انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 1004/عبد الله بن الحسين وعباس الثاني

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 1004/عبد الله بن الحسين وعباس الثاني

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 09 - 1952



للأستاذ أحمد رمزي

بقية من نشر في العدد 948 - 2 سبتمبر 1951

كتب عبد الله بن الحسين مذكراته وطبعها في لندن وجاء في نسخة بالإنجليزية وقعت ليدي، اطلعت فيها على الفصل العاشر المسمى (الحرب)، وكانت إحدى المجلات الأسبوعية قد نشرت قسماً منه في مصر نقلاً عن الصفحة 128 جاء فيه (لقد زارني الخديو عباس في عمان وكان ذلك إبان حكم الملك فؤاد الأول لمصر وقال لي الخديو (هذا هو القدر وأنا غير نادم على شيء، لقد تعبت بعد أن حكمت 25 سنة كاملة وأن عمي الملك فؤاد الذي يحكم مصر الآن يعاني ما كنت أعانيه - إن من الصعب أن ترضي شعبنا - الشعب المصري - ومن الصعب أن ينتهي الاحتلال البريطاني لأن الإنجليز أقوى منا بحيث لا نستطيع طردهم) ثم قال لي الخديو بصوت حزين (إن الشيء الوحيد الذي أنا آسف عليه فعلاً هو أني أعيش بعيدا عن البلاد الإسلامية فلا أستطيع أن أرى مآذن المساجد أو أسمع الأذان للصلاة منبعثا منها، إني أخاف أن أموت بعيدا عنها وأن أدفن في أرض غريبة

ولما اطلعت في الأصل الإنجليزي على هذه الفقرة بالذات عادت إلي ذكريات الحوادث والأيام التي عشتها بمدينة القدس بين سنة 1935، 1937 فقد حضرت طرفاً من هذا الموضوع الذي أثاره عبد الله بن الحسين وكان لي معه حديث فيه، كما أنني دعيت إلى حفلة أقامها الخديو السابق، ولما استأذنت الحكومة في حضورها جاءتني برقية غريبة تقول بادعاء المرض والتزام الفراش في نفس الوقت الذي كنت مقيما فيه بالفندق الذي نزل فيه الخديو السابق

إن حوادث هذه الأيام تقع في شهر يناير سنة 1936 ومقابلة الخديو عباس مع بعد الله بن الحسين تقع في شهر رمضان، أما الدعوة إلى حضور مأدبة الخديو السابق فقد كان محددا لها يوم 19 فبراير سنة 1936

ولشرح ما جاء في تلك الأيام عدت إلى مذكراتي في تلك الفترة بالذات التي حضر فيها الخديو السابق إلى مدينة القدس ونزل في فندق الملك داود (كنج دافيد) وقام زيارة القنصلية المصرية وطلب إلي بعد تقديم القوة له أن يرى المكاتب وطريقة العمل فيها. فرافقته في زيارته وقدمت إليه الموظفين، واحداً واحداً، وكان السرور باديا على وجهه لأن بعد سنوات طويلة اتصل لأول مرة بعد اعتزاله الحكم بمكتب مصري رسمي تابع للحكومة المصرية التي بقي على رأسها اثنين وعشرين عاماً

وقد لاحظت بعد وصوله كثرة عدد الرواد المصريين في فلسطين ولكل منهم وجهته الخاصة وكانت آمالهم تتجه إلى تنسم أخباره، وكان من بينهم من يعرف جيداً كيف يستغلون الخديو السابق ويحصلون على أمواله، وكان منهم من أتقن طريقة استغلال مصر لمنفعتهم والقيام برحلات على حساب المصاريف السرية للتمتع بؤرية فلسطين

وكانوا يحضرون إلى القنصلية للتحية، ويكفي الحديث معهم عدة دقائق لتفهم الوضع الصحيح لعواطفهم واتجاهاتهم، فقد زارني كثيرون من رجال السياسة والأعيان وأهل الرأي ورجال الصحافة. اذكر من ذلك تصريح أحد الصحفيين المعروفين الأب بقوله لي (إن إحدى الجرائد المصرية المشهورة لم تكن على وفاق تام مع السراي الملكية، وأنه وفق بناء على جهوده إلى إزالة هذا البرود وذلك حينما اقنع صاحب هذه الجريدة بأن يطبع عدداً ممتازاً خاصاً بأعمال فؤاد الأول في المدة التي حكم فيها) صرح بهذا لي في الوقت الذي كان دائم الاتصال بالخديو السابق ويعمل لحسابه. . .

وكان عباس حلمي الثاني يتبع نظاماً خاصاً للأكل، ولذا اعتاد الحضور إلى الفندق في الساعة السابعة مساء لتناول العشاء، وكان ينتهي نته في الساعة الثامنة وهو الوقت الذي أدخل فيه قاعة الطعام. فكان يتفضل بتحيتي ويدعوني للجلوس معه في ردهة الفندق وهناك يجتمع حوله الزوار المصريون فتأتيه أنباء المفاوضات القائمة بمصر بقصر الزعفران وما تم في الجلسات من المناقشات وما تبودل من الرأي فيها، وكان يعلق على ذلك جميعه بأسلوب الرجل المتمكن فهمه لتطور سياسة بلاده وعلاقتها يتطور السياسة العالمية

وفي بعض الأحيان كان يحضر المجلس المرحوم سليمان فوزي فيحدث كيف كان أحد الذي ضربوا بالمسجد الأقصى عند اجتماع المؤتمر الإسلامي الذي عقد هناك فأثار ضحك المجلس بأسلوبه الفكه النادر

وفي ليلة من الليالي بعد انصراف الخديو السابق التفت إلى أحد المشتغلين بالسياسة في مصر ووجه حديثه إلى قائلا (لا تنسه يا رمزي في تقاريرك التي سترسلها حتما عما دار في هذه الجلسة من أحاديثنا) وهنا جمد الدم في عروقي ورددت عليه بقولي: (إن لحكومة مصر ألف وسيلة لكي تعلم ما دار في هذا المجلس من الأحاديث وهي لا شك ستعلم ما دار هنا، أما أنا فلا أجد فيها من الأهمية والخطورة ما يصح أن تعلق مصر أهمية عليه؛ ولكني أذكر جيداً كيف اجتمع البعض في تركيا وقابلوا الخديو الذي كان جالسا معنا منذ لحظة: وحينما انصرف وانفض الجمع بادر كل واحد لتقديم تقرير هزيل عما تم في هذه المقابلة وما تحدث به إخوانه وأصحابه) واستأذنت للذهاب إلى حجرتي

وإني لأعجب لهؤلاء الذين يملأهم الغرور، ويدعون العلم بالسياسة وستظاهرون بانتقاء الأخبار والتقرب زلفى إلى ذوي السلطان، ويتنقلون بين مختلف الأحزاب والهيئات، كيف كانوا يعيشون ويحملون في وقت دائم الحركة والعمل والإنشاء

وقد ملأ الأسى نفسي لما فكرت في هؤلاء النكرات وأنا أقلب صفحات مذكراتي عن تلك الأيام فوقع نظري على ما كتبته في يوم 4 فبراير 1936

(حضر إلي إدوارد صمويل نجل هربرت صمويل المندوب البريطاني الأسبق في فلسطين، وهو يشعل وظيفة وكيل مصلحة المهاجرة بحكومة الانتداب. . . فقال لي

(إن الصحافة المصرية تصل بانتظام كل يوم إلى فلسطين أي في اليوم الذي تصدر فيه بالقاهرة، ولها تأثير غريب في عقلية أهل البلاد العرب فهي تلهب حماسهم وتجعلهم يفتحون أنظارهم كل صباح على أحوال العالم الخارجية والاتصال بتطورها)، وقال (إنه علم بأن الوزارة المصرية الجديدة أقدر من سابقتها على فهم مركز مصر الدولي)

ثم أردف بقوله: (إن مركز قنصلية مصر هنا هام لكثرة المصريين المهاجرين إلى فلسطين ولكثرة أعمالها واتصالها بالهيئات الرسمية وغير الرسمية (يقصد الوكالة اليهودية والهيئات العربية) ولكن حكومة مصر لا ترسل إلى هذا المكان إلا من كان مغضوبا عليه في بلاده) وهنا قاطعته وقلت (أنت مخطئ في هذه الناحية لأنني كنا أشغل وظيفة أقل من هذه ثم رقيت إليها) قال: (أقصد أن حكومة مصر لا تقدر هذا المركز تماماً ولا تعلق عليه ما يستحق من أهمية. وقد سمعت من الكثيرين من رجالكم الرسميين وغيرهم من أن القناصل المتقدمين في السن والذين لا يصلحون في شيء هم الذين يرسلون إلى القدس) ثم صرح بما يأتي (إن شرق الأردن تحسد فلسطين على حالة الرواج فيها، وأهل فلسطين يحسدون مصر لأنها بلاد من أغنى بلاد الأرض وبشكل لا يتصوره أحد منكم. ويظهر أن الحكومة المصرية ورجالها الرسميين لا يقدرون هذا وكانت كلمته بالإنجليزية)

ففي الوقت الذي يتحدث فيه ابن هربرت صمويل وهو بريطاني يهودي عن هذه الأمور الهامة التي ذكرتها وعن إمكانيات مصر التي لا يمكن تحديدها من ناحية الثروة والانتعاش والتنمية الاقتصادية ويظهر قلقه من أثر الصحافة المصرية في نهضة الشعوب العربية كان جماعاتنا من المصرين يفكرون في نقل حديث عن بعضهم أو يظهرون أهميتهم في التقريب بين صحيفة يومية ورجال الحاشية بإخراج عدد ممتاز من أعمال الملك السابق فؤاد الأول

في غمرات هذه الحوادث تلقيت الدعوة التي أشرت إليها لحضور المأدبة التي أقامها الخديو السابق في فندق أريحا ودعا إليها المندوب السامي البريطاني وبعد الله بن الحسين وطائفة من رجال حكومة الانتداب وحكومة شرق الأردن، ولا شك في أن حضور ممثل ممصر في تلك المأدبة كان لازماً إن لم يكن لإعطاء صورة واضحة عما دار في تلك المأدبة فعلى الأقل لإظهار أن ما تم الاتفاق عليه بين العرش الخديو السابق كان جدياً ولا أثر لبقاء أي اختلاف بين الجالس على العرش وابن أخيه

ولكن تلقيت رداً على برقيتي التي أرسلتها إلى الخارجية أدهشني غاية الدهشة، وهو الذي يقول (الزم حجرتك وادع المرض)؛ وكان عبد الله البشرى في معية الخديو السابق، يتصل بي كل يوم لمعرفة رأيي في قبول الدعوة أو رفضها. فلما علمتا بمضمون هذه البرقية الرمزية لم أجد مناصاً من اعتذار، ولكن الأسلوب الذي فرض عليّ أن أعتذر به لم يقنعني. . وفي صباح اليوم التالي وهو يوم 18 فبراير نشرت الصحف خبر زوبعة ترتب عليها فقدان عدد من مراكب الصيد المصرية على شواطئ فلسطين، وأن بعض البحارة وصل إلى الموانئ في غزة ويافا؛ فانتهزت فرصة هذا النبأ، واتخذته مبرراً لتغيبي عن القدس واعتذاري عن قبولي دعوة الخديو السابق. وكنت تلقيت في نفس اليوم دعوة من راغب النشاشيبي عن حفلة شاي أقامها في منزله للخديو السابق؛ فبدأت بالاعتذار عنها لاضطراري للسفر ثم اعتذرت عن مأدبة الخديو السابق في اليوم التالي

ونشرت صحف يافا خبر وصولي لتتبع حوادث مراكب الصيد المصرية التي تعرضت للخطر بعد الزوبعة التي هبت في البحر الأبيض المتوسط؛ وفعلا ذهبت إلى يافا وتنقلت منها إلى غزة وما حولها

وبعد ثلاثة أيام عدت إلى مدينة القدس. ولما قابلني الخديو السابق ابتسم، فقد كان يعلم عن أساليب الحكومة المصرية في أيامه وبعد عهده أكثر مما أعلم، وإن كان أقرني على الطريقة التي اتبعتها

كان اتصالي بحكومة شرق الأردن دائماً وباستمرار؛ ولما اقترب شهر رمضان وكنت في ذلك الوقت أتم صيامه كاملاً سواء كنت في الشرق أو في الغرب، رأيت من واجبي أن أذهب إلى عمان وأهنئ عبد الله بن الحسين بحلول هذا الشهر المبارك وأعلمه بأنني سأقضيه في مدنية القدس، ولن أحضر لزيارته قبل حلول عيد الفطر لأقوم بواجب التبريك

قمت مبكراً على نية قضاء ليلة بعمان، أرتب فيها مواعداً للمقابلة ثم أعود في اليوم الثاني، وكانت دهشتي عظيمة حينما دخلت حجرتي فأعلمت بأن الشريف جميل ناصر رئيس الديوان والسيد الخطيب مستشار الأمير ينتظرانني بحجرة الاستقبال، فنزلت لمقابلتهما حيث أخبرني الأول بأن الأمير يدعوني لتناول الغداء معه، وأنه في شدة الاشتياق لرؤيتي ولا يقبل أي اعتذار للتخلف عن هذه الدعوة. فطلبت منهما إمهالي لتغيير ملابسي ثم ذهبن برفقتهما إلى قصر الإمارة، حيث استقبلت استقبالاً كما يقول الأتراك (فوق العادة) ورافقني في الدخول إلى الأمير ضابط مصري اسمه خاطر، كان يعمل في الجيش الأردني، التحق به بعد ترك خدمة الجيش المصري في السودان وحضر هذه المأدبة الأمراء أنجال عبد الله بن الحسين، والشريف جميل ناصر والد الملكة زين ومستشار الأمير وغيرهم، ولم يدر في المأدبة حديث خاص، وعند انتهائها أخذني عبد الله بن الحسين، فسرت برفقته إلى حجرة الاستقبال الكبرى حيث أجلسني على يمينه وأقفلت الأبواب وراءنا

قال بلهجته العربية الحجازية (إنه جد حريص إلى علاقات المودة والصداقة التي تربطه بالعائلة المالكة في مصر، وعلى رأسها فؤاد الأول وهو لا ينسى ما غمره به محمد علي مؤسسها من الإنعام على عائلة الشريف بما مقداره خمسة آلاف فدان من أراضي مصر وهو في تصرفاته وأعماله يرغب رغبة أكيدة في أن يكون محل رضا الجالس على عرش مصر. . .)

(بل هو يؤمل في ألا تفسر دعوته الخديو السابق إلى عمان تفسيراً يسئ إلى العلاقات القائمة بين البيتين العلوي والهاشمي؛ وأما الخديو السابق فرجل قد انتهت أطماعه، ولم يعد يرغب في شيء من مظاهر هذه الدنيا، وأنه أبدى لعبد الله بن الحسين رغبته في أن يرى بلد إسلاميا في شهر رمضان، بعد أن أمضى السنوات الطوال بعيداً عما تعود أن يراه في شهر رمضان من سماع الأذان والدعوة إلى الإفطار، وفرح الشعب بحلول شهر الصوم، ولذلك دعاه عبد الله بن الحسين إلى تناول طعام الإفطار لديه، وليس في ذلك أية رغبة لإحراج مصر وحكومتها، وإنما هو أداء لواجب صداقة وعلاقة قديمة)

ولقد دهشت لكل ما سلف، فأنا لا أعلم بهذه الدعوة، ولم أحضر للاحتجاج عليها، ولا أدري ماذا دار في خلد عبد الله ابن الحسين ولا في خلد الخديو السابق، ولا في فكر رجال الانتداب البريطانيين في فلسطين وشرق الأردن، وإنما جئت مهنئا بحلول شهر الصوم، جئت مهنئا الجالس على عرش شرق الأردن بحلول هذا الشهر المبارك، ولم أجد شيئاً أقوله سوى أن صارحته بما جئت من أجله، وأكدت عليه أنني لا أعلم شيئا، ولا أدري هل صدقني عبد الله بن الحسين في ذلك أم اعتبر مصارحتي له نوعاً من السياسة الملتوية والدبلوماسية الشرقية التي اعتاد عليها رجال الشرق في مواجهتهم الأمور واهتمامهم بالصغائر

والحقيقة التي أعلمها عن عبد الله بن الحسين رحمه الله، وعن المرحوم عباس الثاني، إنهما كغيرهما ممن أسندت إليهم الشؤون العامة والسيطرة على أجزاء من أقطار الشرق، يتلهفون لمعرفة أخبار الناس وتتبعها؛ وأذكر على سبيل المثال اليوم الذي جاء فيه أحد رجال سوريا الذين تنقلت بهم الأيام بين خدمة عبد الله بن الحسين والحكومة السعودية وقبل ذلك حكومة سوريا، وكيف تقرب من مجلس الأمير بمجموعة من الأخبار التي أتى بها من الحجاز عن أنباء الملك أبن السعود وتصرفات الأمراء أبنائه

وأذكر جلسة مع عبد الله بن الحسين، والتليفون لا ينقطع ينقل أخبار سيارة المندوب البريطاني بين جسر بنات يعقوب وأربد واتجاهها إلى جسر المجامع. .

إن اهتمام رجال الحكم في الشرق بتتبع أخبار بعضهم بعضاً في الوقت الذي كانت الوكالة اليهودية تنشئ وطناً قومياً على أسس ثابتة، أمر أصبح الآن ظاهراً واضحاً للعيان. .

إن الحياة كانت تدب في فلسطين تحت معول الحضارة الحديثة بينما كنا نحن نغط في نوم عميق وسبات لا نهاية له، حتى تنبه الشرق تحت ضربات النكبات والهزائم والأرزاء

أحمد رمزي

المدير العام لمصلحة الاقتصاد الدولي