انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 1009/شلر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 1009/شلر

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 11 - 1952



للكاتب الكبير توماس كارليل

ترجمة الأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت

- 5 -

في تصويرنا لشلر كإنسان له أخلاقه الرفيعة، لا يمكن لوصفنا - على أي حال - إلا أن ينتقص من كمال حياته، لأن أقلامنا تعجز عن وصفها الوصف اللائق بها. لقد نال هذا الرجل ما يأمله بصورة عجيبة. وحياته - على الأقل - من مرحلة رجولته لم تزل حتى الآن غير مشوشة وذات أسلوب واضح. وقد أخفى انتصاره الكامل عنا عظم النضال الذي خاضه ببسالة نادرة. يمكننا - إجمالاً - الاعتراف بأن سلوكه لم يكن عظيماً بمقدار قدسيته وربما لا يصفه شيء مثل وصفنا إياه بالراهب، بما يمتاز به اللقب من سمو روحي ونقاء وعزلة، على أن هذا الوصف لا ينطبق على مظهره الخارجي في شيء. لقد استحوذ على طبيعته حماس منقطع النظير وفي هذا تكمن قوته وفي هذا يتضح الواجب الذي عاهد نفسه على أدائه، وقد عاش في سبيل هذا.

لم تقم الميول الاجتماعية بأي دور فعال في حياته، وكابن وزوج وأب فهو دائماً حنون ومخلص ولطيف ولكن نادراً ما كانت تؤثر فيه الأشياء الخارجية تأثيرا يشبه في شيء العطفة العارمة. فهو لم يمتلك من الحرارة والحب المستعر والنحيب مثلا ما كان يمتاز به من معاصره الإسكتلندي (برنز)، وفي الحقيقة فإن اتجاهه وأمله كانا مصوبين نحو المثل الأعلى لا لما هو واقعي أرضي. وكانت سعادته العظمى لا تعني في شيء بالشرف الظاهري أو الأبهة أو اللهو أو التسلية الاجتماعية أو حتى الصداقة نفسها. . بل كان همه الأكبر منحصراً في مملكة الشعر ومدينة العقل الفضلى حيث الحياة النبيلة الحقة. وكذا الحال مع عاداته فإنها كانت أميل إلى العزلة لأن شغله الشاغل وسروره البالغ لم يتعديا نطاق التأمل الصامت، يقول أحد شراحه: (إن عدم تساهله مع اللذين يقاطعونه ويعيقون أعماله هو الذي اضطره إلى اللجوء إلى الدراسة ليلاً، على ما في هذا العمل المؤذي من إغراء ومن تعب. وقد شرع بهذه الممارسة في (درسدن) ولم يتركها قطعاً بعد ذلك. وقد كانت تسليته الوحيدة هي العزلة، فكانت سواحل نهر (الإيلب) ملجأه المحبب صباحاً، وكان هناك يتجول في وحدته بين الكروم والمروج والخمايل الجميلة تاركاً ذهنه يسرح في الخيال العذب، أو متأملاً في مواضع الفتنة من الطبيعة الساحرة أو منغمسا في دراساتهً التي كانت تشغله دائماً وأبداً، أو كان يرى جالساً في بعض الأحيان في الجندول الطافي على صفحات النهر الناصعة، وكان يسره كثيراً أن يكون هناك عندما كانت العواصف تهدر والرياح تزمجر حتى يجد لنفسه المضطربة راحة في اضطراب الطبيعة! وكان الخطر يعير شيئاً من السحر لوضعيته وكان يشعر بالانسجام التام بالمنظر الثائر، عندما كانت العاصفة تجتاح السماء، وكانت الغابات تردد صوت هذا الاجتياح، كما أن النهر كان يشارك السماء في هذه الثورة الجامحة فيهتز ملتويا بتأثيرها وترتطم أمواجه بعضها بالبعض الآخر فتحدث ضجيجاً هائلاً وفي هذه الأثناء اشترى له حديقة في ضواحي (ينا) بالقرب من دار (ويسلهوفت) التي كانت مركز إدارة مجلة (الكيمانية ليتراتور زايتنغ) وهي المجلة الذائعة الصيت في ذلك الوقت، وأن نظرنا إلى المكان في سوق (ينا) فهو يقع في الجنوب الغربي من المدينة بين (انكليكاتر) و (بنوثور) في الممر الضيق حيث يجزي فرع نهر (لوتراباخ) حول المدينة.

بني شلر بيتاً من طابوق واحد في قمة المرتفع الذي يشرف على منظر غاية في الجمال وادي (سال) بما يحيط به من غابات الشربين. وكان هذا المكان مسكنه الحبيب إليه أثناء ساعات كتابته؛ وأكثر مؤلفاته التي دبجها يراعه في ذلك الوقت كتبت هنا. وكذلك الحال في الشتاء فإنه كان يعيش بعيداً عن ضجيج الناس وجلبتهم وذلك في دار آل (كرسباغ) خارج خندق المدينة. وكان عند جلوسه بالقرب من المنضدة يحتفظ دائماً بقهوته الجاهزة أو الشوكولاته، وغالباً ما كان يقتنى قنينة من شراب الراين أو الشمبانيا لينعش نفسه المتعبة، وكثيراً ما كان الجيران يسمعونه وهو ينشد بعض الأناشيد العذبة في هدأة الليل. وكل من استغل فرصة مراقبته في مثل هذه الأحوال - وكان ذلك في غاية البساطة - بسبب المرتفعات الواقعة مقابل حديقته من الجانب الآخر من الوادي - كان يمكن أن يراه متكلماً مرة بصوت عال أو ماشياً بسرعة جيئة وذهاباً في غرفته أو رامياً نفسه على كرسيه ليكتب ثم يراه يقف ليشرب من القنينة التي بجانبه. وكان يظل بجانب منضدته شتاء إلى الساعة الرابعة أو حتى الخامسة صباحاً، أما في الصيف فكان يسهر إلى الثالثة فقط. ومن يذهب إلى الفراش ليستيقظ في التاسعة أو العاشرة.

ويقول الشارح مستطرداً (وكانت حياته في وايمر حياته السالفة في رينا) وكان شغله هو الدراسة والكتابة. وكان يتسلى في محيط عائلته، حيث كان لنفسه حرية التمتع بمسرات الحياة ومباهجها بصراحة مع قليل من أصدقائه الخلص. وقد جمع هؤلاء الأصدقاء في ناد وجعل من هذا النادي مكانا للمتعة والتسلية البريئتين. وكان مع ذلك يحب النزهة المنفردة في متنزهات وايمر وكان يرى غالباً متجولاً بين الخمائل والأروقة المرمرية البديعة، وبيده دفتر ملاحظات وهو يسير ببطيء أو يقف هادئاً متأملاً، وأما إذا رأى أحداً فيمرق مسرعاً إلى طريق آخر لئلا تنقطع سلسلة أحلامه وتأملاته، وكان ملجأه المحبوب هو الطريق الصخري الكثيف المؤدي إلى بيت (رومش) وكان هذا البيت محل نزهة الدوق وقد بني بإرشاد جوته، وكان يجلس هناك بجانب الصخور الشامخة المظللة بأشجار السرو والبقس وأمامه الأيك المعشوشبة على مقربة من جدول صغير يتدفق ماؤه في قناة مبلطة ملساء حيث توجد بعض أشعار جوته منحوتة على لوح أسمر من الحجر مثبت في الصخر). ولو أن هذه العزلة قللت من أهمية سلوكه الشخصي إلا أنها دلت على فضيلة كبرى من فضائله، ألا وهي التجرد من ترهات الحياة وابتعاده من مباذلها، فالإنسان لا يولد إلا ويجد أمامه مجالا من الرغبات العالمية الطموحة، ولا يكون الانتصار عليها كاملاً خصوصاً لإنسان مثل شلر. فوجد أن واجبه يقتضيه أن يساير مثل ذلك المسلك من الحياة، أعني بذلك مسلك العزلة، وقد جاهد بكل ما يملك من قوة وبأس على تأدية مثل هذا الواجب على أحسن صورة بعد أن اكتشفه لنفسه، ولم يكن مصدر هذه العزلة ابتعاده عن مصالح الناس بل لاهتمامه بهم، ويمكننا من بعض الإشارات والعلامات أن ندرك بان واجب الشاعر بالنسبة لشلر فيما يخص الإنسانية هو أعظم قدراً وأكبر قيمة وأعلى دلالة من واجبه الشخصي تجاه نفسه، ومع ذلك، فقد تبين لديه بأنه كان يرمي (بمواهبه في الماء لينتظرها في وقت آخر). وعندما تضمحل ضوضاء الغزاة والمشعوذين والمصلحين السياسيين تظهر الحكمة العلوية التي كانت كامنة فيه وتبقى بين الناس ليعترف بفضلها وتقدر قيمتها حق قدرها، وعليه ولو نه مات إلا روحه الخالدة لا تزال حية طافحة بالقوة والجلال. وقد حدثنا الكثيرون عنه فقالوا (إنه كان رقيقاً شفافاً بشوشاً عطوفاً لأقصى درجة، ولم تستحوذ عليه رغبة أشد من رغبة إسعاد الناس أجمعين) ولم يكن في إمكان أي شخص آخر أن يتحمل ما تحمله شلر في سبيل أداء واجبه، فقد كان هذا الواجب أغنيته في المساء وصلاته في الصباح. . لقد عاش ومات في سبيله مضحياً - كما يقول جوته - بحياته في سبيل تصوير الحياة.

للكلام صلة

يوسف عبد المسيح ثروت