مجلة الرسالة/العدد 1006/الثورة فيها ريح النبوة
مجلة الرسالة/العدد 1006/الثورة فيها ريح النبوة
كل نبوَّة كانت ثورة. ومن أخص ما ميز ثورات النبوات أنها كانت للسلام العام والصلاح المطلق. فلا تجد نبينا دعا إلى عرض الدنيا، ولا رسولا سعى إلى سلطان الحكم. إنما كان الأنبياء والمرسلون جند الله، يعملون بوحيه، ويهتدون بهديه. عقيدتهم الحق، ودعوتهم الصدق، وعدَّتهم الصبر، ووجهتم الخير، وطريقتهم التضحية. فلما ختم الله رسالاتهم برسالة محمد كتب على نفسه الرحمة أن يرسل إلى الناس في كل حقبة مصلحا يؤدبه بأدب الأنبياء، ويجريه على منهاج الرسل، ليجدد ما درس من نهده، ويبيّن ما طمس من طريقه. وشأنه سبحانه في إعداد المصلحين كشأنه تعالى في إعداد النبيين، يصنعهم على عينه، ويطبعهم على دينه، حتى إذا ضعف سلطان العقل، واختل ميزان العدل، وعميت على الناي وجود الرشْد، أظهر هذا المصلح من بين رجال السيف في أكثر الحالات، لأنهم بحكم تنشئتهم أصحاب فداء ومضاء، وألاّ ف نظام وعمل، وأحلاف شرف مجد. يطلبون الحياة بالموت، ويرحضون الرجس بالدم، ويقرنون الرأي بالعزيمة. ولم تجتمع هذه الصفات لأحد قبل اللواء محمد نجيب وصحبه. وسر ذلك أنهم نشئوا في طبقة الفلاحين الكادحين فعرفوا كيف يكون الحرمان، وعملوا تحت إمرة المستكبرين المستهترين فعلموا كيف يكون الطغيان، وأضاءت قلوبهم النقية إشراقة من نور الله، فرأوا من تحت الظلام الكثيف المخيف عرش مصر يرتطم في الذر، وجيش مصر يضطرب في الفساد، وشعب مصر يتمرغ في الذل، فشبوا شبوب النار الهادئة تقتل المكروب ولا تحرق المريض، وهبُّوا هبوب الريح اللينة تدفع الشراع ولا تغرق المركب. ثم عالجوا أمر هذه الأمة بعلاج الرسول الكريم، فحطموا الأوثان كما حطم، وكرموا الإنسان كما كم، وأزالوا الفروق بين الناس كما أزال، وأدالوا الفقير من الغني كما أدال، وقيدوا الحق بالواجب كما قيد، وأيدوا الحجة بالسيف كما أيد. ثم أذاقوا الناس لأول مرة في تاريخ مصر نعمة الحرية والكرامة والمساواة، ثم ظلوا كما كانوا قانعين متواضعين، يظهرون في المجامع من غير أبهة، ويمشون في الشوارع من غير حرس، ويختلطون بالسواد من غير حرج. ثم لا يمدون أعينهم إلى نعيم، ولا يبسطون أيديهم إلى ثراء. فهل يجوز بعد أولئك كله أن يعيدونا إلى ثرثرة الأحزاب وسمسرة النواب ومهزلة الزعامة؟
لا يا سيد محمد نجيب! إن الله جعل في يديك أمانة هذه الأمة فلا تلق بها إلى من خانوها من قبل! إنك تريد (الاتحاد) وهم يريدون الفرقة.
وإنك تريد (النظام) وهم يريدون الفوضى. وإنك تريد (العمل) وهم
يريدون الكلام! فهل يستوي الوفي والغادر، أم هل يستوي البر
والفاجر؟
احمد حسن الزيات
الإسلام في موكب الإصلاح
الطلاق وتعدد الزوجات
للأستاذ محمد عبد الله السمان
انقرض العهد البائد إلى غير رجعة. وقد كان عقبة كأداء في سبيل أية حركة إصلاحية كان ينشدها أو يلوح بها المخلصون لهذا البلد، واصبح السبيل اليوم ممهدا لكل وثبة إصلاحية. بعد أو وهب الله لأمور هذا البلد ولاة تمتزج أحاسيسهم بأحاسيس الشعب. وعواطفهم بعواطفه؛ وترحب عقولهم بنزعات الإصلاح وبرامج المصلحين، وتستجيب قلوبهم لكل حركة إصلاحية من شأنها أن تنهض بالمجتمع وتسعده.
والذي لا شك فيه أن الإسلام الصحيح الذي رضيه الله لعباده دينا يرحب بالإصلاح ويبارك موكبه، لأنه دعوة إصلاحية شاملة تهدف إلى إقامة مجتمع نظيف مستقر على أسس متينة صالحة، وتسعى جادة إلى إسعاد البشرية قاطبة في هذا الوجود، ولسنا في حاجة إلى دليل بعد أن أوضح كتاب الله الهدف من الرسالة المحمدية حين قال: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) - وإن كان ثمة فريق من المسلمين مريض بالتزمت في غير فقه، وبالجهل في حمق وسفه، يأبى إلا أن يجعل من الإسلام عقبة في سبيل الإصلاح، فليس من الإنصاف أن يعتبر هذا الفريق حجة على الإسلام - وجهله المطبق مدعاة لتجريح إسلام، والنيل منه، والصد عن سلوك مناهجه والاستخفاف بها!
يدفعني إلى هذا التمهيد مشكلة الطلاق وتعدد الزوجات التي تظهر اليوم من جديد على المسرح، وقد نادى المصلحون من قبل بعلاجها، وكان المسئولون السابقون يصمون آذانهم عن هذا النداء متذرعين بالجبن، خشية أن يثير الإصلاح جيوش التزمت من رجال الدين وأدعياء الدفاع عن الإسلام - أما الآن فلا نظن أن حكومة الثورة تخشى في سبيل الإصلاح ثورة تلك الجيوش الراكدة، وقد أخذت المشكلة طريقها إلى الجد لعلاجها، وهنك في وزارة الشؤون الاجتماعية دراسات بشأنها، نرجو أن تظهر في القريب العاجل ثمراتها، مما يحقق لمجتمعنا الإصلاح الذي ينشده كل وطني يبغي الخير لوطنه.
والمشغولون بهذه المشكلة طوائف ثلاث: طائفة مغالية تنادي بتقييد الطلاق تقييدا صريحا حاسما، والقضاء على تشريع التعدد قضاء مبرما، وهذه الطائفة مسرفة إسرافا يجعلنا لا نسلم مطلقة بمشروعها، ولا نطمئن إلى تفكيرها، إلا إذا رضينا المهانة لشريعتنا وحاشا أن نرضاها لها، فما جاءت به هذه الشريعة الغراء من تشريعات لابد أن يكون في جميعه مصلحة البشر، وإلا كان البعض حشوا لا جدوى من وجوده. . وطائفة ثانية تشاطر الأولى الغلو والإسراف، فهي تأبى إلا أن يظل الطلاق وتعدد الزوجات مباحين مطلقين، حتى ولو أساء الجهلة استغلالهما، فأصبح ضررهما أكثر من نفعهما، وأرسينا بناء المجتمع على قواعد مضطربة متراقصة، ونحن أيضاً لا نقر هذه الطائفة على تزمتها لأنها بتفكيرها تحكم على الإسلام الجمود، ويسيء إلى شريعته التي لم تكن إلا لصالح البشر. . أما الطائفة الثالثة فمعتدلة متزنة، ناضرة الفكر، تعمل على أن تحقق للإصلاح حسن ظنه بالإسلام، وتثبت للعالم أن الإسلام يقر الإصلاح لأنه هدفه، ويتطور معه لأنه دين حنيف، يسر لا عسر، ومرن سهل لا جمود فيه ولا تعقيد، وهذه ترى إزاء فوضى أشياع الطلاق والتعدد - ألا يقدم جاهل على الطلاق إذا لم يكن هناك باعث عليه، ولا على تعدد الزوجات إلا إذا كانت هناك حاجة ماسة إليه، وبذلك يمكن وضع حد لاستخفاف المستخفين بشرعة الله عز وجل.
إن الإسلام يعتبر كلا من الطلاق وتعدد الزوجات رخصة فحسب، يأخذ بها ويأتيها المضطر، كالرخصة للجائع بتناول المحرمات متى لم يجد سواها. وقد جاء في سورة البقرة: (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه، إن الله غفور رحيم) كما جاء في آية أخرى من سورة المائدة: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، والمنخنقة والموقوذة. . . . فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم.) فإذا اضطر الإنسان إلى أن يفارق زوجه فارقها بالمعروف، وإذا كانت هناك حاجة ماسة تضطره إلى أن يعدد في الزواج عدد محققا العدالة بين أزواجه، والشرع لم يبح له الرخصة إلا ليخلصه من الحرج في حياته، ويضمن له العيش الهادئ المستقر.
والإسلام لم يجعل من الطلاق معولا لهدم كيان الأسرة، ولا سلاحا لتمزيق أواصر الزوجية، وهو الذي وضع للأسرة من التشريع ما يصون بناءها، وللزوجة ما يقوي رابطتها. وأنت إذا تدبرت بعض آيات القرآن الكريم وجدتها تقدس الرابطة الزوجية بوجه خاص، حين تشير إلى أن هناك امتزاجا بين الزوجين أزليا قديما منذ آدم وحواء. . وهذا الامتزاج سيحل بكل زوجين ليعتز كل منهما بالرابطة المقدسة التي ربطت بينهما، ويعمل على صونها من العبث الذي يطوح بها: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها. .) - (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها. . .) - (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.)
إذن فما كان الإسلام، وهذا شأنه - ليجعل من الطلاق معولا لهدم الأسرة، ولا سلاحا يشهره الجاهل والأحمق على رابطة الزوجية المقدسة كلما دفعه جهله وحمقه، ولكنه جعله أبغض الحلال إلى الله في قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق) ونهى عنه إلا من ريبة تحوم حول الزوجة في قوله عليه السلام: (لا تطلقوا النساء من ريبة، فإن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات.) والإسلام ليحرص على بناء الزوجية وضع كثيرا من العراقيل في سبيل الطلاق الذي يفرق بين الزوجين، فقد جعل الطلاق مرتين ليوجد فرصة للصلح، ودعا إلى تأليف حكمين من أهله وأهلها حين يدب الخلاف ليعملا على الصلح بينهما
وكما أن الإسلام رخص بالطلاق لضرورة تقتضيها مصلحة أحد الزوجين، أو كليهما، كذلك رخص للزوج بتعدد الأزواج لحاجة تقتضيها مصلحته هو، أو مصلحة المجتمع الذي يعيش فيه، فإذا انتفت الحاجة في الحالين لم يكن ثمة لزوم للرخصة، وإذا أسيء استغلال الرخصة فأثمرت الضر والضرار، كان هذا أدعى إلى أزالتها وألغاتها.
وحين يرى المصلحون اليوم وجوب إصدار تشريع يقضي بتحريم الطلاق إلا لضرورة تقتضيها المصلحة. لا يكونون بما يرون متجنين على الشريعة الإسلامية، وهم لا يرغبون إلا في أن تتدخل المحكمة أو ما إليها في مسألة الطلاق، حتى تقتضي على عبث العابثين وطيش الطائشين، والقرآن نفسه دعا إلى تأليف حكم من أهل الزوج وحكم من أهل زوجة إذا دب شقاق بينهما، ليتدخلا في الأمر حتى يصلحا بينهما (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) وذلك ليحول الحكمان بينهما وبين الضرار الذي قد يلحقهما، ومن حقهما أن يقرر الصلح إذا رأيا الخير فيه، أو الفراق لمنع الضرر والضرار. وقد كان رسول الله (ص) حكما في قضية حبيبة بنت سهل وزوجها ثابت بن قيس وفرق بينهما، كما كان حكما في قضية زينب بنت جحش زوجها زيد، وحثهما على التوافق حتى قضى الله أمرا كان مفعولا، وبعث عثمان بن عفان أبن عباس ومعاوية حكمين بين عقيل بن أبي طالب وزوجته فاطمة بنت عتبة، وقال لهما: (عليكما إن رأيتما أن تفرقا بينهما فرقتما، وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما. . .)
وحين يرى المصلحون أيضاً وجوب إصدار تشريع يقضي بتقييد الرجل بزوجة واحدة، إلا إذا كانت هناك حاجة ماسة، لا يكونون بما يرون متجنبين على الإسلام، لأن الإسلام قصد بهذه الرخصة مصلحة الفرد أو المجتمع، فإذا لم تتحقق المصلحة لم يكن هناك داع إلى إتيان هذه الرخصة، ولا يعتبر هؤلاء المصلحون بما يرون داعين إلى هدم شرائع الله عز وجل، فقد نهى رسول الله (ص) أن تقطع الأيدي في الغزو، خشية أن يترتب على إقامة الحد ما هو أبغض إلى الله من تعطيله، ولم يكن رسول الله (ص) هادما لشريعة الله بالطبع، وقد أوقف عمر حد السرقة في عام المجاعة، وحذف سهم المؤلفة قلوبهم من الصدقات وهو ثابت لهم في كتاب الله، ولم يكن عمر في هذين الإجراءين هادما لشرع الله، وهو يبغي إزالة الضرر والضرار أو تحقيق المصلحة العامة، بل إن عمر لما رأى الناس يسرفون إسرافا بغيضا في النطق بالطلاق الثلاث في لفظة واحد، مطمئنين إلى أنه لن يقع إلا طلاقا واحدا، كما كان على عهد الرسول وأبي بكر - أمضاه ثلاث طلقات حتى يرتدع الناس ويتحرجوا، ولم يكن هادما لشرع الله وهو يبغي الحد من الإسراف في الطلاق، وقال في هذا: (إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم؟) ثم أمضاه
إن الجهلة قد استغلوا رخصتي الطلاق والتعدد أسوأ استغلال حتى شوهوا شريعة الله، فوجب أن تحرما عليهم كما يحرم على السفهاء استغلال أموالهم، وأسهموا بأكبر قسط في اضطراب المجتمع بوثيقة من الإسلام زوروها بجهلهم وسفههم وحمقهم، فوجب أن تنتزع من أيديهم - إن طوعا وإن كرها - حتى يعود للمجتمع استقراره من جديد، فلم يكن الطلاق في الإسلام وسيلة من وسائل الهدم - ولكنه إجراء محظور يلجأ إليه المضطر ولا يمنح الجاهل والسفيه، وقد قال أبن عابدين من فقهاء الحنفية: (وأما الطلاق فالأصل فيه الحظر - أي الحرمة - والإباحة لحاجة إلى الخلاص، فإذا كان بلا سبب أصلا لم يكن فيه حاجة إلى الخلاص، بل يكون حمقا وسفاهة رأي، ومجرد كفران للنعمة) ولم يكن المقصود من إباحة التعدد أن يكون ذريعة إلى الإخلال بالمجتمع، ولا فرصة للجاهل والسفيه يلهوان ويعبثان، إنما المقصود منه أن يحقق مصلحة الفرد أو المجتمع، فإذا انقلبت الأوضاع بإساءة استغلال الإباحة، كان لزاما على ولاة الأمور أن يصونوا رخصة التعدد حتى يصونوا شريعة الله عز وجل. وللإمام محمد عبده كلام في هذا الصدد، فبعد أن عدد المآسي الناتجة من فوضى التعدد، قال:
(أما الأمر على ما نرى ونسمع فلا سبيل إلى تربية أمة مع فشو تعدد الزوجات فيها، فيجب على العلماء النظر في هذه المسألة خصوصا الحنفية منهم الذي يبدهم الأمر وعلى مذهبهم الحكم، فهم لا ينظرون أن الدين أنزل لمصلحة الناس وخيرهم، وأن من أصوله منع الضرر والضرار، فإذا ترتب على شيء مفسدة في زمن لم تكن تلحقه فيها قبله، فلا شك في وجوب تغير الحكم وتطبيقه على الحالة الحاضرة: يعني على قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. .) اهـ من تفسير المنار جـ3
وبعد - فإن الإسلام الصحيح ليساير الإصلاح حيثما حل، وفي استطاعة علمائه ذوي الأفكار الناضرة أن يجعلوا الإسلام يتزعم الإصلاح ويقود موكبه، ونحن اليوم في الطريق إلى تكوين مجتمع نظيف سليم مستقر ينعم بحياته وتعتز بها، ويفخر به الإسلام لأنه ثمرة من ثمرات تربيته وتنشئته وتوجيهه!
محمد عبد الله السمان