مجلة الرسالة/العدد 1006/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 1006/الكتب
عصر سلاطين المماليك المجلدان: الثالث والرابع
تأليف الأستاذ محمود رزق سليم
الأستاذ المساعد بكلية اللغة العربية
للأستاذ محمد رجب البيومي
يعتقد صديقي وأستاذي الجليل محمود رزق سليم أن العصر المملوكي لم يأخذ حقه من البحث العلمي الدقيق، فهو حافل بالمؤلفات العلمية في شتى المواضيع الثقافية، ذاخر بأعلام اللغة والفقه والأدب والتاريخ الذين حفظوا التراث الإسلامي بعد سقوط بغداد في يد التتار، ملئ بالأحداث السياسية والتاريخية التي كتبت مستقبل مصر والإسلام، وحولت اتجاه الشرق العربي إلى مأمن يعصم من الكوارث والخطوب، ومع ما لهذا العصر من الأهمية الخطيرة فأكثر من كتبوا عنه من المؤرخين والباحثين يقابلونه بوجه عابس، ويواجهونه بنقد حاد.
وقد كرس الأستاذ المؤلف جهوده للدفاع عن هذا العصر وتسجيل مفاخره العلمية السياسية، وتعداد ما أنتج للأدب والعلم من ثروات غالية يعتز بها تراثنا النفسي، ولم يقصر المؤلف جهوده في هذه الناحية على ميدان واحد، بل شعبت به الميادين، وانفسحت أمامه الطرق، ووجد لديه من الموهبة والكفاءة والمثابرة وما حفزه إلى ارتياد الطرق المتشعبة، والصيال في الميادين المختلفة، مهما أرهقه السير والتجوال، وأضناه لتجمع والوثوب.
فهو في كلية اللغة يوجه تلاميذه إلى كنوز هذا العصر، ويعرض أمامهم أساطينه وأعلامه محللا ناقدا، ومؤرخا مستوعبا، ويفسح مجال المقارنة بينه وبين العصر العباسي والأندلسي دون أن يتعصب لناحية أو يتشيع إلى فريق.
وهو في مجلة الرسالة الغراء يطالع قراءها الأفاضل بطرائف منتخبة عن العصر المملوكي، فيلجو صفحات رائعة عن سماته البارزة في النقد والحرب والفكاهة، ويبحث عن خصائصه التورية والجناس والزجل والتشطير، ويدرس جوانب هامة حيوات أعلامه البارزين.
وهو في جامعة فؤاد يقدم رسالة علمية عن النثر الفني في العصر المملوكي، فتجلو عناصره ومقوماته، يزن آثاره بميزان النقد الحديث، ويعقد صلة واضحة بين الطريف والتليد.
وهو في ميدان القصص، يخط عدة أقاصيص تاريخية ينتزع أبطالها وحوادثها من هذا العصر الملئ، ويسوقها للقراء أسلوب طلي، وحوار جميل، وقد وقف - على بعضها - قراء الرسالة، فطالعوا ما كتبه الأستاذ عن قانصوه الغوري السلطان الشهيد.
ثم هو أخيرا في ميدان التأليف العلمي يكتب ثمانية مجلدات ضخمة تكون موسوعة شاملة لأهم ما حفظه التاريخ هم هذا العصر العجيب، وإذا كان المؤلف قد رجع في مصادره إلى مئات المخطوطات العتيقة، يكشف عنها في خزائنها المكنونة، وينبش في أضابيرها البالية باحثا منقبا، ليؤيد رأيه بالدليل الملموس والحدة المعترف بها، حتى سود آلاف الصفحات، وأرهق جسده وعقله وعينيه. . . أقول إذا كان المؤلف قد فعل ذلك فإنه جد بالإعجاب والتقدير، ولن يقدر مجهوده حق قدره غير من كتب أن يقوم بدوره الشاق في الرصد والتسجيل.
ويذكر قراء الرسالة أني كتبت بالعدد (788) كلمة عن المجلدين الأول والثاني من هذه الموسوعة الضخمة، وهاأنذا أكتب كلمتي الثانية عن المجلدين الثالث والرابع بمناسبة ظهورهما الآن، فقد آثرت أن أتابع هذه الحلقة المباركة، لأعلم ما لم أكن أعلمه عن مصر العزيزة، وتاريخها النفسي، ولن ألخص للقراء مواضيع الكتاب ومحتوياته في هذا العرض السريع، فذلك متيسر من يمر بالفهرس مرورا خاطفا، ولكني أتجه إلى نقطة هامة سبق أن أشرت إليها في مقالي السالف، وبقيت تتطلب المزيد من الإيضاح والتعليق.
لقد عزم المؤلف أن يجعل من المجلدات الثمانية موسوعة حافلة بالهين والجليل من أنباء العصر الملوكي، فسود مئات الصفحات في تسجيل وحوادث وأنباء لا يحتاج إليها القارئ في شيء فهو يكتب قوائم حافلة بأخبار الفيضان وأرقام الصعود والهبوط، ويتحدث عمن زار مصر من الأضياف ويسرد فهارس متتالية للكتب المختلفة في الفقه والتفسير واللغة والتاريخ والأدب والمنطق مما أخرجه علماء العصر المملوكي في ميدان التأليف، ولم يسمع بأكثره لتلاشيه في رحاب السنين، كما يتتبع كل خليفة أو مملوك أو وزير أو عالم أو قاض ورد ذكره في الموسوعات الحافلة كالضوء اللامع أو النجوم الزاهرة أو حسن المحاضرة أو السلوك أو الشذرات أو التذكرة أو بدائع الزهور أو الدرر الكامنة فيخصه بترجمة موجزة مما كان سببا في إرهاق الأستاذ بلا مبرر، وقد خالفت المؤلف في هذا الرصد العجيب فقلت في مقالي السالف بمجلة الرسالة - العدد 788 ما نصه:
(على أني أخالف الأستاذ في ناحية هامة تشيع في مؤلفه، فقد حرص كل الحرص، على أن يترجم لكل من ولي السلطنة أو ناب عنها، وكذلك من تحدث عنهم فيما بعد من القضاة والخلفاء، وفي هؤلاء جميعا من لا يستحق أن يكتب عنه سطر واحد، حيث كان فردا عاجيا لم يخلف أثر هاما أو تحدث في عهده من المفاجآت ما يدعو إلى الحديث عن زمن ولادته أو مدة حياته أو آونة وفاته، وإنما ولي وعزل، وكأنه لم يولد، يكيف نتعب أنفسنا في تراجم أصنام آدمية، قذف بها الزمن في قرار سحيق).
أقول، لقد سبق أن قلت ذلك على صفحات الرسالة، واعتقدت أن المؤلف الفاضل قد اقتنع برأي المتواضع، ولكن ظهور المجلدين الثالث والرابع، قد اثبت نقيض ذلك، حيث حشد الأستاذ فيهما تراجم عديدة لنكرات مهملة نقب عنها المؤلف في شتى الموسوعات! وحسبك أن المجلد الرابع قد ضاع 90 % منه، في هذه التراجم العجيبة، حيث شغلت (247) صفحة طويلة مزودة بالمراجع والأسانيد، وبلغ عدد من ترجم لهم نحو الخمسمائة والخمسين من العلماء، وكان الأجدر أن يقصر الأستاذ تراجمه على النابهين الأفذاذ من بين هؤلاء، وهم لا يتجاوزون المائة على أكثر تقدير!
ولعل المؤلف قد شعر أنه بذل مجهودا كبيرا دون حاجة ملحة إليه فعمد إلى تبرير صنيعه، وقال في مقدمة المجلد الرابع - وكأنه يرد على -
(وتستغرق التراجم الموجزة لمشاهير العصر جزءا فسر قليل من صفحات الكتاب، وهي في الحق ضئيلة بالنسبة إلى كثيرة عددهم، وواسع فضلهم، ونظرة يسيرة إلى كتب أعلام هذا العصر وطبقاتهم تدل على صواب ما نقول، وقد بدت فيها عناية مؤلفيها نأبناء عصرهم وأنبائهم، وفي الحق أننا وجدنا فيها خضما واسعا بعيد الغور، فلم يكن لنا حاليه إلا حسن الالتقاط والنظم، على أنا مرحلة في هذا الكتاب لا بد من اجتيارزها، ولا سيما أن المؤلفات التي أشرنا إليها جمعت فأوعت، ونوهت بالمشاهير وغير المشاهير).
فالأستاذ محمود رزق يقتدي بكتاب العصر المملوكي في حشد التراجم من كل صوب، وقد نسي أنه يكتب مجلداته في القرن الرابع عشر، لا في المائة الثامنة، أو القرن التاسع، ولكل عصر خصائصه في التأليف واتجاهه في البحث، فقد كان السخاوي وابن إياس والمقريوي يؤمون الجهات المختلفة، ليسجلوا تراجم من يقابلونهم أو يسمعون عنهم من علماء المساجد، وأساتذة المدارس، ومشايخ الزوايا، وقضاة المحاكم، ثم يسودون صحائفهم العديدة بما يجمع الطيب والخبيث، والصالح والطالح، والسمين والغث، والتافه والجليل، وقد عفى الزمن على هذه الطريقة البالية، وأصبحنا نختار ما نكتب عن دقة وتمحيص، فإذا أراد مؤرخ معاصر أن يسجل هذه الحركة العلمية في وقتنا هذا، فليس عليه أن يتتبع التراجم في شتى المظان ثم يرصدها لقارئه في إيجاز واقتضاب، ولكن عليه أن يدرسها في مطالعته الخاصة، ثم يأخذ منها ظواهر معينة وأدلة ثابتة يقيم عليها بحثه التاريخي الكلي، ويجعل منها أسساً متينة لآرائه وقضاياه، وما ينتهي إليه من نتائج وأحكام.
وهل يستسيغ الأستاذ الفاضل - إذا أراد أن يكتب عن عصرنا الحديث مثلا - أن يترجم لجميع من يقع على مؤلفاتهم من أساتذة الكليات ومدرسي المعاهد والمدارس، ومع أنهم جميعا يتسمون بالعلم والفضل والإنتاج، أو أنه يختص أولي الأثر البارز في توجيه الحركة العلمية والأدبية بالنقد والتمحيص؟ أكبر الظن أنه يتجه الوجهة الثانية دون نزاع، ولا يقبل أن يقلد السخاوي والمقريزي والسبكي وأبن حجر فيما صنعوه منذ عدة قرون!! ولعل اهتمامه الكبير بأن يجعل كتابه موسوعة حافلة ذات كتب وأجزاء، قد فعه إلى هذا الرصد والاستقصاء، وهو بعد يعلم مناهج البحث التاريخي وما طرأ عليه في العصر الحديث من ضوابط وقيود، ولن يحتاج إلى من ينبهه إلى ذلك، وفي الأبواب العامة التي يفتتح بها المواضيع الرئيسية لكتابه، ما يدل على إحاطته الشاملة بالتيار الفكري الحديث. . .
وقد خص أستاذنا الفاضل طائفة من أعلام الفقهاء بتراجم تحليلية مسهبة تحتل مكانا فسيحا من المجلد الثالث، وقد صاغها في نسق علمي دقيق، فهو يذكر المعالم البارزة في حياة من يترجم له، ويعرض شيوخه وتلاميذه وآراءه الفكرية والمذهبية، ثم يعنى بتحليل مؤلفاته، وعرضها عرضا يكشف عن ذخائرها الدفينة، ومكانتها المستترة، وبذلك استطاع أن يحلل طائفة من الكتب العلمية التي تعتبر بحق مصادر مستوفاة في الفقه واللغة والأدب والتاريخ، ولم يكتف بذلك بل أفسح المجال في المجلد الرابع لعرض مؤلفات أخرى لا تنقص عن سابقتها في شيء كوفيات الأعيان، وعجائب المقدور، والضوء اللامع، وبدائع الزهور، وكانت هذه الموسوعات العلمية في حاجة ماسة إلى من يتحدث عنها بإسهاب فيبين ما اشتملت عليه من معارف جزيلة النفع، ويكشف هما اهتز في غصونها من ثمار يانعة، وغرد على أفنانها من طيور صادحة، ولعل المؤلف بذلك يلفت الأذهان إلى ضرورة الاعتناء بإحياء هذه الكتب، وإخراجها للناس من جديد في نسق علمي يعتمد على المراجعة والتحقيق.
ومع أن الكاتب الجليل قد نقد بعض هذه المؤلفات نقدا علميا سليما ونبه إلى ما تجمعه من محاسن ونقائض، إلا أننا نلاحظ أنه يغمض العين عن بعض المآخذ الهامة، بل ريما تلمس لها من التصويب ما يتعذر التسليم به، وقد دفعه إلى ذلك هيامه بالعصر المملوكي، وموقفه منه موقف المدافع الذائد، وهو يصرح في مقدمة المجلد الثالث بأن النقد ليس غرضا أصيلا في تحليله وعرضه، وإنما يرسم صورة هادئة خالية من صخب النقد والحمد معا، كما يقول أنه يأمل أن يجد للنقد الصريح مجالا غير هذا المجال، وأنا لا أوافقه على هذا المسلك، فالفكرة العلمية لا تكون كاملة مستوفاة إلا إذا أخذت دورها الكامل في التمحيص الشامل، والنقد الدقيق.
وقد لاحظت أن الأستاذ قد كتب تراجم موجزة لبعض العلماء ثم أعادها بإسهاب مطيل، وهذا لا يكون إطلاقا في كتاب يحمل اسما واحدا، وكان الأجدر أن يترك المؤلف تراجمه الموجزة ويحيل القارئ إلى ما كتبه أو سيكتبه من التراجم المطنبة ذات العرض الشامل الفسيح، وهناك أمر ثان يتعلق بهذه التراجم الطويلة، فقد لاحظنا أن المؤلف قد أختار من الفقهاء عدد كبيرا كالنووي والعز بن عبد السلام وأبن تيمية وأبن القيم وزكريا الأنصاري، ومع الحظوة البالغة بالفقهاء فقد أغفل النحاة واللغويين فلم يكتب ترجمة مسهبة لرجل كابن منظور أو أبن هشام أو أبن مالك، وكان الأولى في التراجم التفصيلية أن توزع وفق العلوم المختلفة، فلا يطغى الفقهاء والمؤرخون على اللغوين والنحاة مثلا، فيكون في هذا التنويع تاريخ ضمني لجانب مختلف من العلوم، ولعل الأستاذ قد حاول ذلك، فتزاحمت لديه الشخصيات، وتقاتلت أمامه الأسماء، وصدق عليه قول القائل.
تكاثرت الظباء على خراش ... فما يدري خراش ما يصيد
محمد رجب البيومي