليه وقالت: أبي! أبي! فما سمع ندائها الرفيق الشجي، بل ظل يتخافت بصوته، بينما كان نفتالي وبنيامينا يصليان في زاوية المعبد صلاة لم يخالطها كثير أو يسير من البغض، وبينا ماريا الصغيرة تنظر إلى أبيها الدميع بعينين رحيمتين بريئتين
وكان ضياء القمر لا يزال يتسرب من صدوع في القبة إلى أرض المحراب، فينير الصور التي على الحوائط والجدر. ثم ينثر أشعته الخفيفة على وجوه الأربعة الذين أتموا نذورهم في الليلة الرهيبة التي أرادها هراقيليوس خاتمة صومه وحجه!
رزح قيصر تحت وقر هذه الصور القائمة، فأغفى على الحجارة، وسبحت نفسه في عالم قصي بعيد، فلما استوثق نفتالي من إغفاءته تلفت إلى بليتزا وقال لها: (لنذهب يا سيدتي قبل أن يستفيق، فلقد قضينا نذورنا ولم يبق لنا ما نعمله في الأماكن الطاهرة! فقالت بليتزا: (أترجع إلى البحر الميت أيها السيد نفتالي، قال: نعم سأرجع إلى منفاي مع ابنتي، قالت: فإذا أبصرك الحرس فماذا تقول؟ فقال: لن يبصرنا الحرس يا سيدتي، لأننا سنخرج من باب خفي، وما اكثر الأبواب الخفية في هذه المحاريب! فقلت: افعل ما تريد فعله حماك الله ورعاك! ثم نظرت إلى هراقيليوس النائم نظرة راثية وألقت بنفسها بين ذراعي ابنتها هامسة: لقد عفوت!. . .) فبرقت أسارير الصغيرة من الفرح وقالت:
- إن الله قد عفا يا أماه!
ولم يشأ نفتالي أن يكون في معزل عن هذه الرحمة التي خالجت قلبي الأم والبنت، فاخذ بذراع ابنته وقال لبيتزا:
- لقد عفوت يا سيدتي وعفت ابنتي!
وفي خفة البرق صعد الأربعة سلم المحراب فاستقبلتهم جميعاً سدفة فاحمة تغشى الكنيسة الكبرى!
دمشق
معروف الارناءوط